يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ
(6)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} ذلك لأنَّهم خَرَجُوا للقافلةِ، ولم يَأْخُذوا أُهْبَةَ الحَرْبِ، فلمَّا أُمِرُوا بحَرْبِ جيش قريشٍ القويِّ، كثيرِ العَدَدِ والعُدَّةِ، المُدَجَّجِ بالسِلاحِ، شَقَّ ذَلِك عَليهم، فَطَلَبُوا الرُّخْصَةَ في تَرْكِ القِتالِ، فهُوَ سَبَبُ جِدالهم "بعدَ ما تَبَيّن" لهم أَنَّهم مُنْتَصرون أَيْنَما تَوَجَّهوا، بإعْلامِ الرَسُولِ الكريمِ لهم، لكنَّ الطَبْعَ البَشَرِيَّ يَنْزِعُ إلى مَواطِنِ السَلامَةِ.
وقولُه: {بعْدَ ما تبيّنَ} لَوْمٌ لهم على المُجادَلَةِ في الخُروجِ الخاصِّ، وهُوَ الخُروجُ للنَفيرِ وتَرْكُ العِيرِ، بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ لهم أَنَّ اللهَ قدَّرَ لهم النَصْرَ، وهذا التَبَيُّنُ هُوَ بَيِّنٌ في ذاتِهِ سَواءً شَعَرَ بِهِ كُلُّهم أَوْ بَعْضُهُم، فإنَّهُ بحيثُ لا يَنْبَغي الاخْتلافَ فيهِ، فقد كانوا عَرَباً أَذْكِياءَ، وكانوا مؤمنين أَصْفياءَ، وقد أَخْبَرَهُمُ النبيُّ ـ صلّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّ اللهَ ناصِرُهُمْ عَلى إِحْدى الطائفتَين: طائفةِ العِِيرِ أَوْ طائفةِ النَفيرِ، بإخبارِ جِبريلَ لَهُ كَما تَقَدَّمَ بَيانُه في تفسيرِ الآية السابقة. فنَصرُهم إذاً مَضْمونٌ، ثمَّ أَخْبَرَهمْ بِأَنَّ العيرَ قد أَخْطَأَتْهم، وما بقيَ غيرُ النَفيرِ، فكان بَيِّناً أَنَّهم إذا لَقُوا النَفيرَ يَنْصُرُهُمُ اللهُ عَلَيْهِ، ثمَّ رَأَوْا كَراهَةَ النَبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم، لمّا اختاروا العير، فكان ذلك كافياً في اليَقينِ بِأَنهم إذا لَقُوا المُشْركين يَنْتَصرونَ عَلَيْهِمْ لا مَحالَةَ، ولكنَّهم فَضَّلوا غَنيمةَ العِيرِ على خَضْدِ شَوْكَةِ أَعْدائهم، ونُهُوضِ شَوْكَتِهم بِنَصْرِ بَدْرٍ، فذلك معنى تَبَيُّنِ الحقِّ، أَيْ: رَجَحانِ دَليلِهِ في ذاتِهِ، ومَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ هذا التَبَيُّنُ مِنَ المُؤْمنينَ لم يَعْذُرْهُ اللهُ في خَفائِهِ عَلَيْهِ.
قولُهُ: {كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون} أَيْ: يَكرَهون القتالَ كراهِيَةَ مَنْ يُساقُ إلى الموت، وهو يُشاهِدُ أسْبابَهُ، وفيه إيماءٌ إلى أَنَّ مُجادَلَتَهم كانت لِفَرْطِ فَزَعَهم ورُعْبِهم، لأنهم كانوا ثلاثَ مَئََةٍ وثلاثة عشر، أوْ تِسْعَةَ عَشَرَ رجلاً في قولٍ، فيهم فارسان المِقْدادُ بْنُ الأَسْوَدِ. والزُبَيْرُ بْنُ العَوَّام. و "يُسَاقُونَ" أيْ أنهم غير مُنْجِزينَ للسَيرِ بأنفُسهم. بَلْ هُمْ مَدْفوعُونَ إلَيْهِ دَفْعاً، وهُم يَنظُرونَ بَشاعَةَ المَوْتِ، لأنَّهم تَصَوَّرُوا أَنَّ مُواجَهَتَهم لأَلْفِ فتى مِنْ مُقاتِلي قُرَيْشٍ مَسْألَةٌ صَعْبَةٌ، فألفٌ أَمامَ ثلاثمِئةٍ مَسأَلَةٌ لَيْسَتْ هَيِّنَةً؛ إذ سيكونُ على الرجلِ منهم أَنْ يُواجِهَ ثلاثةً مَعَهُمُ العُدَّةُ والعَتَادُ، فكأنت الصورةُ التي تمثَلتْ لهم صورةً مفزعةً، لكنَّهم حينَما نَظَروا هذه النَظْرَةَ لم يَلْتَفِتُوا إلى أَنَ معَهم رَبّاً يَنْصُرهُم على هؤلاءٍ جميعاً.
وقال: "وهم ينظرون" لأنَّ حالةَ الخوفِ مِنَ الشَيْءِ المَخُوفِ إذا كانَ مَنْظوراً إليْهِ تَكونُ أَشَدَّ مِنْها لو كان يَعْلَمُ أَنَّهُ يُساقُ إليْهِ ولا يَراه، لأنَّ للحِسِّ مِنَ التَأْثيرِ على الإدراكِ ما ليسَ لمُجَرَّدِ التَعَقُلِ والتخيُّلِ، وقريبٌ مِنْ هذا المَعنى قولُ جَعفَر بْنِ عُلْبَةَ:
وما يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إلاَّ ابْنُ حُرَّةٍ ........ يَرَى غَمَراتِ الموتِ ثم يَزورُها
وفي عَكْسِهِ في المَسَرَةِ قولُهُ تعالى في سورة البقرة: {وأغرقنا آل فرعون وأَنتُم تَنْظُرونَ} الآيَة: 50.
والمُرادُ بالموتِ الحالةُ المُضادَّةُ للحياةِ، وهو معنى تَكْرَهُهُ نُفوسُ البشرِ، ويُصَوِّرُهُ كلُّ عَقْلٍ بما يَتَخَيَّلُه مِنَ الفَظاعَةِ والبَشاعَةِ كما تَصَوَّرَهُ أَبو ذُؤيبٍ الهذلي في صورة سَبُعٍ بقولِه:
وإذا المنيَّةُ أنشبتْ أظفارَها .................. ألفيتُ كلَّ تميمةٍ لا تنفَعُ
وكما تخيل، تأبَّطَ شَرّاً الموتَ طامِعاً في اغْتِيالِهِ فنََجا مِنْهُ حينَ حاصَرَهُ أَعداؤه في جُحْرٍ في جَبَلٍ:
فَخَالطَ سَهْلَ الأرض لم يكدح الصفا ... به كَدْحةً والموتُ خزيانُ يَنظر
وقد كان ذلك مِنَ المُسْلِمينَ لِقِلَّةِ عَدَدِهم حِينَها وعدَمِ تَأَهُّبِهم، إذْ رُوِيَ أَنهم كانوا مشاةً، وما كان فيهم إلاَّ فارسان. وذلكَ أَنَّ رَسولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ، لم يخرج بقصدِ الجِهادِ، وإنما لملاقاة عِيرِ قُرَيْش، لمّا سمِعَ أَنها قَدِمَتْ مِنَ الشّام، وفيها تجارةٌ عَظيِمةٌ، ومعها أربعُون رَاكباً، فيهم أَبُو سُفْيان، وعَمْرو بنُ العاص، ومَخْرَفةُ بْنُ نَوْفَلٍ، فأرادَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّم، أنْ يتعرَّضَ لها ويَأْخُذُها غَنيمَةً، في مقابل ما أخذت قريش من أموال المسلمين التي تركوها في مكَّةَ عندما أرغموا على الهجرة منها، حيثُ أَخبرَهُ جِبريلُ بِقُدومِ القافلة مِنَ الشامِ، فأَخْبرَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم، المسلمين، فأعْجَبَهُم تَلَقّيها، لِكَثْرَةِ المالِ وقِلَّةِ الرِجالِ، فلمّا خَرَجُوا، بَلَغَ الخبرُ أَبا سُفيان، فَسَلَكَ بالعيرِ طَريقَ السَاحِلِ، واسْتَأْجَرَ مَنْ يَذْهَبُ إلى مَكَّةَ يَسْتَنْفِرُها، فلمّا بَلَغَ ذلك قريشاً، نادى أَبو جَهْلٍ فوقَ الكَعْبَةِ: يا أَهْلَ مَكَّّةَ، النَّجَاءَ، النَجاءَ على كُلِّ صَعْبٍ وذَلُولٍ، عِيرُكُمْ وأَمْوالكم إنّْ أَصَابَهَا مُحَمَّدٌ لَنْ تُفْلِحُوا بَعْدَها أَبَداً.
وكانت عاتكةُ بنتُ عبدِ المُطَلِبِ قَدْ رَأَتْ، قَبْلَ ذَلكَ بِثلاثِ لَيالٍ، رُؤْيا؛ بِأَنَّ رَجُلاً تمثَّلَ على جَبَلِ قُبَيْسِ فَنادى: يا آلَ لُكَع، اخْرُجوا إلى مَصارِعِكم، ثمَّ تَمَثَّلَ عَلى الكَعْبَةِ، فنَادى مِثْلَ ذلك، ثمَّ أَخَذَ حَجَراً فَضَرَبَ بِهِ، فلمْ يَبْقَ بَيْتٌ في مَكَّةَ إلاَّ دَخَلَه شَيْءٌ مِنْ ذلك الحَجَرِ، فحَدَّثَتْ بها أخاها العَبَّاسَ، وبَلَغَ ذلك أَبَا جَهْلٍ، فقالَ: أَمَا تَرْضَى رِجالُهُم أَنْ يَتَنَبَّؤوا حَتى تَتَنَبَّأَ نِساؤهم؟ لِنَتَرَبَّصْ ثَلاثاً، فإنْ لمْ يَظْهَرْ ما تَقولُ لَنَكْتُبَنَّ عَلَيكُمْ يا بَني هاشِم أَنَّكُمْ أَكْذَبُ بَيْتٍ في العَرَبِ، فلمَّا مَضَتْ ثلاثُ ليالٍ جاءَ رَسُولُ أَبي سُفْيانَ ضَمْضَم بْنُ عَمْروٍ الغِفاريُّ إلى مكَّةَ يَسْتَنْفِرُ أهلها. فخَرَجَ أَبو جَهْلٍ بِجُموعِ أَهْلِ مَكَّةَ، ومَضى بهم إلى بَدْرٍ، وهو ماءٌ كانَتِ العَرَبُ تَجْتَمِعُ عَليْهِ لِسُوقِهمْ يَوْماً في السَنَةِ، وكانَ رََسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْه وسَلَّمَ، بِوادي ذَفِرانَ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْريلُ بالوَعْدِ بإحْدى الطائِفَتَيْنِ: إمَّا العِيرُ وإمَّا قُرَيْش.
قولُهُ تَعالى: {يُجَادِلُونَكَ} اسْتِئنَافٌ أخْبَرَ عَنْ حالهم بالمجادلةِ. ويُحتَمَلُ أَنْ يَكونَ حالاً ثانيةً، أَيْ: أَخْرَجَكَ في حالِ مجادَلَتِهم إيَّاكَ. ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ حالاً مِنَ الضَميرِ في "لَكَارِهُون" أَيْ: لَكارِهونَ في حالِ جِدالٍ. والظاهرُ أَنَّ الضميرَ المَرْفوعَ يَعودُ على الفريقِ المُتَقَدِّمِ. وصِيغَةُ المَضارِعِ لحِكايَةِ حالِ المُجادَلَةِ زِيادَةً في التَعْجِيبِ مِنْها، وهذا التَعْجيبُ كالذي في قولِهِ تَعالى: {يجادلنا} حكايةً عن إبراهيمَ ـ عليه السلامُ، بقولِهِ في سورة هود: {فلمّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيمَ الرَّوْعُ وجاءتْهُ البُشْرى يُجادِلُنا في قومٍ لُوطٍ} الآية: 74. فقال "يجادِلُنا" ولم يَقُلْ: "جادَلَنا".
قوله: {بعدما تبيَّن} مَنصوبٌ بالجِدالِ و "ما" مصدريَّةٌ، أَيْ: بعد تبيُّنِه ووضوحِه، وهو أقبحُ مِنَ الجِدالِ في الشَيْءِ قَبْلَ اتِّضاحِهِ.
قولُهُ: {وَهُمْ يَنظُرُونَ} حالٌ مِنْ مَفْعُولِ "يُساقُون". ومَفْعولُ "ينظرون" محذوفٌ دَلَّ عليه قولُهُ: "إلى الموت" أيْ: وَهُمْ يَنْظُرونَ الموْتَ.
قرأ الجمهورُ: {تَبَيَّنَ}، وقرأَ عبدُ اللهِ "بُيِّنَ" مَبنِياً للمَفعولِ مِنْ بَيَّنْتُه أَيْ أَظْهَرْتُه.