وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ
(202)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَإِخْوَانُهُمْ} وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ مِنَ الكُفَّارِ، وَهُمُ الجَاهِلُونَ الذِينَ لاَ يَتَّقُونَ اللهَ، والغافلون عن ربَّهم، والإخوانُ جمعُ أخٍ على وزْنِ "فَعْلان" مثلُ جمعِ "خَرْبٍ" وهو ذَكَرُ الحَبارَى على "خِرْبانٍ". وحَقيقةُ الأَخِ المُشارِكُ في بُنُوَّةِ الأُمِّ والأَبِ أو في بُنُوَّةِ أَحَدِهِما، ويُطْلَقُ الأخُ على الصَديقِ الوَدودِ مَجَازاً، ومِنْه ما آخَى النَبيُّ ـ صلى اللهُ عليْهِ و سَلَّمَ، بينَ المُهاجِرينَ والأَنْصارِ، وقولُ أَبي بَكْرٍ الصديق ـ رضي اللهُ عنهُ، للنَبيِّ لمّا خطَبَ النبيُّ مِنْهُ عائِشَةَ: "إنَّما أَنَا أَخوكَ، فقالَ لَهُ النَبيُّ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((أَنْتَ أَخِي وهِيَ حَلالٌ لي)). ويُطْلَقَ الأخُ على القَرينِ كَقولهم: أَخُو الحَرْبِ، ويُطَلَقُ أيضاً على النَسَبِ والقُرْبِ كَقَوْلهم: أَخُو العَرَبِ، وأَخُو بَني فُلان. كما يُطْلَقُ على التابِعِ المُلازِمِ، ومنه قولُ عَبْدِ بَني الحَسْحاسِ:
أَخُوكم ومَوْلى خَيرِكُمْ وحَلِيفُكُمْ...وَمَنْ قدْ ثَوى فيكمْ وعَاشَرَكُمْ دَهْرا
أَرادَ أَنَّهُ عَبْدُهُم.
قولُهُ: {يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} تَتَمَكَّنُ الشَّيَاطِينِ مِنْ إِغْوَائِهِمْ فَيَمُدُّونَهُمْ فِي غَيِّهِمْ وَفَسَادِهِمْ، وَيَزِيدُونَهُمْ ضَلاَلاً، عن طريق الوسوسة والإغراء بارتكاب المعاصي والموبقات.
يُقالُ: مَدَّ لَهُ إذا أَرْخى لَهُ، كَقولهم: مَدَّ اللهُ في عُمرِكَ، وقالَ أَبُو عَلِيٍّ الفارسَيُّ في كتابِ (الحُجَّةِ): عامَّةُ ما جاءَ في التَنْزيلِ "أَمْدَدْتُ" على وزنِ "أَفْعَلْتُ" كقولِهِ تعالى في سورة المؤمنون: {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} الآية: 55. وقال في سورة الطُورِ: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} [الآية: 22. وقال في سورة النمل: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} الآية: 36، وما كانَ بخِلافِهِ يَجيءُ على "مَدَدْتُ" قال تعالى في سورة البقرة: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} الآية: 15. فهذا يَدُلُّ على أَنَّ الوَجْهَ كما ذهب إليه الأكثرُ مِنَ القُراءِ فَتْحُ الياءِ. أمّا الوَجهُ في قراءةِ مَنْ قَرَأَ "يُمِدُّونَهم" بِضَمِّ الياءِ، فإنَّهُ مثلُ قولِه تعالى في سورة آلِ عمرانَ: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} الآية: 21. أيْ: هُوُ اسْتِعارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ، والقَرينةُ قولُهُ: "في الغي"، كما أَنَّ القَرينَةَ في الآيَةِ الأُخْرى قولُهُ: {بِعَذَابٍ} وقدْ عَلِمْتَ أَنَّ وُقوعَ أَحَدِ الفِعْلينِ أَكْثَرَ في أَحَدِ المَعنيين لا يَقْتَضي قَصْرَ إِطْلاقِهِ على ما غَلَبَ إِطْلاقُهُ فيهِ عِنْدَ البُلَغاءَ، وقِراءةُ الجُمهورِ "يَمُدُّونَهُمْ" بِفَتْحِ التَحْتِيَّةِ تَقْتَضي أَنْ يُعَدَّى فِعُلُ "يَمُدُّونَهُمْ} إلى المفعولِ باللامِ، فيُقالُ: "مَدَّ لَهُ" إلاَّ أَنَّهُ كَثُرَتْ تَعْدِيَتُهُ بِنَفْسِهِ على نَزْعِ الخافِضِ كما قولِهِ تعالى في سورة البَقَرَةِ: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} الآية: 15. وقدْ تَقَدَّمَ. والغَيُّ: الضَلالُ وقدْ تَقَدَّمَ آنِفاً.
قولُهُ: {ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} وَلاَ يَكُفُّ هؤلاء الشياطين بِالتَّبَصُّرِ كَمَا تَبَصَّرَ الْمُتَّقُونَ عَنْ إِمْدادِ أَوْليائهم مِنَ الإنسِ بأَلْوانِ الشُرورِ والآثامِ مهما وعظهم الواعظون وأرشدهم المرشدون. حتى يُهلكوهم، يُريدُ أَنَّ شُرَكاءَهم لا يَنْفَعونَهم بَلْ يَضُرّونَهم بِزيادَةِ الغَيِّ. وَلاَ يُقَصِّرُونَ فِي ذلك، لأَنَّهُمْ لاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِذَا شَعَرُوا بِالنُّزُوغِ إِلى الشَّرِّ وَلاَ يَسْتَعِيذُونَ بِاللهِ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَمَسِّهِ. ويجوزً أَنْ يَعودَ الضميرُ لإخوانهم: أي ثم لا يكف هؤلاء الناس عَنِ الغَيِّ والضلالِ مَهما وعَظَهم الواعظون وأَرْشَدَهم المرشدون. وأخرج الطبريُّ وابنُ كثيرٍ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ أنَّه قال: لا الإنْسُ يَقْصُرونَ عَمَّا يَعْمَلونَ مِنَ السَيِّئاتِ، ولا الشياطينُ تُمْسِكُ عَنْهم. ورويا عنهُ أيضاً أنَّه قال: "يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ" قالَ: هُمُ الجِنُّ، يُوحونَ إلى أَوليائهم مِنَ الإنْسِ: "ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ" يَقولُ: لا يَسْأَمُون. وكذا قالَ السُّدِّيُّ وغيرُهُ: يَعني إنَّ الشياطين يَمُدُّونَ أَوْلياءَهُم مِنَ الإنْسِ ولا تَسْأَمُ مِنْ إِمدادِهِم في الشَرِّ؛ لأنَّ ذلك طَبيعةً لهم وسَجِيَّة، لا تَفْتُرُ فيهِ ولا تَبْطُلُ عَنْهُ، وهو كَما قالَ تعالى في سورة مريم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} الآية:83. قالَ ابْنُ عبَّاسٍ وغيرُه: تُزْعِجُهم إلى المعاصي إزْعاجاً.
قوله تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي} يَعودُ الضميرَ في "إخوانهم" على الشياطينِ لِدَلالَةِ لَفْظِ الشَيْطانِ عليهم، أو على الشيطانِ نَفْسِهِ لأنَّهُ لا يُرادُ بِهِ الواحِدُ بَلِ الجِنْسُ. والضَميرُ المنصوبُ في "يَمُدُّونهم" يَعودُ على الكُفَّارِ، والمرفوعُ يَعودُ على الشياطينِ، أوِ الشَيْطان، كما تقدَّم. والتقدير: وإخْوانُ الشياطينِ يَمُدُّهُمُ الشياطينُ، فالخبرُ على هذا الوجهِ جارٍ على غيرِ مَنْ هُوَ لَهُ في المعنى، لأنَّ الإِمدادَ مُسْنَدٌ إلى الشياطين في المعنى، وهو في اللفظِ خبرٌ عَنْ "إخوانهم"، ومنهُ قولُ يَزيد بْنِ مُنْقِذٍ:
وهُمْ إذا الخيلُ جالوا في كَواثِبِها ........ فَوارِسُ الخَيْلِ لا مِيلٌ ولا قُزُمُ
فجملة: "جالوا" خَبرٌ عَنِ الخيلِ، وضَميرُ "جالوا" عائدٌ على ما عادَ عليهِ ضَميرُ "وهم" لا عَنِ الخيل، وقولُهُ "فَوارِسُ" خبرُ ضَميرِ الجَمْعِ. وقد تَقَدَّمَ كلامٌ في هذا كلامٌ وبحثٌ منْ حيثُ جَرَيانُ الفعلِ على غير مَنْ هُوَ لَهُ ولم يَبْرُزْ ضَميرٌ، وهذا هو قولُ الجمهورِ وعليْهِ عامَّةُ المُفَسِّرين. وهوَ أَوْجَهُ لأنَّ إخوانَهم في مُقابَلَةِ الذين اتقوا.
أو أَنَّ المرادَ بالإِخوانِ هُمُ الشَياطينُ، وأنَّ المُرادَ بالضَميرِ المُضافِ إليهِ الجاهِلونَ أَوْ غيرُ المتَّقين؛ لأنَّ الشيءَ يَدُلُّ على مُقابِلِهِ. وتعودُ الواو على الإِخوان، والضميرُ المنصوبُ يَعودُ على الجاهلينَ أَوْ غيرِ المُتَّقين، ويكون المعنى: والشياطينُ الذين هُمْ إخْوانُ الجاهلينَ أَوْ غَيرِ المُتَقِّينِ يَمُدُّونَ الجاهلين أَوْ غَيرَ المُتَّقين في الغَيِّ، فيكون الخبرُ في هذا الوجهِ جارياً على مَنْ هُوَ لَهُ لَفْظاً ومَعنًى وهُوَ تَفْسيرُ قَتادَةَ.
أو أَنْ يَعودَ الضَميرُ المجْرورُ والضميرُ المَنصوبُ على الشياطين، ويعودَ المرفوعُ على الإِخوان وهم الكُفّارُ. فيكون المعنى: وإخْوانُ الشياطينِ في الغَيِّ بخلافِ الإِخوةِ في اللهِ يَمُدُّون الشياطين، أي: بِطاعَتِهمْ لهمْ وقبولِهِمْ مِنْهُم، ولا يترتَّب هذا التأويل على أنْ يَتَعَلَّقَ الغَيّ بالإِمدادِ، لأنَّ الإِنسَ لا يُغْوون الشياطين. يَعني يَكونُ في "الغَيِّ" حالاً مِنَ المُبتَدأِ، بمعنى: وإخْوانهم حالَ كونهم مُسْتَقرِّينَ في الغيّ، وفي مجيء الحالِ مِنَ المبتدأِ خِلافٌ، فالأَحْسَنُ أَنْ يِتَعَلَّقَ بما تَضَمَّنَهُ إخْوانُهم مِنْ مَعنى المُؤاخاةِ والأُخُوَّةِ.
ويمكنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ في "في الغيّ" على هذا التأويلِ بِ "يمدُّونهم" على جِهَةِ السَبَبيَّةِ، أي: يمدُّونهم بسببِ غِوايَتِهم نحو قولِه ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم: ((دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ في هُرَّةٍ ..))، أيْ: بِسَبَبِ هُرَّةٍ، ويُحتَمَلُ أَنْ يَكونَ "في الغيّ" حالاً فيَتَعَلَّق بمحذوفٍ، أيْ: كائنين "في الغيّ"، فيكون "في الغيّ" في مَوْضِعِه، ولا يَتَعَلَّقُ بإخوانِهم، وقَدْ جَوَّزَ ذلكَ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وهذه الجملة: "وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون" عَطْفٌ على جملة {الذين اتقوا إذا مسهم طائفٌ مِنَ الشيطانِ تَذَكَّروا} عَطْفَ الضِدِّ على ضِدِّهِ فإنَّ الضِدِّيَّةَ مُناسَبَةٌ يَحْسُنُ بها عَطْفُ حالِ الضِدِّ على ضِدِّهِ، فلمّا ذَكَرَ شَأنَ المُتَّقين في دَفْعِهم طائفَ الشياطين، ذَكَرَ شَأنَ أَضدادِهم مِنْ أَهْلِ الشِرْكِ والضَلالِ.
قرأ العامَّةُ: {يَمُدونهم} بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ الميمِ مِنْ مَدَّ، وقرأَ نافع: "يُمِدونهم" بضم الياء وكَسرِ الميم مِنْ أمدَّ ، وقد تقدَّم الكلام على هذه المادَّة. وقرأَ الجَحْدَريُّ "يُمادُّونهم" مِنْ "مادَّهُ" بِزِنَةِ "فاعَلَه".
وقرأَ العامَّةُ: {يُقْصِرُون} مِنْ أَقْصَرَ، ومنه قولُ امرئِ القيس:
لعَمْرك ما قلبي إلى أهله بِحُرّْ .............. ولا مُقْصِرٍ يوماً فيَأْتيني بقُرّْ
أيْ: أي ولا هو نازعٌ عَمَّا هُوَ فيه، وقالَ أيضاً:
سما لك شوقٌ بعدما كان أَقْصَرا ....... وحَلَّتْ سُلَيْمى بَطْنَ قَوٍّ فعَرْعرا
أيْ: وارْتَفَعَ شوقُكَ بعدما كان قد نَزَعَ وأَقْلَعَ. وقرأَ عيسى بْنُ عُمَرَ وابْنُ أَبي عَبْلَةَ "ثم لا يَقْصُرون" بفتح الياءِ وضَمِّ الصادِ مِنْ قَصَرَ، أيْ: ثمَّ لا يَنْقُصون مِنْ إمْدادِهم.