إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)قولُهُ ـ عَزَّ سُلطانُه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} يَقُولُ اللهُ تَعَالَى إِنَّ المُتَّقِينَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا أَلَمَّ بِهِمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ بَوَسْوَسَتِهِ إِلَيْهِمْ لِيَحْمِلَهُمْ عَلَى المَعْصِيَةِ، أَوْ لِيُوقِعَ بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ. والمُرادُ بِه: لَمَّةُ الشَيْطانِ وَوَسْوَسَتُهُ.
وفي الحديثِ الذي أخرجه الطبريُّ بإسنادٍ حَسَنٍ عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعودٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((إنَّ للشَيْطانِ لَمَّةٌ، وللمَلَكِ لَمَّةٌ، فأمَّا لَمَّةُ الشَيْطانِ فَتَكْذيبٌ بالحَقِّ وإيعادٌ بالشَرِّ، وأَمَّا لَمَّةُ المَلَكِ: فإيعادٌ بالخَيرِ وتَصْديقٌ بالحَقِّ. فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ ولْيَحْمَدِ اللهَ عَلَيْهِ. ومَنْ وَجَدَ الأُخرى فَلْيَسْتَعِذْ مِنَ الشَيْطانِ. ثمَّ قَرَأَ: {الشيطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكمْ بالفَحْشاءِ، واللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وفَضْلاً}.
و "اتقوا" هُنا عامَّةٌ في اتِّقاءِ الشِرْكِ واتِّقاءِ المَعاصي، بِدَليلِ أَنَّها إنَّما جاءتْ في مَدْحٍ لهم، فلا وَجْهَ لِقَصْرِها على الشِرْكِ.
قولُهُ: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} تَذَكَّرُوا: غضبَ اللهِ وعقابَهُ، ورِضْوانَه وثوابَهُ، وطردَهُ وإبعادَهُ، أو حَجْبَهُ وإهمالَهُ، وقُدْرَتِهُ عليهم، و "تَذَكَّرُوا" أَنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ الشَّيْطَانِ عَدُوِّهِمْ وَ "تَذَكَّرُوا" أَنَّ رَبَّهُمْ قَدْ حَذَّرَهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ وَنَزْغِهِ، وَسْوَسَتِهِ، و "تَذَكَّرُوا" مُراقَبَةَ اللهِ والحياءَ مِنْهُ، لعظيمِ مِنَنِهِ وإحْسانِهِ، فإذا هُمْ على بَصيرةٍ مِنْ رَبِّهم التي كانوا عليها قبلَ المَسِّ، فَتَابُوا للهِ وَرَجَعُوا إِلَيْهِ وَأَنَابُوا، وَاسْتَعَاذُوا بِهِ والتجؤوا إليه، أو: فإذا هُمْ "مبصرون" مَواقِعَ الخَطَأِ ومَكائِدَ الشَيْطانِ وحبائلِهِ فيَحَتَرِزونَ مِنْها، ولا يَعودون إلَيْها، بخِلافِ المُنهمكين في الغفلة فَإِذَا هُمْ قَدِ اسْتَقَامُوا وَصَحَوْا وتنبّهوا مِنْ غَفْلَتِهم عنه ـ سبحانَه وتعالى.
فالبَصيرةُ حارسةٌ للقلْبِ، الذي هو بَيْتُ الرَبِّ، فإذا نامَتْ طَرَقَها الشَيطانُ، فإنْ كانَ نَوْمُها خَفيفًا أَحَسَّتْ بِهِ وطَرَدَتْهُ، وهذِه بَصيرةُ المُتَّقين، الذين عَناهُمُ اللهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: "إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا"، وإذا كان نومُها ثَقيلاً سَرَقَ الشيطانُ ما فيها، ولم تَفْطَنْ بِهِ، وهذِه بَصيرَةُ الغافلين، الذينَ هُمْ إخوانُ الشياطين. قال الإمامُ القشيري رحمه اللهُ: إنّما يَمَسُّ المُتَّقينَ طيفُ الشيْطانِ في ساعاتِ غَفْلَتِهم عَنْ ذِكْرِ الله، ولو أَنَّهم اسْتَداموا ذِكْرَ اللهِ بِقُلوبِهم لما مَسَّهم طائفُ الشَيْطان، فإنَّ الشَيْطانَ لا يَقَربُ قَلْبًا في حالِ شُهُودِهِ اللهَ؛ لأنَّهُ يَخْنَسُ عِنْدَ ذَلِكَ، ولكنْ لِكُلِّ صارمٍ نَبْوَةٌ، ولِكُلِّ عَالمٍ هَفْوَةٌ، ولِكُلِّ عابدٍ شدَّةٌ، ولِكِلِّ سائرٍ وِقْفَةٌ، ولِكُلِّ عارِفٍ حَجبَةٌ. قال ـ صَلى اللهُ عليه وسَلَّمَ: ((إنَّهُ ليُغَانُ على قَلبي)) أَخْبرَ أَنَّهُ يَعْتَريهِ ما يَعْتَري غيرَهُ، وقالَ ـ عليه الصَلاةُ والسلامُ: ((الحِدَّةُ تَعْتَري خيارَ أُمَّتي)). أخرجَه أبو يعلى الموصليُّ عن ابنِ عباسٍ ـ رضي اللهُ عنهما. فأَخْبرَ بِأَنَّ خِيارَ الأُمَّةِ، وإنْ جَلَّتْ رُتْبَتُهم، لا يَتَخَلَّصون عَنْ حِدَّةٍ تَعْتَريهم في بَعْضِ أَحْوالِهم، فَتُخْرجُهم عَنْ دَوامِ الحُلْمِ). ولكنَّ فترةَ كلٍّ وغفلتَهُ بحسبِ مَقامِهِ، وإِنَّ طائفَ الشَيطانِ لَيَمَسُّ الوَاصلينَ أَيْضاً والسائرين، بِدَليلِ هذه الآية: "وإما ينزغنك"، ولكنَّ مسَّ كلٍّ بحسبِ مقامِه أيضاً ودرجةِ قربِه من ربِّه ومنزلَتِهِ عنده. ومَسُّهُ للسائرِ أَوِ الواصِلِ إنّما هوَ تَرْقيةٌ لَهُ وزيادةٌ في قُربِه، وتحويشٌ لَهُ إلى رَبِّهِ، والله تعالى أَعْلمُ.
فقد أَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإِيمانِ مِنْ طَريقِ وَهْبٍ بْنِ جَريرٍ عَنْ أَبيهِ قالَ: كُنْتُ جالِساً عندَ الحَسَنِ (البَصْرِيِّ ـ رضي اللهُ عنه) إذْ جاءَهُ رَجُلٌ فقالَ: يا أَبا سَعيدٍ ما تَقولُ في العَبْدِ يُذْنِبُ الذَنْبَ ثمَّ يَتُوبُ؟ قال: لمْ يَزْدَدْ بِتَوْبَتِهِ مِنَ اللهِ إلاَّ دُنُوّاً. قالَ: ثمَّ عادَ في ذَنْبِهِ ثمَّ تابَ؟ قالَ: لمْ يَزْدَدْ بِتَوْبَتِهِ إلاَّ شَرَفاً عِنْدَ اللهِ. قال: ثمَّ قالَ لي: أَلمْ تَسْمَعْ ما قالَ رسُولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قُلْتُ: وما قالَ؟ قال: ((مَثَلُ المُؤمِنِ مَثَلُ السُنْبُلَةِ تميلُ أَحْياناً وتَسْتَقيمُ أَحْياناً ـ وفي ذَلِكَ تَكبَرُ ـ فإذا حَصَدَها صاحِبُها حَمَدَ أَمْرَهُ كَما حَمَدَ صاحِبُ السُنْبُلَةِ بِرَّهُ، ثمَّ قَرَأَ "إن الذين اتقوا إذا مسهم طيف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون".
قولُهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا} هذه الجملةُ مُنَزَّلَةٌ منْزِلةَ التَعليلِ للأمْرِ بالاستعاذةِ مِنَ الشَيْطانِ. وقدْ جاءَتْ العِلَّةُ هُنا أَعَمَّ مِنَ المُعَلَّلِ لأنَّ التَذَكُرَ أَعَمُّ مِنَ الاستعاذة.
قولُهُ: {إذا مَسَّهم طائفٌ مِنَ الشَيْطانِ تَذَكَّروا} يجوزُ أَنْ يَكونَ التَعريفُ في "الشَّيْطَانِ" تَعريفَ الجِنْسِ: أَيْ مِنَ الشَياطينِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ تعريفَ العَهْدِ والمُرادُ بِهِ إبليسُ باعْتِبارِ أَنَّ ما يُوَسْوِسُ بِهِ جُنْدُهُ وأَتباعُهُ، هوَ صادرٌ عَنْ أَمْرِهِ وسُلْطانِهِ.
قولُه: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} الفاءُ لتفريعِ الإبْصارِ على التَذَكُّرِ. وأَكَّدَ مَعنى فاءَ التَعقيبِ ب "إذا" الفُجائِيَّةِ الدّالَّةِ على حُصولِ مَضمونِ جملتِها دفعةً واحدةً بِدونَ تَرَيُّثٍ، أَيْ تَذَكَّروا تَذَكُّرَ ذَوِي عَزْمٍ، فلم تَتَرَيَّثْ نُفُوسُهم أَنْ تَبَيَّنَ لها الحَقُّ الوازِعُ عَنِ العَمَلِ بالخَواطِرِ الشَيْطانِيَّةِ فابْتَعَدَتْ عَنْها، وتَمَسَّكَتْ بالحَقِّ، وعَمِلَتْ بِما تَذَكَّرَتْ، فإذا هُمْ ثابِتون على هُداهم وتَقواهُم. وقدِ اسْتُعيرَ الإبْصارُ للاهْتِداءِ كما يُسْتَعارُ ضِدُّهُ (العَمى) للضَلالِ، أَيْ: فإذا هُمْ مُهْتَدونَ ناجُونَ مِنْ تَضْليلِ الشَيْطانِ، ووَصَفَهم باسْمِ الفاعِلِ "مُبْصِرون" دُونَ الفِعْلِ للدَلالةِ عَلى أَنَّ الإبْصارَ ثابتٌ لهم مِنْ قَبْلُ، وليسَ شيْئاً مُتَجَدِّداً، ولذلك أَخبرَ عَنْهم بالجُملةِ الاسمِيَّةِ الدالَّةِ على الدَوامِ والثَباتِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {طَائِفٌ} بِزِنَةِ "فاعلٍ". على أَنَّ "طائفٌ" اسْمُ فاعلٍ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ مِنْ طافَ يَطوفُ فَيَكونُ كَ "قائمٍ" و "قائل"، وأَنْ يَكونَ مِنْ طافَ يَطيفُ فيَكونُ كَبائِعٍ ومائِلٍ. وقدْ زَعَمَ بَعْضُهم أَنَّ طَيْفاً وطائفاً بمَعنىً واحِدٍ، فيُحْتَمَلُ أَنْ يَرُدَّ "طائفاً" لِ "طَيْف" فيَجعَلَهُما مَصْدَرَيْنِ. وقدْ جاءَ "فاعِل" مَصدَراً كما قولهم: (أَقائماً وقَدْ قَعَدَ الناسُ) ويحتملُ أَنْ يَرُدَّ "طيفاً" ل "طائف"، أَيْ: فيَجْعَلهُ وَصْفاً على وزنِ "فَعْل". وَقَرَأَ ابْنُ كَثيرٍ وأَبو عَمْرٍو والكِسائيُّ: "طَيْفٌ". وفيهِا ثلاثةُ أَوْجُهِ، أَحَدُها: أَنَّهُ مصدرٌ مِنْ طاف يَطيفُ كَباعَ يَبيعُ، ومنه قولُ كَعبٍ بْنِ زُهَيرٍ:
أنَّى ألمَّ بك الخيالُ يَطيفُ ................. ومَطافُه لك ذُكْرَةٌ وشُعُوفُ
والثاني: أَنَّهُ مخَفَّفٌ مِنْ "فَيْعِلٍ"، والأَصْلُ: طَيِّفٌ بِتَشْديدِ الياءِ، فحُذِفَ عَينُ الكَلِمَةِ كما هو قولُهم في: مَيِّتٍ مَيْتٌ، وفي: لَيِّنٍ لَيْنٌ، وفي: هَيِّنٍ هَيْنٌ. و "طَيّفٌ" الذي هو الأصْلُ يحتمِلُ أَنْ يَكونَ مِنْ طافَ يَطيفُ أوْ مِنْ طَافَ يَطوفُ، والأصلُ: طَيْوِفٌ، فَقُلِبَ وَأُدْغِمَ.
والثالث: أَنَّ أَصْلَهُ: طَوْفٌ مِنْ طافَ يَطوفُ، فقُلِبَتِ الواوُ ياءً
وإنْ كانتْ ساكنةً كما قُلِبَتْ في أَيْدٍ وهو بَعيدٌ. وقالوا أيضاً في حَوْل: حَيْل، ولكنَّهُ من الشذوذِ بحيثُ لا يُقاسُ عَلَيْهِ.
وقالَ الفارِسيُّ: الطيفُ كالخَطْرَةِ، والطائفُ كالخاطِرِ. فَفَرَّقَ بينَهُما. وقالَ الكِسائيُّ: الطَّيْفُ: اللَّمَمُ، والطائفُ ما طافَ حَوْلَ الإِنسانِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وكيف هذا وقدْ قالَ الأَعْشى:
وتُصْبح مِنْ غِبِّ السُّرَى وكأنما ........... ألمَّ بها من طائفِ الجنِّ أَوْلَقُ
قولُه: أَوْلَقُ: أي مجنون. والبيتُ من قصيدةٍ لَهُ منها:
أَرِقْتُ وخما هذا السُّهادُ المؤرِّقُ، ........ وما بيَ منْ سقمٍ وما بيَ مَعْشَقُ
وَلَكِنْ أرَاني لا أزَالُ بِحَادِثٍ، ...... أغادى بمات لمْ يمسِ عندي وأطرقُ
فإنْ يُمْسِ عِنْدِيَ الشّيبُ والهَمُّ والعَشى ... فَقَدْ بِنّ مِنّي، وَالسِّلامُ تُفَلَّقُ
منَ الجاهلِ العِرّيضِ يُهدِي ليَ الخَنا، .......... وذلكَ ممّا يَبْتَريني ويُعْرِقُ
وكأنَّ ابْنَ عطيَّةَ أَخَذَ قولَهُ (ما طافَ حولَ الإِنسانِ) مُقيَّداً بالإِنسانِ، وهذا قد جَعَلَهُ طائفاً بالناقَةِ، وهي سَقْطَةٌ لأنَّ الكِسائيَّ إنَّما قالَهُ اتِّفاقاً لا تقييداً. وقالَ أبو زَيْدٍ الأَنْصاريُّ: طافَ: أَقْبَلَ وأَدْبَرَ يَطُوفُ طَوْفاً وطَوَافاً، وأَطافَ: اسْتَدارَ القَوم مِنْ نَواحيهم. وطافَ الخيالُ: أَلَمَّ، يَطيفُ طَيْفاً. ففرَّقَ أَبو زَيْدٍ بَينَ ذي الواوِ وذِي الياءِ، فخَصَّصَ كُلَّ مادَّةٍ بمَعنى. وفرَّق أَيْضاً بينَ "فَعَلَ" و "أَفْعَلَ".
وزَعَمَ السُّهَيْلي أَنَّه لا يُسْتَعملُ مِنْ "طافَ الخيالُ" اسْمُ فاعلٍ، قال: لأنَّهُ تخيُّلٌ لا حَقيقةَ لَهُ. فأَمَّا قولُهُ تَعالى في سورة القَلَمِ: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ} الآية: 19. فلا يُقالُ فيهِ طَيْفٌ لأنَّه اسْمُ فاعلٍ
حقيقةً. قالَ حَسَّانُ ـ رضي اللهُ عنه:
جِنِّيَّةٌ أرَّقَني طيفُها ....................... تَذْهَبُ صُبْحاً وتُرى في المنامْ
وقالَ السُدِّيُّ: الطَّيْفُ: الجُنون، والطائفُ: الغَضَبُ، وعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهما، هما بمعنى واحدٍ وهُوَ النَّزْغُ.