إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ
(196)
قولُهُ ـ تعالى ذِكْرُهُ: {ِإِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ} إِنَّ اللهَ حَسْبِي، وَهُوَ مُتَوَلِّي أَمْرِي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَهو نَاصِرِي وحافظي منكم، وهو مُعيني وظَهيري عليكم، فَلَنْ تَستطيعون أَنْ تضُرُّونَني أَنْتم ولا آلهتُكم ولو حرصتم وتظاهرتم على ذلك جميعاً، وهوَ تعليلٌ لعدمِ المبالاتِ بهم وبكيدِهم، فإنَّ اللهَ ـ عزَّ وجلَّ ـ ما نعُه منهم، وراداً عنه كيدَهم. ولذلك فُصِلَتْ هذِهِ الجُمْلَةُ عِنْ جملةِ: {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} ب "إنَّ"، أْيْ: لِوُقوعِها مَوْقِعَ العِلَّةِ لمضمونِ التَحَدِّي في قولِهِ: {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} الآية السابقة لهذه.
قولُه: {الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} أَيْ: وَهُوَ الذِي نَزَّل عليَّ القُرْآنَ الناطِقَ بأنَّهُ وَلِيي وناصِري، وبِأَنَّ شُرَكاءَكم لا يَسْتَطِيعونَ نَصْرَ أَنْفُسِهم فَضْلاً عَنْ نَصْرِكِم. ف "أل" في "الكتاب" للعهدِ، والمُرادُ مِنْهُ القُرآنُ، وَعبَّرَ سُبحانَهُ بِ "نَزَّلَ الكِتاب" للإشعارِ بِدليلِ الوِلايَةِ، وكأنَّهُ وَضَعَ "نَزَّلَ الكتاب" مَوْضِعَ أَرْسَلَني رَسُولاً، ولا شَكَّ أَنَّ الإرْسالَ يَقْتَضي الوِلايَةَ والنُصْرَةَ.
قولُهُ: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} وَهُوَ يَتَولَّى نَصْرَ كُلِّ صَالِحٍ مِنْ عِبَادِهِ. فمَنْ قامَ بحقِّ اللهِ تَوَلَّى اللهُ أُمورَهُ على وَجْهِ الكِفايَةِ، فلا يُحْوِجُهُ إلى أَمْثالِهِ، ولا يَدَعُ شَيْئًا مِنْ أَحْوالِهِ إلاَّ أَجْراهُ على ما يُريدُ بحُسْنِ إِفْضالِهِ. والآيةُ تَذْييلٌ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قَبْلِه، أَيْ: ومِنْ عادَتِهِ ـ جَلَّ وعلا ـ أَنْ يَنْصُرَ الصالحين مِنْ عِبادِهِ ولا يَخْذُلُهم، وإنَّما خَصَّ اسْمَ الذاتِ المقدَّسةِ (الله) بِالذكر في تَنْزيلِ الكِتابِ للدَلالةِ على تَفْخيمِ أَمْرِ المُنَزَّلِ وتعظيمِه.
وهذهِ الآيةُ المباركةُ ممَّا جُرِّبَتْ المداومةُ عَلَيْها، واتَّخَذَها الصالحونَ وِرْداً لهم للحِفْظِ مِنَ الأَعْداءِ.
قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نزَّل الكتابَ} جاءتِ الصِفَةُ لاسْمِ اللهِ اسماً موصولاً لما تَدُلُّ عليهِ الصِلَةُ مِنْ علاقاتِ الوِلايَةِ، فإنَّ إنْزالَ الكِتابِ عَليْه ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ وهو أُمّيٌّ دَليلُ اصطفائهِ وتَوَلِّيهِ. والعامَّةُ على تَشديدِ "وليِّيَ" مضُافاً لِياءِ المتكلِّمِ المفتوحَةِ وهي قراءةٌ واضحةٌ. أَضافَ الوَليّ إلى نَفْسِهِ.
وقرأ أبو عمرو في بعض طرقه: "إن وليَّ" بياء واحدة مشددة مفتوحة، وفيها تخريجان أحدهما: قال أبو علي: إن ياء فعيل مدغمةٌ في ياء المتكلم، وإن الياء التي هي لام الكلمة محذوفةٌ، ومنع من العكس. والثاني: أن يكون "وليَّ" اسمها وهو اسمٌ نكرةٌ غيرُ مضاف لياء المتكلم والأصل: إن ولياً الله، فولياً اسمُها واللهُ خبرها، ثم حذف التنوين لالتقاء الساكنين كقول أبي الأسود الدُؤليّ:
فالفيته غيرَ مُسْتَعْتِبٍ .......................... ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا
وكقراءة من قرأ في سورة الصمد: {قُلْ هُوَ الله أَحَدُ * الله الصَمَدُ} الآيتان: 1و2. ولم يبق إلا الإِخبارُ عن نكرةٍ بمعرفة وهو واردٌ، قال الفرزدق:
وإنَّ حراماً أن أَسُبَّ مجاشعاً ............. بآبائي الشمِّ الكرام الخضارم
وقرأ الجحدري في رواية: "إنَّ وليِّ الله" بكسر الياء مشددة، وأصلُها أنه سَكَّن ياء المتكلم فالتقت مع لام التعريف، فحذفت لالتقاء الساكنين وبقيت الكسرة تدلُّ عليها نحو: إنَّ غلامِ الرجلُ. وقرأه في رواية أخرى: "إن وليَّ الله" بياء مشددة والجلالة بالجر، نقلها عنه أبو عمرو الداني، أضاف الوليّ إلى الجلالة. وذكر الأخفش وأبو حاتم هذه القراءة عنه، ولم يذكرا نصب الياء. وخرَّجها الناس على ثلاثة أوجه، الأول قولُ الأخفش وهو أن يكون وليّ الله اسمها، والذي نزَّل الكتاب خبرها، والمراد بالذي نزَّل الكتاب جبريل، يدلُّ عليه قولُه تعالى في سورة الشعراء: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} الآية: 193. وفي سورة النحل: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} الآية: 102. إلا أن الأخفش قال في قوله: "وهو يتولى الصالحين" هو مِنْ صفة الله قطعاً لا من صفة جبريل ـ عليه السلامُ، وفي تَحَتُّم ذلك نظرٌ. والثاني: أنْ يَكونَ المَوصوفُ بتنزيل الكتاب هوَ اللهُ تعالى، والمرادُ بالموصولِ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويكون ثَمَّ عائدٌ محذوف لفهم المعنى، والتقدير: إنَّ وليَّ الله النبيُّ الذي نَزَّل الله الكتاب عليه، فحذف "عَليه" وإنْ لم يَكُنْ مُشتَمِلاً على شُروطِ الحَذْفِ لكنَّه قد جاء قليلاً ونظيرُ هذا الحَذْفِ قولُ العُريانِ الجُرْمِيِّ، مِنْ جُرْمِ طَيِّءٍ:
فقلتُ لها لا والذي حَجَّ حاتمٌ ........... أخونُكِ عهداً إنني غيرُ خَوَّانِ
أي: حجَّ إليه. وقال شاعر من همدان:
وإن لساني شُهْدةٌ يُشْتفى بها ............. وهُوَّ على مَنْ صَبَّه الله عَلْقَمُ
أي: صَبَّه الله عليه، وهذه لغةُ همدان. وقال آخر:
فأصبح من أسماء قيسٍ كقابضٍ ....... على الماء لا يدري بما هو قابضُ
أي: بما هو قابض عليه. وقال آخر:
لعلَّ الذي أَصْعَدْتِني أن يَرُدَّني ....... إلى الأرض إن لم يَقْدِرِ الخيرَ قادرُهْ
يريدُ: أَصْعَدْتني به. وقال آخر:
ومِنْ حَسَدٍ يجورُ عليَّ قومي ............... وأيُّ الدهر ذو لم يحسُدوني
وقال آخر:
فَأَبْلِغَنَّ خالدَ بنَ عَضْلَةٍ ..................... والمَرْءُ مَعْنِيٌّ بلومِ مَنْ يثقْ
أي: يثق به، وإذا ثَبَتَ أن الضميرَ يُحْذف في مثل هذه الأماكن وإن لم يكمل شرطُ الحذف فلهذه القراءة في التخريج المذكور أسوة بها. والثالث: أن يكون الخبر محذوفاً تقديره: إن وليَّ الله الصالحُ أو مَنْ هو صالح، وحُذف لدلالة قولِهِ: "وهو يتولَّى الصالحين" وكقولِهِ: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر} أي: معذَّبون، وكقولِهِ في سورة الحج: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ} الآية: 25.
وجاءت جملة: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} معترضةً، والواوُ اعْتِراضيَّةٌ. ومجيءُ المُسْنَدِ فِعلاً مُضارعاً لِقَصْدِ الدَلالَةِ على استمرارِ هذا التوَلي وتجدُّدِهِ وإنَّه سُنَّة إلهية، فكما تولى النبي يتولى المؤمنين أيضا، وهذه بشارة للمسلمين المستقيمين على صراط نبيهم ـ صلى الله عليه وسلم بان ينصرهم الله كما نَصر نبيه وأولياءه.