أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ.
(195)
قولُهُ ـ تعالى ذِكْرُهُ: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ} المعنى: إنَّ الأَصْنامَ جماداتٌ عادِمَةٌ للحِسِّ والجوارحِ والحياةِ، وقدرةُ الإنْسانِ المَخلوقِ إنَّما تَكونُ بهذِهِ الجَوارِحِ الأَرْبَعَةِ فإنها آلاتٌ يُسْتَعانُ بها في جميعِ الأمور، والأَصنامُ لَيْسَ لها شيءٌ مِنْ هذِهِ الأَعْضاءِ والجَوارحِ، فهم إذاً مُفضَّلون عَلَيْها بهذه الأَعْضاءِ لأنَّ الرِجْلَ الماشِيَةَ أَفْضلُ مِنَ العاجزةِ عنِ المَشيِ، وكذلك اليَدُ الباطشةُ، والعينُ الباصِرَةُ، والأذنُ السامِعَةُ كلُّها أَفْضَلُ مِنْ مثيلاتها العاجزات. وبهذا البيانِ ثبت أَنَّ الإنسانَ أَفْضَلُ مِنْ هذِهِ الأَصنامِ العاجِزَةِ عن كلِّ ما يستطيعُ الإنسانُ أن يقومَ به فكيف يؤلِّهُ الإنسانُ مَنْ كانَ دونه قدرة وفهماً وعلماً. بل هو عاجزٌ أمام القدراتِ التي متع اللهُ الإنسانَ بها. ومن كان كذلك لا يكون إلهًا، فإنَّ مِنْ وَصْفِ الإلهِ الإدراكُ والحياةُ والقُدْرَةُ. وهكذا يَتَأَكَّدُ للمُشْركينَ أَنَّهم أَعلى مَرْتَبَةً مِنْ أَصْنامِهم. فكَيْفَ يَجوزُ في عُرْفِ العَقلِ أَنْ يَكونَ الأَعلى مَرْتَبَةً مَرْبوباً للأدنى مَرْتَبَةً؟ إنَّ ذلكَ لَوْنٌ مِنَ الحمق. وفي هذا تبكيتٌ إثْرَ تَبْكِيتٍ مُؤَكِّدٌ لما يُفيدُهُ الأَمْرُ التَعْجيزيُّ السابقُ مِنْ عَدَمِ الاسْتِجابَةِ بِبَيانِ فُقْدانِ آلاتها بالكُلِّيَّةِ.
قولُهُ: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} أمرٌ منه تعالى لرسولِهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ أن يتحداهم وهو الذي جاء بهذا القولِ لِيَدْحَضَ إيمانهم بهذِه الأَصنامِ التي اتَّخَذوها آلهةً ولِيُسَفِّهَ أَحْلامَهم، وبِذلك أَعْلَنَ العَداوةَ ضدَّ الأَصنامِ ومن عبدها، فلْيَسأَلوا أَصْنامَهم إيقاعَ الأذى به ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليكيدوا له بالأذى، إنْ كان عندها القدرةَ على ضَرٍّ أَوْ نَفْعٍ، والكَيْدُ هو التَدْبيرُ الخفيُّ المحْكَمُ.
قال الحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ رضي اللهُ عنه: إنَّ المشركين كانوا يخوِّفون الرسولَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِآلهتِهم فقال تعالى: "قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ" لِيَظْهَرَ لَكم أَنَّه لا قُدْرَةَ لها على إيصالِ المَضارِّ إليَّ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجوهِ. وهذا كما قالَ هود ـ عليه السَلامُ ـ لِقَوْمِهِ رَدَّاً على قولهم: {إِنْ نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسوءٍ، قَالَ إني أُشْهِدُ اللهَ واشْهَدوا أَنِّي بريءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ}. سورة هود، الآيتان: 54 و 55.
وقدْ أَجرى ـ سبحانَه ـ على رسولِهِ أَشياءَ، ليُثْبِتَ بها أَشياءَ، فقد روي أنَّ أحَدَ السحَرةِ سَحَرَ النَبيَّ، فكيفَ يُسَحَرُ النَبيِّ؟ ومَنِ الذي قال: إنَّهُ سُحِرَ؟ فقد أَعْلَمَهُ اللهُ بالساحِرِ وبِنوعِ السِحْرِ وفي أيِّ مكانٍ وُضِعَ السحر، لِيُبَيِّنَ لهم أَنَّ كَيْدَهم بِوساطةِ شياطينهم مَفْضُوحٌ عَنْدَ اللهِ. قال تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} سورة الأنفال الآية: 30. وبَيَّتوا المَكْرَ لِرسولِ اللهِ مرةً وأَرادوا أَنْ يَضْربوهُ ضَرْبَةً واحدةً لِيَتَفَرَّقَ دَمُهُ في القبائلَِ، فأَوْضَحَ اللهُ ذلك لنبيِّهِ وفضح أمرهم، فبار مَكْرٌهم. وما دَاموا قدْ عَرَفوا أَنَّهم لَنْ يَظْهَروا على الرَسُولِ مهما حاولوا، ولنْ ينفعَهم مكرٌ أَوْ سِحْرٌ، إذاً فلا بُدَّ أَنْ يَيْأَسوا.
قولُهُ تَعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا؟} تقديمُ المُسْنَدِ على المُسْنَدِ إليْهِ للاهْتِمامِ بانْتِفاءِ المُلْكِ الذي دَلَّتْ عَليْهِ اللامُ كالتَقديمِ في قولِ حَسَّان بْنِ ثابت الأنصاري ـ رضي اللهُ عنه ـ يمدح النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم:
له همم لا منتهى لكبارها .............. وهمَّتُهُ الصُّغرى أجلُّ منَ الدَّهْرِ
وبعده:
لهُ راحةٌ لو أنَّ مِعشارَ جودِها ..... على البَرِّ صارَ البرُّ أنْدى من البحرِ
ولو أنَّ خلقَ اللهِ في مَسْكِ فارسٍ ......... وبارَزَهُ كانَ الخليُّ منَ العمرِ
وقولُه: {أَمْ لهم} أَمْ: حَرْفٌ بمَعْنى "أَو" يختص يعطف الاستفهام، وهي تكون مثل "أو" لأحد الشيئين أو الأشياء، وللتمييز بين الأشياء، أو الإباحة أي الجمع بينها، فإذا وقعت بعد همزة الاستفهام المطلوب بها التعيين كانت مثل "أو" التي للتخيير كقوله تعالى {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] أي عينوا أحدهما وإن وقعت بعد استفهام غير حقيقي كان بمعنى "أو" التي للإباحة، وتسمى، حينئذ، منقطعة ولذلك يقولون إنها بمعنى "بل" الانتقالية وعلى كل حال فهي ملازمة لمعنى الاستفهام فكلما وقعت في الكلام قدر بعدها استفهام، فالتقدير هنا، بل ألهم أيد يبطشون بها بل ألهم أعين يبصرون بها بل ألهم آذان يسمعون بها.
قولُهُ: {كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} الأَمْرُ والنَهْيُ في فعلي الأمر هذين للتَعْجيزِ. و "فَلا تُنْظِرُونِ" تَفريعٌ على الأَمْرِ بالكَيْدِ، أَيْ فإذا تَمَكَّنْتم مِنْ إضْراري فأَعْجِلوا ولا تُؤجِّلوني.
قرأ العامَّةُ: {يَبْطِشُونَ} العامَّةُ على كَسْرِ الطاءِ مِنْ بَطَشَ يَبْطِشُ. وقَرَأَ أَبو جَعْفَر وشَيْبَة ونافع في روايَةٍ عَنْهُ: "يَبْطُشون" بِضَمِّها وهما لُغَتانِ. والبَطْشُ: الأَخْذُ بِقُوِّةٍ.
قولُهُ: {ثمَّ كِيدوني} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: "كيدوني" بإثباتِ الياءِ وصْلاً وحَذْفِها وَقْفاً. وهشام بإثْباتها في الحالين. والباقون بحذفها في الحالين، وعن هشام خلافٌ مشهور. وقالَ الشيخ أبو حيّان التوحيدي: وقرأَ أَبو عَمْرو وهشامٌ (بخلاف عَنه) فَكِيدوني (بإثباتِ الياءِ وَصْلاً وَوَقْفاً) قلتُ: أبو عَمْرٍو لا يُثبتها وَقْفاً البَتَّةَ، فإنَّ قاعِدَتَه في الياءات الزائدة ما ذكرتُهُ لَكَ. وفي القِراءَةِ "فَكِيدوني" ثلاثةُ أَلفاظٍ: هذه وقد عُرف حكمُها، وفي سورة هود، الآية: 55. {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} أَثْبَتَها القُرَّاءُ كلُّهم في الحالين، وفي سُورَةِ المُرْسَلاتِ، الآيةِ: 39: {فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} حَذَفَها الجميعُ في الحالين، وهذا نَظيرُ ما مَرَّ في {واخشوني} سورة البقرة، الآية: 150. فإنها فيها قراءة ثابتةٌ للكُلِّ وَصْلاً ووَقْفاً، ومحذوفةٌ في أَوَّلِ سورةِ المائدةِ، ومُخْتَلفٌ فيها في ثانيتِها.