وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ
(192)
قولُهُ ـ جلَّ مِنْ قائلٍ: {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} يُعَجِّبُ تَبارَك وتَعالى خَلْقَهُ مِنْ عَظيمِ خَطَأِ هؤلاءِ الذينَ يُشْرِكونَ في عِبادةِ اللهِ غيرَهُ. فهَذِهِ الأَصْنَامُ المَعْبُودَةُ وَأَمْثَالُها، لاَ تَسْتَطِيعُ نَصْرَ مَنْ يَعْبُدُونَهَا، ومَنْ لا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ فأَحرى أَنْ لا يَدْفَعَ عَنْ غيرِهِ. فالأصنامُ لا تَقْدِرُ على نَصْرِ مَنْ أَطاعَها وعَبَدَها ولا تَضُرُّ مَنْ عَصاها، وإنَّما يعبُدُ العابدُ مَنْ يَعْبُدُ لاجْتِلابِ نفع مِنْهُ أوْ لِدَفْعِ ضَرٍّ منه عَنْ نَفْسِهِ، فالذي تَجِبُ عِبادَتُهُ يجبُ أنْ يَكونَ قادِراً على إيِصالِ النَفْعِ ودَفْعِ الضرِّ.
قولُه: {وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} كَمَا لاَ تَسْتَطِيعُ نَصْرَ نَفْسِها إِذَا اعْتَدى عَلَيْهَا أحَدٌ، أَوْ أَخَذَ مِنْهَا شَيْئاً. ولا يَدْفَعونَ عَنْ أَنْفُسِهم مَكْروهَ مَنْ أَرادَهم بِكَسْرٍ أَوْ نَحْوِهِ، فهي في غاية العجزِ، فكيفَ تكونُ آلهةً؟.
وإيرادُ النَصْرِ للمُشاكَلَةِ، وهُو مجازٌ في لازِمِ مَعْناهُ لِتَأْكيدِ العَجْزِ والاحْتِياجِ المُنافِيَيْنِ لاسْتِحْقاقِ الأُلوهِيَّةِ. ووُصِفوا فيما تَقَدَّمَ بالمُخْلوقِيَّةِ لكونهم أَهْلاً لها، ولم يُوصَفوا هُنا بالمَنْصورِيَّةِ لأَنَّهم لَيْسوا لها بأهلٍ.
وهكذا تجِدُ التَرَقِّي في الحوارِ على أَرْبَعِ مَراحِلَ، أوَّلاً: هم لا يخلقون، ثانياً: هم يُخلَقون، ثالثاً: لا يَنْصُرونَكم، ورابعاً: ولا أَنْفُسَهم يَنْصُرون.
والظاهرُ أَنَّ تخصيصَ النَصْرِ مِنْ بَينِ الأَعْمالِ التي يَتَخَيَّلونَ أَنْ تَقومَ بها أَصْنامُهم لتنبيههم إلى انْتِفاءِ مَقْدِرَةِ هذه الأَصنامِ على نَفْعِهم، إذْ كانَ النَّصرُ أَشَدَّ مَرْغوبٍ لهم، لأنَّ العَرَبَ كانوا أَهْلَ غاراتٍ وقتالٍ وتِراتٍ، فالنصرُ مِنْ أَهَمِّ الأُمورِ لَديهم، لذلك أَشارَ اللهُ سبحانه إليه في غيرِ موضعٍ من كتابه العزيز، قالَ تعالى في سورة يس: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ * لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} الآيتان: 74, 75. وقالَ في سورة مريم: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} الآيتان: 81 , 82. فإنَّ هذا المعنى راسخٌ في قرارةِ أنفسهم، لذلك نجدُ أبا سُفيانَ يقولُ يومَ أُحُد: أُعْلُ هُبُلُ. ويفاخر بآلهته التي كانَ يعبدُها آنذاك فيقولُ: لَنَا العُزى ولا عُزى لكم. إذاً فإنَّ اللهَ سًبحانَه يَبَشِّرُ المسلمين هُنا بأنَّ المُشْركين سَيَغْلَبونَ، وأَنهم سَيَمْحَقونَ الأَصْنامَ ولا يَسْتَطيعَ أَحَدٌ الذَبَّ عَنْها، كما قالَ في سورة آل عُمران: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} الآية:12.
قولُهُ تعالى: {وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} تقدَّمَ المَفعولُ على فعلِهِ هنا للاهتمامِ بِنَفْيِ هذا النَصْرِ عَنْهُمْ، لأنَّهُ أَدَلُّ على عَجْزِ تِلْكَ الآلهةِ.