مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
(186)
قولُهُ تبارك وتعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} لَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى هَذا القُرْآنَ أَعْظَمَ أسْبَابِ الهِدَايَةِ لِلْمُتَّقِينَ، وَجَعَلَ الرَّسُولَ المُبَلِّغَ لَهُ أقْوَى الرُّسُلِ بُرْهَاناً، وَأكْرَمَهُمْ أخْلاقاً، فَمَنْ فَقَدَ الاسْتِعْدَادَ لِلإِيمَانِ بِهذَا الكِتَابِ، وَهَذا الرَّسُولِ، فَهُوَ الذِي أضَلَّهُ اللهُ، وَمَنْ أَضَلَّهُ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، فقد قَدَّمَ لَنا الحَقُّ ـ تبارك وتعالى ـ كُلَّ أَسْبابِ الهِدايةِ، ودَعانا إِليها لَكِّنَّهُ سُبْحانَهُ لا يُرْغِمُ عَلَيْها أَحداً. ومثلُ ذلك: أنَّ الطبيبَ يصف لك الدواءَ لمرضكَ فإن التزمتَ بما أمرك به شُفِيتَ بإذنِ اللهِ، وإن لم تلتزم تركك وداءك، ولله المثلُ الأعلى. فلَقدْ عَلَّمَ اللهُ ـ سُبحانَه ـ عبادَهُ كيفيَّةَ الاستدلالِ؛ على حقيقة هذا الوجودِ وأنّه ثمَّة خالق عظيم له متصرِّفٍ فيه، وذلك بأنْ يَنْظُرَ الإنْسانُ في أمرِ الرَّسولِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ وما ظَهَرَ على يَدَيْهِ مِنَ المُعجِزاتِ وخَوارِقِ العاداتِ، وأَعَظَمُها القُرآنُ العَظيمُ، ثمَّ ما أَتى بِهِ مِنَ العُلومِ اللَّدُنِّيَّةِ والأَسْرارِ الرَبّانيَّةِ، وما نَطَقَ بِهِ مِنَ الحِكَمِ العَجيبَةِ، وما أَخْبرَ بِهِ مِنْ قِصَصِ الأُمَمِ الدّارِسَةِ والشَرائِعِ المُتَقَدِّمَةِ، مَعَ كَونِهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ أُمِّيًّا لم يَقْرَأْ ولم يَكْتُبْ، ولمْ يُجالِسْ أَحَدًا ممَّنْ لَهُ خِبرَةٌ بِذلِكَ، فَإنْ نَظَرَ الإنسانُ في ذلِكَ كلِّهِ وتَفَكَّرَ بِهِ طلَعَتْ عَلَيْهِ شمسُ المَعْرِفَةِ حتى لا يُخالِطَهُ وَهْمٌ، ولا يخْطُرَ بِساحَتِهِ خاطِرُ سُوءٍ، ثمَّ يَتَفَكَّرُ في عَجائبِ مَلَكُوتِ السَماواتِ والأَرْضِ، وما اشْتَمَلَتا عَلَيْهِ مِنْ ضُروبِ المَصنوعاتِ، وعَجائِبِ المَخْلوقاتِ، فَيَتَحَقَّقُ بِوُجودِ الصانِعِ القادِرِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ وأَبو الشَيْخِ عَنْ عُمرَ بْنِ الخَطّابِ ـ رضي اللهُ عنه. أنَّهُ خَطَبَ بالجابِيَةِ، فَحَمَدَ اللهَ وأَثنى عَلَيْهِ، ثمَّ قالَ: مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لَهُ. فقالَ لَهُ فَتىً بَينَ يَدَيْهِ كَلِمَةً بالفارسِيَّةِ، فقالَ عُمَرُ لمُتَرْجِمٍ يُتَرْجِمُ لَهُ: ما يَقولُ؟ قالَ: يَزْعمُ أَنَّ اللهَ لا يُضِلُّ أَحَداً. فقالَ عُمَرُ: كَذَبْتَ يا عَدَوَّ اللهِ، بَلِ اللهُ خَلَقَكَ وهو أَضَلَّكَ، وهوَ يُدْخِلُكَ النّارَ إنْ شاءَ اللهُ، ولولا وَلَثُ عَقْدٍ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ، فَتَفَرَّقَ الناسُ وما يخْتَلِفونَ في القَدَرِ. واللهُ أَعْلَمُ. يقالُ: وَلَثٌ مِنْ عَهْدٍ أو عقدٍ أيْ شَيْءٌ مِنْهُ لَيْسَ بِمُحْكَمٍ.
وقد أَثْبَتَ اللهُ الإضلالَ في نحوٍ مِنْ ثلاثين مَوْضِعاً من القرآنِ الكريم وهي: فقال في سورةِ البَقَرَةِ: {يُضِلُّ بِهِ كَثيراً ويَهدي بِهِ كَثيراً، وما يُضِلُّ بِهِ الاَّ الفاسقينَ} الآية: 26. وقال في سورةِ النِساءِ: {تُريدونَ أَنْ تَهْدوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبيلاً} الآية: 88. وقال في سورة الأنعامِ: {مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صِراطٍ مُسْتقَيمٍ} الآية: 39. وقال فيها: {ومَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} الآيةِ: 125. وقال في سورة الأعرافِ: {فَريقاً هَدَى وفَريقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَلالَةُ} الآية: 30. وفيها قال: {إنْ هيَ إلاَّ فِتنَتُكَ تُضِلُّ بها مَنْ تَشاءُ وتَهْدي مَنْ تَشاءُ} الآية: 155. وقال فيها أيضاً: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الآية: 178. وقال فيها: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فلا هادَيَ لَهُ ويَذَرُهُمْ في طُغْيَانِهمْ يَعْمَهون} الآية: 186. وقال في سورة الرَّعْدِ: {قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} الآية: 27. وقال فيها أيضاً: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} الآية: 33. وقال في سورة إبراهيم: {فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الآية: 4. وقال فيها أيضاً: { وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} الآية: 27. وقال في سورة النحل: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} الآية: 36. وقال في الآية: 37. منها: {فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلّ}. وفي الآية: 39 منها قال: {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. وفي سورةِ الإسراءِ قال: {وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِه}الآية: 97. وفي سورة الكَهْفِ قال: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} الآية: 17. وفي سورةِ الرُومِ قال: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} الآية: 29. وفي سورة فاطر قال: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} الآية: 8. وفي سورة التَوبةِ قال: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} الآية: 115. وفي سورة الزُمَرِ قال: {ذلك هُدى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فما لَهُ مِنْ هاد} الآية: 23. وفيها قال أيضاً: {ويُخَوِّفونَكَ بالذين مِنْ دُونِهِ ومَنْ يُضْلِلِ اللهُ فما لَهُ مِنْ هادٍ} الآية: 36. وفي الآية: 37. منها قال: {ومَنْ يَهْدي اللهُ فما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَليسَ اللهُ بِعزيزٍ ذِي انْتِقامٍ}. وفي سورة غافر قال: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} الآية: 33. وفي الآية: 34 منها قال: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ}. وفي سورة الشورى قال: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} الآية: 44. وفيها أيضاً قال: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} الآية: 46. وفي سورة الجاثية قال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} الآية: 23. وفي المدثِّرِ قال: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} الآية: 31.
قولُهُ: {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وَيَتْرُكُ تَعَالَى هؤُلاَءِ الضَّالِّينَ فِي طُغْيَانِهِمْ يَتَرَدَّدُ نَ فِي حَيْرَةٍ، وَلاََ يَهْتَدُونَ سَبيلاً لِلْخُرُوجِ مِمَّا هُمْ فِيهِ.
قولُهُ تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} مَنْ: اسْمُ شَرْطٍ مَفْعولٌ مُقَدَّمٌ ل "يُضْلِلِ"، ولفظُ الجلالةِ فاعلُه، و "له" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بخبرِ "لا".
قولُه: {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} الواو استئنافيّة و "يذرُهم" مضارعٌ مرفوع، على الاستئناف البلاغي الذي يَعني عَطْفَ الفِعْلِ عَلى جوابِ سُؤالٍ محذوفٍ، دون حملِهِ عَلى "مَنْ"، كأنْ يَكونَ السُؤالُ: أَهؤلاءِ يُضِلُّهُمُ اللهُ ولا يَهديهم أَحَدٌ؟، فَيَكونَ الجوابُ: نَعَمْ، يُضِلُّهم ويَذَرُهم في طُغيانهم يَعْمَهونَ. ومثلُ ذلك "إن أتَيْتَنِي لم آتِك وأُحْسِنُ إليك" فالرَّفْع الوجه، إنْ لم تَحْمِلْه على "لَمْ"، أيْ تَعْطِفهُ. والفَرقُ بينَ الاسْتِئْنافِ البَلاغِيِّ أَوِ البَيانيِّ والاسْتِئْنافِ النَحْوِيِّ أَنَّ البَلاغِيَّ ما كانَ جَواباً عَنْ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ اقْتَضَتْهُ الجُملَةُ الأُولى أوْ مَعطوفاً عَلَيْهِ، فهو أَخَصُّ مُطْلَقاً مِنَ النَحْوِيِّ، ويجوزُ أن يكونَ مجزوماً عطفاً على موضِع جواب الشرط "فلا هادي له" فالواوُ هُنا عاطِفةٌ على كلِّ حالٍ، بالجَزمِ أَوِ الرَفُعِ جميعاً. وجملةُ "يَذَرُهم" مُسْتَأْنَفَةٌ، وجملةُ "يعمهون" حالٌ مِنْ مَفعولِ "يذرهم".
قَرَأَ الأَخَوانِ، (حمزة والكسائيُّ): {ويَذَرْهم} بالياءِ وجَزْمِ الفِعْلِ، وقَرَأَ عاصِمٌ وأَبو عَمْرٍو بالياءِ أَيْضاً ورَفْعِ الفِعلِ، وَقَرَأَ نافِعٌ وابْنُ كَثيرٍ وابنُ عامرٍ بالنُونِ ورفْعِ الفِعْلِ أَيْضاً. وقد رُوي الجزمُ أَيْضاً عَنْ نافعٍ وأَبي عَمْرٍو في الشَوَاذِّ. فالرَفْعُ مِنْ وَجْهٍ واحِدٍ، وهُوَ الاسْتِئْنافُ أَيْ: وهُوَ يَذَرُهم، أَوْ: ونحنُ نَذَرُهم على حَسَبِ القِراءَتَيْنِ. وأَمَّا السُّكونُ فيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهما: أَنَّهُ جُزِمَ نَسَقاً على محلِّ قولِهِ: "فَلا هاديَ لَهُ" لأنَّ الجُملَةَ المَنْفيَّةَ جَوابٌ للشَرْطِ فهِيَ في محَلِّ جَزْمٍ، فَعَطَفَ على مَحَلِّها، وهُوَ كَقَوْلِهِ تَعالى في سورة البَقَرَةِ: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ} الآية: 271. بجزمِ "يُكَفِّرْ"، وكَقولِ الشاعر:
أنَّى سلكتَ فإنني لك كاشحٌ ........ وعلى انتقاصِك في الحياة وأزْدَدِ
وأنشد الواحديُّ أيضاً قولَ أبي دُؤادٍ:
فَأَبْلوني بَلِيَّتَكمْ لعلِّي ....................... أُصالِحُكم وأسْتدرِجْ نَوَيَّا
قال: حمَلَ "أسْتَدْرِجْ" على مَوْضِعِ الفاءِ المحذوفةِ مِنْ قولِهِ: "فَلَعَلِّي أُصالحُكم". والثاني: أَنَّهُ سُكونُ تخفيفٍ كَقِراءَةِ أَبي عَمْرو قولَهُ في سورة آل عمران: {يَنصُرْكُمُ} الآية: 160. وكذلك قرأ قولَهُ في سُورَةِ الأَنْعامِ: {يُشْعِرْكُمْ} الآية: 109. ونحوَهُ. وأَمَّا الغَيبَةُ فَجَرْياً على اسْمِ الله تعالى، والتَكلم على الالْتِفاتِ مِنَ الغيبةِ إلى التَكَلُّم تَعظيماً.