أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ
(184)
قولُه ـ تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} تقريرٌ يُقارِنُهُ تَوْبيخٌ للكُفَّارِ، والوَقْفُ على قولِه: "أولم يتفكروا" ثمَّ ابْتَدَأَ القولَ بِنَفْيِ ما ذَكَروهُ فقالَ: "ما بصاحبهم من جِنَّةٍ" أيْ بِمُحَمَّدٍ ـ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ والتَعبيرُ بِ "صَاحِبِهِمْ" للإيذانِ بِأَنَّ طُولَ مُصاحَبَتِهم لَهُ مما يُطْلِعُهُم على نَزاهَتِهِ عَمَّا اتَّهَموهُ بِهِ، فهُوَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ قَدْ لَبِثَ فِيهم قَبْلَ الرِسالَةِ أَرْبَعين سَنَةً كانوا يُلَقِّبُونَهُ فيها بالصادِقِ الأَمينِ، ويَعْرِفون عَنْه أَسمى أَلْوانِ الإدْراكِ السَليمِ والتَفْكِيرِ المُسْتَقيم. أَوَ لم يَتَفَكَّروا أَنَّهُ ما بِصاحِبِهم مِنْ جِنَّةٍ؟
وحقيقةُ الصاحبُ أنَّهُ الذي يُلازِمُ غيرَهُ في حالةٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ نحوِهِ، ومِنْهُ قولُهُ تَعالى في سورة يوسف: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} الآية: 41، وسمِّيَتِ الزَوْجَةُ صاحِبَةً، ويُطْلَقُ "الصاحبُ" مجازاً على الذي لَهُ مَعَ الآخَرِ حادثٌ عَظَيمٌ وخَبَرٌ، وذلك تَنْزيلاً لمُلازَمَةِ الذِكْرِ مَنْزِلَةَ مُلازَمَةِ الذاتِ، ومِنْهُ قولُ أَبي مَعْبَدَ الخُزاعِيِّ لامْرَأَتِهِ، أُمِّ مَعْبَدَ، لمّا أَخْبَرَتْهُ بخبرها معَ النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ ودُخولِهِ بيتَها في طَرِيقِ هِجْرَتِه، وَوَصَفَتْ لَهْ هَدْيَهُ وما رأت من بَرَكاتِهِ، فقال أبو مَعْبَدَ: هذا صاحِبُ قريش، ومنه قولُ الحَجّاجِ في بَعْضِ خُطَبِهِ لأَهْلِ العراقِ: أَلَسْتُمْ أَصْحابي بالأَهْوازِ حينَ رُمْتُمُ الغَدْرَ واسْتَنْبَطْتُمُ الكُفْرَ. يُريدُ أَنَّهمُ الذين قاتَلوه بالأَهْوازِ. فمَعْنى كونِهم أَصْحابَهُ أنَّهُ كَثُرَ اشْتِغالُهُ بِهم، ومن ذلك قولُ الفَضْلِ بْنِ عبّاسٍ اللّهبي:
كلٌّ لَهُ نِيَّةٌ في بُغْضِ صاحِبِهِ ................. بِنِعْمَةِ اللهِ نُقْليكُم وتَقْلُونا
فَوَصَفَ الرَسُولَ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ـ بأنَّه صاحِبُ الذين كذّبوا بالآياتِ، أيْ هو الذي اشْتَغَلوا بِشَأْنِهِ ولَزِمُوا الخَوْضَ في أَمْرِهِ. وقدَ تَكَرَّرَ ذَلِكَ في القُرآنِ الكريم في مثلِ قولِهِ تَعالى في سورة التكوير: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} الآية:22.
لَقَدْ بَادَرَ هَؤُلاءِ الضَّالُّونَ المُكَذِّبُونَ مِنْ قُرَيْشٍ، إلَى تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ وَرِسَالَتِهِ، وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي حَالِهِ مِنْ بَدْءِ نَشْأتِهِ، وَفِي حَقِيقَةِ دَعْوَتِهِ، وَدَلائِلِ رِسَالَتِهِ، وَآيَاتِ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى، وَقُدْرَتِهِ عَلَى إعَادَةِ الخَلْقِ إلى الحَيَاةِ مَرَّةً أُخْرَى، كَمَا بَدَأَهُمْ أوَّلَ مَرَّةٍ.
قولُهُ {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ} إنَّهُمْ إنْ تَفَكَّرُوا فِي ذَلِكَ أَدْرَكُوا أَنَّ صَاحِبَهُمْ مُحَمَّداً لَيْسَ مَجْنُوناً، وَإنَّمَا هُوَ نَذِيرٌ نَاصِحٌ، وَمُبَلَِّغٌ عَنْ رَبِّهِ. فَهُوَ يُنْذِرُهُمْ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنْ عَذابٍ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ إذا لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ. ولَفْظُ النِذارَةِ إذا جاءَ مُطْلَقاً فإنَّما هُوَ في الشَرِّ، وقدْ يُسْتَعْمَلُ في الخيرِ مُقَيَّداً بِهِ.
ويَظْهَرُ مِنْ نَظْمِ الآيَةِ أَنها باعِثَةٌ لهم عَلى التفكيرِ في أَمْرِ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ وأَنَّه ليْسَ بِهِ جِنَّةٌ كَما أَحالهم بَعْدَ هذِهِ الآيَةِ على النَظَرِ، ثمَّ بَيَّنَ المَنْظورَ فِيهِ، كَذلِكَ أَحالَ هُنا على الفِكْرَةِ ثمَّ بَيَّنَ المُتَفَكَّرَ فِيه.
جاءَ في سَبَبِ نُزولِ هذِه الآيةِ الكَريمةِ ما أَخْرَجَ عَبْدٌ بْنُ حميدٍ، وابْنُ جَريرٍ الطبريُّ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، عنْ قَتادَةَ، قالَ: ذُكِرَ لَنا أَنَّ نَبيَّ اللهِ ـ صَلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ـ قامَ على الصَفا، فَدَعا قُرَيْشاً فَخذاً فخذا: يا بَني فُلانَ يا بَني فُلان، يُحَذِّرُهم بأسَ اللهِ، ووَقائعَ اللهِ إلى الصَباحِ، حتى قالَ قائلُهم: إنَّ صاحِبُكم هَذا لمجنونٌ باتَ يصوِّتُ حتى أَصْبَحَ، فأَنْزَلَ اللهُ: "أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين". وذَكَرَ بعضُهم في سَبَبِ النُزولِ أَنَّهم كانوا إذا رَأَوْا مَا يَعْرِضُ لَهُ ـ صلّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ ـ مِنْ بُرَحاءِ الوَحْيِ قالوا: جُنَّ، فَنَزَلَتْ: "إنْ هُوَ إلاَّ نَذيرٌ مُبينٌ" تَقريراً لما قَبْلَهُ وتَكْذيباً لهم فيما يَزْعمونَهُ حَيْثُ تَبَيَّن فيهِ حقيقةُ حالِهِ ـ صلى اللهُ تعالى عليه وسَلَّمَ ـ أيْ: ما هُو إلاَّ مُبالِغٌ في الإنذارِ مُظْهِرٌ لَهُ غايةَ الإظْهارِ.
قولُهُ تَعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ} الهمزةُ للإنظارِ والتَوبيخِ، وهي داخِلَةٌ على فِعْلٍ حُذِفَ للعِلْمِ بِهِ مِنْ سِياقِ القَوْلِ، والواوُ للعَطْفِ على مُقَدَّرٍ يَسْتَدْعِيه المَقام. والجِنَّةُ: مَصْدَرٌ، كالجِلْسَةِ بمعنى الجُنونِ. وأَصْلُ الجَنِّ السَتْرُ عَنِ الحاسَّةِ. ويجوزُ في "ما" أَوْجُهٌ، أحدُها: أَنْ تَكونَ اسْتِفْهامِيَّةً في محلِّ رَفْعٍ بالابْتِداءِ، والخبر "بصاحبهم" أي: أَيُّ شَيْءٍ اسْتَقَرَّ بِصاحِبِهم مِنَ الجُنونِ؟ فالجِنَّةُ مَصْدرٌ يُرادُ بها الهيئةُ كالرِّكْبة والجِّلْسَةِ. وقيل: المُرادُ بالجِنَّةِ الجِنُّ وهو كَما في قولهِ تعالى: {مِنَ الجِنَّةِ والنَّاسِ} الآية: 119 من سورة هود. والأخيرة من سورة الناس. ولا بُدَّ حينئذٍ مِِنْ حَذْفِ مُضافٍ أيْ: مَسِّ جِنَّةٍ أوْ تخْبيطِ جِنَّةٍ.
والثاني: أنَّ "ما" نافية، أي: ليسَ بِصاحِبِهم جُنونٌ ولا مَسُّ جِنِّ. وفي هاتين الجُملتين: أَعْني الاسْتِفْهامِيَّةَ أوِ المَنْفيَّةَ فيهما وجهان، أَظْهَرُهما: أَنها في محلِّ نَصْبٍ بَعْدَ إسْقاطِ الخافِضِ لأنَّهما عَلَّقا التفكُّر لأنَّه مِنْ أفعالِ القُلوب. والثاني: أَنّ الكلامَ تمَّ عندَ قولِهِ: "أو لم يتفكروا" ثمَّ ابْتَدَأَ كلاماً آخَرَ: إمَّا اسْتِفهامَ إنْكارٍ وإمَّا نَفْياً. وقالَ الحُوفيُّ: إنَّ "ما بصاحبهم" مُعَلَّقةٌ لِفِعْلٍ محْذوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الكَلامُ، والتقدير: أَوْ لم يَتَفَكًَّروا فيَعْلَموا ما بِصاحِبِهم. قال: "وتفكَّر" لا يُعَلَّقُ لأنَّه لم يَدْخُلْ على جملة. وهذا ضعيفٌ، لأنهم نَصُّوا على أنَّ فِعلَ القَلْبِ المُتَعَدِّي بحرفِ جَرٍّ أوْ إلى واحدٍ إذا عُلِّقَ هلْ يَبْقى عَلى حالِهِ أَوْ يُضَمَّن ما يَتَعَدَّى لاثْنَينِ. وفعلُ "يَتَفَكَّرُوا" مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللازِمِ فَلا يُقَدَّرُ لَهُ مُتَعَلِّقٌ للاسْتِغْناءِ عَنْ ذلك بما دَلَّ عَليْهِ النَفْيُ في قولِهِ: "مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ" أيْ أَلمْ يَكُونوا مِنَ المُفَكِّرينَ أَهْلِ النَظَرِ، والفِعْلُ المُعَلَّقُ عَنِ العَمَلِ لا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعولٌ ولا مُتَعَلِّقٌ. والمَقْصودُ مِنْ تَعْليقِ الفِعْلِ هُوَ الانْتِقالُ مِنْ عِلْمِ الظانِّ إلى تحقيقِ الخَبَرِ المَظْنونِ وجَعْلُه قَضيَّةً مُسْتَقِلَّةً، فيَصيرُ الكَلامُ بمنْزِلَةِ خَبريْنِ، خَبَرٌ مِن جانب الظانِّ ونحوِهِ، وخَبَرٌ مِنْ جانِبِ المُتَكَلِّمِ دَخَلَ في قِسْمِ الواقِعاتَ، فَنَحْو قولِهِ تعالى في سورة الأنبياء: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} الآية: 65. هُوَ في قُوَّةِ أَنْ يُقالَ: لَقَدْ عَلِمْتَ لا يَنْطقونَ ما هؤلاءِ يَنْطِقونَ، أَيْ ذلِكَ عِلْمُكَ وهذا عِلْمي، وقولُهُ هُنا: "أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ" في قُوَّةِ: أَوَ لم يَتَفَكَّرُوا صاحِبُهم غيرُ مجْنونٍ، ما بِصاحِبِهم مِنْ جِنَّةٍ. فتَعليقُ أَفْعالِ القَلْبِ ضَرْبٌ مِنْ
ضُروبِ الإيجازِ، وهَذا هُو الغَرَضُ مِنْ أُسْلوبِ التَعليقِ.
الثالث: أَنْ تَكونَ "ما" مَوصولةً بمعنى الذي تقديرُه: أَوَ لم يَتَفَكَّروا في الذي بِصاحبِهم، وعلى هذا يكونُ الكلامُ خَرَجَ على زَعْمِهم. وعلى قَوْلِنا إنها نافية يكون "من جنة" مبتدأً، ودُخُولُ "مِنْ" على مَنْفيِّ "ما" لِتَأْكِيدِ الاسْتِغْراقِ في النفيِ. وقيل: هي مَزيدةٌ فيه، و "بصاحبهم" خبره، أيْ: ما جِنَّةٌ بِصاحِبِهم.
قولُهُ: {إنْ هو إلاَّ نذير} إنْ: نافيةٌ بمعنى "ما"، و "هو" مبتدأٌ و "إلاَّ" أداةُ حصرٍ، و "نذير" خبرُ المُبتدأِ، وهذه الجملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ استئنافاً بيانياً لجوابِ سائلٍ مِنْهُم يَقولُ: فماذا شَأْنُهُ، أوْ هِيَ تَقريرٌ لحُكْمِ جملَةِ "مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ" فَفُصِلَتْ لِكَمالِ الاتِّصالِ بَيْنَهُما المُغْني عَنِ العطف فيما يُبَلِّغُهُ مِنْ نِذارَةٍ وغَيْرِها.