وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
(174)
قولُه ـ عَزَّ مِنْ قائل: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ} وَمَثَلُ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ المُسْتَتْبعِ لِلْمَنَافِعِ الجَلِيلَةِ، نُفَصِّلُ لِلنَّاسِ الآيَاتِ وَالدَّلاَئِلَ عَلَى وُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، لِيَسْتَعْمِلُوا عُقُولَهُمْ فِي التَّبَصُّرِ فِيها، وَالتَّدَبُّرِ فِي أَمْرِهَا.
قولُهُ: {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ جَهَلِهِمْ، وَعَنْ تَقْلِيدِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ، وَيَهْتَدُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. فالرُجوعُ إلى الفِطْرَةِ القَويمَةِ كَفيلٌ بِغَرْسِ عَقيدَةِ التَوْحيدِ في القُلوبِ، ورَدِّها إلى بارِئها الواحِدِ القَهَّارِ الذي فَطَرَها على الحَقِّ، وصَرَفَها عَنِ الجَهْلِ والتَقْليدِ. فإنَّ اللهَ تَعالى فَطَرَ هَذِهِ الأَنْفُسَ على ذَلك وجَبَلَهم عَلَيْهِ، قالَ تَعالى في سورةِ الرومِ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِِ} الآية:30. وفي الصَحيحَين عَنْ أَبي هُريرَةَ، رَضيَ اللهُ عَنْه، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((كُلُّ مَوْلودٍ يُولَدُ على الفِطْرَةِ (وفي رواية: على هذِهِ المِلَّةِ) فأَبَواهُ يُهَوِّدانِهِ، ويُنَصِّرانِهِ، ويُمَجِّسانِهِ، كَما تُولَدُ البَهيمَةُ بهيمةً جمعاءَ، هلْ تحِسّونَ فيها مِنْ جَدْعاءَ)). وفي صحيح مسلم، عن عياض بْنِ حمّارٍ قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم: ((يَقولُ اللهُ تَعالى إنِّي خَلَقْتُ عِبادي حُنَفاءَ فجاءَتْهم الشياطينُ فاجْتالَتْهم، عَنْ دينِهم وحَرّمَتْ عَلَيْهِمْ ما أَحْلَلْتُ لهم" صحيح مسلم برقم (2865)،
وروى الإمامُ أَبو جَعْفَرَ ابْنُ جَريرٍ، رَحمهُ اللهُ: بِسَنَدِهِ عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ سَريعٍ مِنْ بَني سَعْدٍ، قالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَرْبَعَ غَزَواتٍ، قالَ: فَتَناوَلَ القَوْمُ الذُرِّيَّةَ بَعدَ ما قَتَلُوا المُقاتِلَةَ، فَبَلَغَ ذَلكَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاشْتَدَّ عَلَيْهِ، ثمَّ قالَ: ((ما بالُ أَقوامٍ يَتَناوَلونَ الذُرِّيَّةَ؟)) قالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللهِ، أَلَيْسُوا أَبْناءَ المُشْركين؟ فقال: ((إنَّ خِيَارَكُمْ أَبْناءُ المُشرِكينَ! أَلاَ إنَّها لَيْسَتْ نَسْمَةٌ تُولَدُ إلاَّ وُلَدَتْ عَلى الفِطْرَةِ، فما تَزَالُ عَلَيْها حَتّى يُبِين عَنْها لِسانُها، فأَبَواها يُهوِّدانِها أَوْ يُنَصِّرانِها)).
قالَ الحَسَنُ البصريُّ ـ رضي اللهُ عنه: واللهِ لَقدْ قالَ اللهُ في كِتابِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} فأَخَذَ الحقّ جلّ جلالُه العَهْدَ على الأَرْواحِ أَنْ تَعْرِفَهُ وتُوَحِّدَهُ مَرَّتين، إحداهما: قبلَ ظُهورِ الكائناتِ، والثانية: بَعْدَ ظُهورَها. والأَوَّلُ أَخَذَهُ عَلَيْها في مَعْرَفَة الرُبوبِيَّة، والثاني تجديدًا لَهُ مَعَ القِيامِ بآدابَ العُبودِيَّةِ. وقالَ بَعضُهم: أَخَذَ الأَوَّلَ على الأَرْواحِ يَومَ المَقاديرِ، وذلك قَبْلَ السَماواتِ والأَرْضِ بخمسينَ أَلْف سَنَةٍ، ثمَّ أَخَذَ الثاني على النُفوسِ بَعدَ ظُهورِها في عالَمِ الأَشْباحِ، كما نَبَّهتْ عليهِ الآيةُ والأَحاديثُ.
وإلى ذلك أشارَ ابْنُ الفارِضِ ـ رضِيَ اللهُُ عَنه ـ في تائيَّتِهِ:
وَسَابِقِ عَهْدٍ لَمْ يَحُل مُذ عَهِدتُهُ ....... ولا حِقِ عَقدٍ جَلَّ عَنْ حَلِّ فتْرَةِ
قال الإمامُ القاشانيُّ: أَرادَ بالعَهْدِ السابِقِ: ما أَخَذَهُ اللهُ عَلى الأَرْواحِ والإنْسانِيَّةِ المُسْتَخْرَجَةِ مِنْ صُلْبِ الرُوحِ الأَعْظمِ، الذي هو آدمُ الكَبيرُ، في صُوَرِ المَثَلِ، قَبْلَ تَعَلُّّقِها بالأَشْباحِ، وهُو عَقْدُ المحبَّةِ بَينَ الرَبِّ والَمرْبوبِ، في قولِهِ ـ سُبحانَهُ: {وإذ أَخَذَ رَبُّكَ . . . } الآية. وبالعَهْدِ اللاّحِقِ: ما أَخَذَهُ عليهم بِوساطةِ الأَنْبِياءِ، مِنْ عَقْدِ الإسْلامِ بَعدَ التَعَلُّقِ بالأَبْدانِ، وهوَ تَوكِيدٌ للعَهْدِ الأَوَّلِ، وتَوثيقِهُ بالتِزامِ أَحْكامِ الرُبوبِيَّةِ والتِزامِها.
والحاصلُ: أَنَّ الأَخْذَ الأَوَّلَ كان عَلى الأَرْواحِ مُجَرَّدَةً عَنْ مادَّةِ التَطويرِ والتَمثيلِ، بإقرارِها إقرارَ النُفوسِ، لا إقرارَ الأَلْسِنَةِ، والأَخْذُ الثاني كان على الأرواحِ بَعدَ خُروجِها مِنَ الوُجودِ العِلْمِيِّ إلى الوُجودِ العَيْنِيِّ، فتَطَوَّرِتِ الأَرْواحُ بِصفاتِها الذاتِيَّةِ، مِنْ سمْعٍ وبَصَرٍ ولِسانٍ وغيرِها، في عالم المِثالِ، بِصُوَرٍ مَقالِيَّةٍ؛ لتُبْصِرَ بها ظُهورَ الرَبِّ، وتَسْمَعُ خِطابَهُ، وتجيبُ سُؤالَهُ، بإقرارِها حِينَئذٍ إقرارَ الأَلْسِنَةِ، وهُوَ الذي يَقتَضِيهِ ظاهرُ الآيَةِ: 172. من هذه السورة وأَمَّا العَهْدُ الذي أَخَذَهُ عليها، فلا بُدَّ مِنِ انْضِمامِهِ إِلى الأوَّلَين في قيامِ الحُجَّةِ، كما تقدَّمَ.
فالمُوجَداتُ ثَلاثٌ: عِلْمِيٌّ، ثمَّ خَيالِيٌّ مِثاليٌّ، ثمَّ نَوْعِيٌّ حِسِّيٌّ. فَأُخِذَ على كُلِّ واحِدٍ عَهْدٌ؛ مِنَ الأَوَّلَيْنِ بِلا واسِطَةٍ، والثالثُ بِوساطَةِ الرُسُلِ. واللهُ تَعالى أَعْلَمُ.
قولُهُ تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ} الواو: ابتدائيَّةٌ كالتي قَبْلَها، ويجوزُ أنْ تَكونَ للعطفِ عطفت على مُقَدَّرٍ، أيْ: لِيَقِفوا على ما في ها تيك الآياتِ مِنَ المُرَغِّباتِ والزَواجِرِ، أوْ لِيَظْهَرَ الحَقُّ ولَعَلَّهم يَرْجِعونَ، وقيلَ: هي سَيْفُ خَطيبٍ. "كذلك" الكافُ للتشبيه، و "ذا" للإشارةِ، والكافُ الثانيةُ لخِطابِ البعيد، والإشارةٌ هي إلى مَصْدَرِ الفِعْلِ المَذْكورِ بَعدَهُ، وما فيهِ منْ مَعنى البُعْدِ للإيذانِ بَعلوِّ شَأْنِ المُشارِ إِلَيْهِ وبُعْدِ مَنْزِلَتِهِ، والكافُ مُقْحَمَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لما أَفادَهُ اسْمُ الإشارَةِ مِنَ الفَخامةِ، والتَقديمُ على الفِعْلِ "نفصِّل" لإفادَةِ القَصْرِ، ومحلُّ جملةِ "نفصِّلُ" النَصْبُ على المَصْدَرِيَّةِ، أَيْ ذَلِكَ التَفْصيلَ البليغَ المُسْتَتْبِعَ للمَنافِعِ الجَلِيلَةِ "نُفَصّلُ الآيات" المذكورةَ لا غَيرَ "ذلك".
وقولُه {ولَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} الواو: ابْتدائيَّةٌ أيضاً، ويجوزُ أَنْ تَكونَ عاطفَةً على مُقَدَّرٍ مُتَرَتِّبٍ على التَفْصيلِ، ويصبحُ التركيبُ المُقَدَّرُ: وكذلك نُفَصِّلُ الآياتِ لِيَقِفوا على ما فيها مِنَ المُرَغِّباتِ والزَواجِرِ ولِيَرْجِعوا. أَيْ: ولِيَرْجِعِوا عَمَّا هُمْ عَليْهِ مِنَ الإصرارِ على الباطلِ وتَقْليدِ الآباءِ نَفصِّلُ التَفْصيلَ المذكورَ.
قرأ العامَّةُ: {نُفصِّل} بضمير المتكلمِ العائدِ عل ذات الحقِّ تبارك وتعالى، وقرأتْ فِرْقَةٌ "يُفَصّلُ" بِياءِ الغَيْبَةِ وهوَ اللهُ تَعالى أيضاً.