أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا
فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ
(173)
قولُهُ ـ تباركت أسماؤه: {أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا وَكُنَّا ذُرّيَّةً مّن بَّعْدِهِمْ} أيْ: أَوْ تَقُولُواْ في ذلك اليومِ إنَّ آباءنا هُمُ اخْتَرَعوا الإشْراكَ وهُمْ سَنُّوهُ مِنْ قَبْلِ زَمانِنا، وجئنا نحن بعدَهم فكُنَّا على دينِِهم تَبَعاً لهم ولم نهتَدي إلى سَبيلِ التَوحيدِ، لأنَّنا ذُرِّيَّةٌ لهم، وشَأْن الذُرِّيَّةِ الاقْتِداءُ بالآباءِ وإقامةُ عَاداتهم. وقد وقَعَ إيجازٌ في الكَلامِ فأَقِيمَ التَعْليلُ مَقامَ المُعَلَّلِ. وكأنَّ الحقَّ يُريدُ أَنْ يَقْطَعَ عَليهمْ حُجَّةَ مُخالَفَتِهم لَمِنْهَجِ الله تعالى، فيُنَبِّهَ إلى عَهْدِ الفِطْرَةِ والطَبيعَةِ والسَجِيَّةِ المَطْمورَةِ في كُلِّ إنْسانٍ؛ حَيْثُ شَهِدَ كُلُّ كائنٍ بأنَّ الله هو إلهٌ واحدٌ أَحَدٌ، فيُذَكِّرُنا ـ سبحانه ـ بهذا العَهْدِ الفِطْرِيِّ قَبْلَ أَنْ تُوجَدَ أَغْيارُ الشَهَواتِ فِينا.
وفي هذه الآية دليلٌ على أَنَّ الإيمانَ بالإلهِ الواحِدِ مُسْتَقِرٌّ في فِطْرَةِ العَقْلِ، لَوْ خُلِّيَ ونَفْسَهُ، وتَجَرَّدَ مِنَ الشُبُهاتِ الناشئةِ فيهِ مِنَ التَقْصيرِ في النَّظَرِ، أَوِ المُلْقاةِ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الضَلالَةِ المُسْتَقِرَّةِ فيهم الضَلالَةُ، بِقَصْدٍ أَوْ بِغَير قَصْدٍ، ولِذلك قالَ الماتُريدِيُّون والمُعْتَزِلَةُ: بأَنَّ الإيمانَ بالإلَهِ الواحِدِ واجِبٌ بالعَقْلِ، ونُسِبَ إلى أَبي حَنيفَةَ هذا أيضاً إلى الماورْدِيُّ وبعضِ الشافِعِيَّةِ مِنْ أَهْلِ العِراقِ، وعَليْه انْبَنَتْ مُؤاخذةُ أَهْلِ الفَتْرَةِ على الإشراكِ، وقالَ الأَشاعرةُ: مَعْرِفَةُ اللهِ واجِبَةٌ بالشَرْعِ لا بالعَقْلِ تَمَسُّكاً بقولِهِ تَعالى في سورةِ الإسراءِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} الآية: 15. ولَعَلَّهُ أَرْجَعَ مُؤاخَذَةَ أَهْلِ الفَتْرَةِ على الشِرْكِ إلى التَواتُرِ بمَجيءِ الرُسُلِ بالتَوحيدِ.
قولُه: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلون} أيْ أتؤاخذُنا بجهلِنا وتَأْخُذُنا بجريرةِ آبائنا المُضِلِّينَ فَتُهْلِكُنا اليومَ بالعَذابِ المُهين؟ لا نَراكَ تَفْعَلُ.
والمُبْطِلون همُ الآخِذونَ بالباطِلِ، وهوَ في هذا المَقامِ الإشْراكُ، والمُبْطِلونَ الآخِذونَ بالباطِلِ، وهُوَ في هذا المَقامِ الإشراكُ.
قولُهُ: تعالى: {أَوْ تقولوا} أو: لِمَنْعِ الخُلُوِّ دُونَ الجَمْعِ، و قولُه: "تقولوا" فعلٌ مُضارِعُ مَعطوفٌ على نَظيرِهِ أي قولُهُ في الآية السابقةِ: {أنْ تقولوا}.
قرأ الجمهورُ: {تقولوا} بالتاءِ، وقَرَأَهُما أَبو عَمْرٍو بالياءِ عَلى الغَيْبَةِ لأنَّ صَدْرَ الكَلامِ عَلَيْها، ووجهُ قِراءَةِ الخِطابِ ما عَلِمْتَ من الآية السابقة.
قولُهُ: {مِنْ بَعْدِهِمْ} نَعْتٌ لِ "ذُرِّيَّةً" لما تُؤذِنُ بِهِ "ذُرِّيَّةً" مِنَ الخَلَفِيَّةِ والقيامِ في مَقامِهُم.
قولُهُ: {أَفَتُهْلِكُنَا} اسْتِفْهامٌ إِنْكارِيٌّ، والإهلاكُ هُنَا مُسْتَعارٌ للعَذابِ.