فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
قولُهُ ـ جلَّ وعَزَّ: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أيْ فلَمّا تَمَرَّدتْ تِلْكَ الفرقةُ من بني إسرائيل، على أَمْرِ رَبِّها ووَعْظِ الفِرْقَةِ الواعظةِ وتحذيرها، وتجاوزت تلك الطائفةُ ما نهاها اللهُ عَنْهْ وأصرَّتْ على الصيدِ في يَومِ السبتِ, قال لهمُ اللهُ ـ تبارك وتعالى: كونُوا قِرَدَةً خاسئين، أذلاّءَ صاغرين خائبين مُبعَدينَ مِنْ كلِّ خَيرٍ بعيدين عن الناس, فَكانوا كذلك، والمقصودُ هو توجّهُ الإرادةِ الهيةِ بالأمرِ التكويني لا القوليِّ التَكْليفيِّ لانَّهم لا يَقْدِرونَ على قَلْبِ أنْفُسِهم قِرَدَةً، وتكليفُ العاجِزِ غيرُ مَعقولٍ، فليس ثمَّةَ قولٌ ولا أَمْرٌ ومأْمورٌ حقيقةً وإنّما هُو تَعَلُّقُ قُدْرَةٍ وإرادَةٍ بِمَسْخِهم، وترتيبُ المسخِ على العُتُوِّ عَنِ الانْتِهاءِ عَمَّا نُهُوا عَنْهُ للإيذانِ بأنَّهُ لَيْسَ لِخُصوصِيَّةِ الحُوتِ بَلِ العُمْدَةُ في ذلك هُو مخالَفَةُ الأَمْرِ والعِصيانُ لأمرهُ تعالى. وقيل: المرادُ بالعذابِ البَئيسِ هُوَ المَسْخُ والجملةُ الثانية تقريرٌ للأولى وهي كالتَأْكيدِ لِقَوْلِهِ في الآية التي قبلَها: {فَلَمَّا نَسُوا} وقد صِيغَ بهذا الأُسلوبِ لتَهْويلِ النِسْيانِ والعُتُوِّ، فالمعنى: أَنَّ النِسْيانَ، وَقَعَ مُقارِناً للعُتُوِّ. وأَنَّ {مَا ذُكِّرُوا بِهِ} و "مَا نُهُوا عَنْهُ" شيءٌ واحدٌ، فكانَ مُقْتَضى الظاهِرِ أَنْ يُقالَ: فلمَّا نَسُوا وعَتَوا عَمّا نُهُوا عَنْه وذُكِّروا بِهِ قُلْنا لَهُم كونوا قردةً خاسئينَ وأخذناهم بعذابٍ بئيسٍ. فعَدَلَ عَنْ مُقْتَضى الظاهِرِ إلى هذا الأُسْلوبِ مِنَ الإطْنابِ لِتَهويل أَمْرِ العَذابِ، وتَكْثيرِ أَشْكالِهِ، ومَقامُ التَهويلِ مِنْ مُقْتَضياتِ الإطْنابِ كما هو في إعادَةِ التَشْبيهِ عند لبيدٍ بقولِه:
فتَنازَعا سِبْطاً يَطيرُ ظِلالُهُ .............. كَدُخانِ مُشْعَلَةٍ يَشِبُّ ضِرامُها
مَشْمولَةٍ غَلِثَتْ بِنابِتِ عَرْفَجٍ .............. كَدُخانِ نارٍ ساطِعٍ أَسْنامُها
ولكنَّ أُسْلوبَ الآيةِ أَبْلَغُ وأَبْعَدُ عَنِ التَكْريرِ اللَّفْظيِّ، فمَا في بَيْتِ لَبيدٍ كلامٌ بَليغٌ، وما في الآيةِ كلامٌ مُعْجِزٌ.
واسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ العِلمِ بِقِصَّةِ هؤلاءِ المُعْتَدينَ من بني إسرائيل على حُرْمَاتِ اللهِ تعالى والتحايُل عليها، على أنَّ الحِيَلَ في الدين محرَّمةٌ، وأَيَدَ ذلك بما أَخْرَجَهُ ابْنُ بَطَّةَ عَنْ أَبي هُريرةَ ـ رضي اللهُ عنه ـ أَنَّ رسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((لا تَرْتَكِبوا ما ارْتَكَبَ اليَهودُ فَتَسْتَحِلّوا محارِمَ اللهِ تَعالى بِأَدنى الحِيَلِ)). حديثٌ حسنٌ. واحتج به أَحمدُ رحمهُ اللهُ على بُطلانِ الحيلِ وتحريمِها، واحتج به على تحريم الحيل لإسقاط الشفعة واحتجَّ ابنُ عبّاسٍ وبعدَهُ أَيّوبُ السَخْتَياني وغيرُهُ مِنَ السَلَفِ: بأنَّ الحيلَ مخادَعَةُ للهِ تَعالى وقدْ قال تعالى: {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم} قال ابْنُ عباس: ومَنْ يُخادِعِ اللهَ يَخْدَعْهُ.