وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} ثم افترقت بنو إسرائيل ثلاث فرق: فرقةٌ عَصَتْ بالصَيْدِ يَومَ السَّبْتِ، وفِرْقَةٌ نَهَتْ عَنْ ذلكَ واعْتَزَلَتْ القَوْمَ، وفِرْقَةٌ سَكَتَتْ واعْتَزَلَتْ فلَمْ تَعْصِ ولم تَنْهَ. والفرقة موضعُ الحديث هنا التي لمْ تَنْهَ ولم تَعْصِ. لَمَّا رَأَتْ مُهاجَرَةَ الناهِيَةِ وطُغْيانَ العاصِيَةِ، قالت: "لِمَ تَعِظُون قومًا اللهُ مُهْلِكُهم" بالمَوْتِ بِصاعِقَةٍ، "أو معذبهم عذابًا شديدًا" في الآخِرَةِ؟
قولُهُ: {قالوا معذرة إلى ربكم} أيْ: نهيناهم عُذْرًا إلى الله تعالى، حتى لا ننسب إلى تفريط في النهي عن المنكر ،
قولُهُ: {ولعلهم يتقون} فيَنْزَجِرونَ عَنِ العِصْيانِ، إذْ اليَأْسُ مِنْهم لا يَحْصلُ إلاَّ بالهَلاكِ.
أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما ـ في قولِهِ: "واسْأَلهم عَنِ القَرْيَةِ التي كانتْ حاضرةَ البَحْرِ" قال: هي قريةٌ على شاطئِ البحرِ بَينَ مِصْرَ والمدينةِ يُقالُ لها (أُيْلَة)، فحرَّمَ اللهُ عليهِمُ الحيتانَ يَوْمَ سَبْتِهم، فكانتْ تَأتيهم يومَ سَبْتِهم شُرَّعاً في ساحلِ البَحْرِ، فإذا مضى يومُ السَبْتِ لم يَقْدِروا عَليْها، فَمَكَثوا كَذلِكَ ما شاءَ اللهُ، ثمَّ إنَّ طائفةً مِنْهم أَخَذوا الحيتانَ يَوْمَ سَبْتِهم، فَنَهَتْهُمْ طائفةٌ فلم يَزْدادوا إلاَّ غيّاً. فقالتْ طائفةٌ مِنَ النُهاةِ: تَعْلَمونَ أَنَّ هؤلاء قومٌ قد حَقَّ عليهِمُ العُذابُ {لمَ تَعِظونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهم} وكانوا أَشَدَّ عَضَباً مِنَ الطائفةِ الأُخْرى، وكلٌّ قَدْ كانوا يَنْهَوْنَ، فلمّا وَقعَ عَليهم غَضَبُ اللهِ نَجَتِ الطائفتانِ اللَّتانِ قالَتا: لم تَعظُون؟ والذين {قالوا: مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُم} وأَهْلَكَ اللهُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ الذين أَخَذوا الحيتانَ، فَجَعَلَهم قِرَدَةً.
قولُهُ تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ} إذ" فيه لها حُكْمُ أُخْتِها، المعطوفةِ هي عَلَيْها، وقد تقدَّمَ تفصيلُ ذلك في الآية السابقة. وهذه الجملةُ عَطْفٌ على قولِهِ: {إِذْ يَعْدُونَ} والتقديرُ: واسْأَلْ بَني إسرائيلَ إذْ قالتْ أُمَّةٌ مِنْهُم، فالتقديرُ: واسْأَلهم عَنْ وَقْتِ قالتْ أُمَّةٌ، أيْ عَنْ زَمَنِ قولِ أُمَّةٍ مِنْهم، والضَميرُ المجرورُ ب "مِنْ" عائدٌ إلى ما عادَ إلَيْهِ ضَميرُ {اسْأَلْهُمْ} وليسَ عائداً إلى القَرْيَةِ، لأنَّ المقصودَ تَوبيخُ بَني إسرائيلَ كُلَّهم، فإنْ كانَ هذا القولُ حَصَلَ في تِلكَ القَرْيَةِ، فهو غيرُ مَنْظُورٍ إلى حصولِه في تِلْكَ القَرْيَةِ حصراً، بَلْ مَنظورٌ إليه بأنَّه مَظْهَرٌ آَخَرُ مِنْ مَظاهِرِ عِصْيانِهم وعُتُوِّهم عن أمر ربِّهم، وقلَِّةِ جَدْوى المَوْعِظَةِ فيهم، وإنَّ ذلكَ شأنٌ مَعلومٌ مِنْهم عِنْدَ عُلَمائهم وصُلَحائهم، ولِذلِكَ لمَّا عُطِفَتْ هذِهِ القِصَّةُ أُعِيدَ مَعَها الظرفُ، أَوْ اسْمُ الزَمانِ "إذ" فَقيلَ: "وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ" ولم يُقَلْ: وقالتْ أُمَّةٌ.
قولُه: {معذرةً} نَصْبٌ على المفعولِ مِنْ أَجْلِهِ، أيْ: وَعَظْناهُ لأَجْلِ المَعْذِرَةِ. قالَ سِيبَوَيْهِ: ولو قالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: مَعْذرةً إلى اللهِ وإليكَ مِنْ كذا انتصب. أو أَنها مَنْصوبةٌ على المَصْدَرِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ مِنْ لَفْظِها تَقديرُه: نَعْتَذِرُ معذرةً. أو أَنْه نصبٌ على المَفعوليَّةِ لأنَّ المعذرةَ تَتَضَمَّنُ كلاماً، والمفردُ المتضمنُ لكلامٍ إذا وَقَعَ بَعْدَ القَوْلِ نُصِبَ نَصْبَ المفعولِ بِهِ، كَ: قُلْتُ خُطْبَةً. وسِيبَوَيْهِ يختارُ الرَّفْعَ، على أنَّه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ تقديرُه: موعظتُنا معذرةٌ، قالَ: لأنَّهم لم يُريدوا أَنْ يَعْتَذِروا اعْتِذاراً مُسْتَأْنَفاً، ولكنَّهم قيلَ لهم: لِمَ تَعِظُون؟ فقالوا: مَوْعِظَتُنا مَعذرةٌ. والمَعْذِرة: اسمُ مَصْدَرٍ وهُو العُذْر. والعُذْرُ: هو التَنَصُّلُ مِنَ الذَنْبِ.
قرأ العامَّةُ {معذرةٌ} بالرَفعِ. وقرَأَ حَفْصُ عَنْ عاصِمٍ، وزَيدُ بْنُ عليٍّ، وعيسى بْنُ عُمَرَ، وطَلْحة بْنُ مُصَرِّفٍ: "معذرةً" بالنَصْبِ.