فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ
(162)
قولُه ـ تعالى شأنُه: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} في الآيةِ دليلٌ على أَنهم افْتَرَقوا فِرقَتَين؛ لأنَّه ـ سبحانه ـ قال: "مِنْهُمْ" وهذا يعني أنَّ بَعْضَهم قالَ وفَعَلَ ما طُلِبَ منهم، وأنَّ بعضَهم الآخر ظَلَمَ وبَدَّلَ القَوْلَ، فقدْ أَمَرَهم الحقُّ ـ تبارك وتعالى ـ أنْ يَقولوا: {حطة} كما سبق أن بين في الآية السابقة، وطَلَبَ منهم أَنْ يَدْخُلوا سُجَّداً. والتَغْييرُ مِنْهم جاءَ في القَوْلِ؛ لأنَّ القولَ قدْ يَكونُ بين الإِنسانِ وبينَ نَفْسِهِ بحيثُ لا يَسْمَعُهُ غيرُهُ. لكنَّ الفِعْلَ مَرْئيٌّ مشاهَدٌ مما يَدُلُّ على أَنَّ بَعضَهم يُرائي بَعضاً، ففي القَوْلِ أَرادوا أَنْ يَهْذروا ويَتَكَلَّموا بما لا يَنْبَغي ولا يَليقُ، فَبَدَلاً مِنْ أَنْ يَقولوا: "حِطَّةٌ" قالوا: "حنطة" اسْتِهْزاءً بالكَلِمَةِ. كما جاء في بعض الروايات. فقد روى ابنُ أبي حاتم تفسير ابن أبى حاتم عَنْ أَبِي الْكَنُودِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ابنِ مسعودٍ: {وَقُولُوا حِطَّةٌ}، فَقَالُوا: حِنْطَةٌ حَبَّةٌ حَمْرَاءُ فِيهَا شَعْرَةٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: "فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ". وفي رواية أخرى له عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: "أَنَّهُمْ قَالُوا: (هطى سمقاثا أزبه مزبا) فَهِيَ بِالْعَرَبِيَّةِ: حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَمْرَاءُ مَثْقُوبَةٌ فِيهَا شَعْرَةٌ سَوْدَاءُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: "فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ". وهكذا نَرى أَنَّ التَبديلَ جاءَ في القولِ، لكنَّ الفِعلَ لم يَأْتِ فِيهِ كلامٌ هُنا في الآية، وإنْ جاءَ أَنَّ التَبْديلَ أَيْضاً حَدَثَ مِنْ بعضِهم في الفِعْلِ. فَبَدَلاً مِنْ أَنْ يَدْخُلوا ساجدينَ دَخَلوا زَاحفينَ عَلى مِقْعداتِهم، تَعالياً واسْتِكباراً، كما وَرَدَ في الحَديثِ الشريفِ عَنْ أَبي هُريرةَ: ((فَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ)). وقد تَقَدَّم ذِكْر شيءٍ مِنْ ذلك؛ لأَنَّ سُلوكَهم في الفِعلِ قدْ يَكونُ السّبَبُ فيهِ أَنَّ بعضَهم لا قُدْرَةَ لَهُ عَلى الفِعلَ. وأخرج ابنُ أبي حاتمٍ تفسير ابن أبى حاتم أيضاً عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قِيلَ لَهُمْ: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} فَدَخَلُوهُ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ. وأَخْرَجَ أيضاً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما ـ فِي قَوْلِهِ: "ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا"، قَالَ: رُكَّعًا مِنْ بَابٍ صَغِيرٍ: فَجَعَلُوا يَدْخُلُونَ مِنْ قِبَلِ إِسْتَاهِهمْ، وَقَالُوا: حِنْطَةٌ فَهُوَ قَوْلُهُ: "فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ" وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَيَحْيَى بْنِ رَافِعٍ، نَحْوُ ذَلِك. وقالَ الإمامُ ابْنُ كَثيرٍ: "وحاصل ما ذكره المفسِّرونَ وما دَلَّ عليه السِياقُ أَنهم بَدَلوا أَمْرَ اللهِ لهم مِنَ الخُضوعِ بالقولِ والفِعْلِ. فقد أُمِروا أَنْ يَدْخُلوا البابَ سُجَّداً فدَخَلوا يَزْحَفونَ على أَسْتاهم رافعي رُؤوسِهم. وأُمِروا أَنْ يَقولوا حِطَّةٌ ـ أيْ احْطُطْ عَنَّا ذُنُوبَنا ـ فاسْتَهزؤوا وقالوا حِنطةٌ في شَعيرةٍ. وهذا في غايةِ ما يَكون مِنَ المُخالَفَةِ والمُعانَدَةِ ولهذا أَنْزَلَ اللهُ بهم بَأْسَهُ وعَذابَهُ بِفِسْقِهم وخُروجِهم عَنْ طاعَتِه. وأَخْرَجَ البُخاري عنْ أَبي هُريرَةَ ـ رضي اللهُ عنه ـ عنِ النَبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ أَنَّهُ قال: ((قيلَ لِبَني إسْرائيلَ ادْخُلوا البابَ سُجَّداً وقُولوا حِطَّةٌ فَبَدَّلوا ودَخَلوا يَزْحَفُونَ على أَسْتاهُم، وقالوا: حَبَّةٌ في شَعيرةٍ".
قولُهُ: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} الرجزُ: العذابُ، جاء ذلك فيما رواه ابنُ أبي حاتم بسندِهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم ـ قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الطَّاعُونُ رِجْزٌ عَذَابٌ، عُذِّبَ بِهِ قَوْمٌ قَبْلَكُمْ)). وأخرج كذلك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: "رِجْزاً"، قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الرِّجْزِ يَعْنِي بِهِ الْعَذَابَ". وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَقَتَادَةَ، نَحْوُ ذَلِكَ. وروى عَنْ أَبِي الْعَالِيَةَ، فِي قَوْلِهِ: "رِجْز"، قَالَ: الرِّجْزُ: الْغَضَبُ". وعَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: "الرِّجْزُ: إِمَّا الطَّاعُونُ، وَإِمَّا الْبَرْدُ". وروى الطبريُّ عن أبي جَعْفَرِ: يقول تعالى ذكرُه: فغيَّر الذين كفروا بالله منهم ما أمرَهمُ اللهُ بِهِ مِنَ القوْلِ، فقالوا ـ وقدْ قِيلَ لهم: قولوا: هذه حِطَّةٌ: "حِنْطَةٌ في شَعيرةٍ". وقولُهُ تَعالى: "فأرسلنا عليهم رجزًا من السماءِ"، أي: بَعَثْنا عَلَيْهِم عَذابًا، أَهْلَكْناهُم بما كانوا يُغيِّرون ما يُؤمَرونَ بِهِ، فَيَفْعَلون خِلافَ ما أَمَرَهم اللهُ بِفِعْلِهِ، ويَقولونَ غيرَ الذي أَمَرَهمُ اللهُ بِفِعْلِه.
وقال في سُورةِ البَقَرَةِ: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السماء} الآية: 59. والفارِقُ بَين "الإِنْزالِ" و "الإِرسالِ" أَنَّ الإِنزالَ يَكونُ مَرَّةً واحدةً. أَمَّا الإِرسالُ فهوَ مُسْتَرْسِلٌ ومُتَواصِلٌ. ولِِذلكَ يَقولُ اللهُ ـ سبحانه ـ في المطر: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَماءِ مَاءً طَهُوراً}. لأَنَّ المَطَرَ لا يَنْزِلُ طَوالَ الوَقْتِ مِنَ السَماءِ. أَمَّا الإِرسالُ فهوَ مُستَمَرٌّ، اللَّهُمَّ إلاَّ بَعضاً مِنْ تأثيرِ الهواءِ. ولذلك يَقولُ الحَقُّ تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ}. فالذي يحتاجُ إلى اسْتِمراريَّةٍ في الفِعْل يَقولُ فِيهِ الحَقُّ: "أرسل" بدليلِ أَنَّ اللهَ حينَما أَرادَ أَنْ يجيءَ بالطُوفانِ لِيُغْرِقَ آلَ فِرعَوْنَ المُكذِّبين بموسى ورِسالَتِهِ كما تقدم قال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان . . } الآية: 133. من هذه السورة. وعِنْدَما أَرادَ أَنْ يُرَغِّبَ عاداً قومَ سَيِّدِنا هُود في الاستغفارِ والتوبةِ والرُجوعِ عَمّا كانوا عَلَيْهِ مِنَ الكُفرِ والآثامِ قال لهم على لسانِ نبيِّه: {و يا قومِ اسْتغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السماءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} سورة هُود، الآية: 52. إذاً فالإِرْسالُ يَعني التَواصُلَ، أَمَّا الإِنزالُ فهُو لمرَّةٍ واحدةٍ، وفي قِصَّةِ بَني إسرائيلَ أتى سبحانه بِكَلِمَةِ "أَنْزَلْنا"، مرةً وبِكَلِمَةِ "أرسلْنا" أُخرى لأنَّ العُقوبةَ تختلِفُ باخْتِلافِ المُذْنِبين، فلِكُلٍّ منَ العذابِ على قدْرِ ذَنْبِهِ.
قولُهُ تعالى: {قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} غيرَ: نَعْتٌ للقولِ منصوبٌ مثله.
قولُه: {بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} الباء: للسبَبَيَّةِ، أَيْ: بِسبَبِ ظُلمِهم المُسْتَمِرِّ السابِقِ واللاَّحِقِ، وهذا بمعنى ما في البَقَرَةِ لأنَّ ضميرَ "عليهم" عائدٌ على الذين ظَلَموا، والتصريحُ بهذا التَعليلِ لمِا أَنَّ الحُكْمَ هُنا مُرَتَّبٌ على المُضْمَرِ دونَ المَوْصولِ.