وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ
(161)
قولُه ـ تعالى جَدّه: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} أيْ: واذْكُرْ أَيضًا، يا محمَّدُ، مِنْ خَطَأِ هؤلاءِ القومِ، قومِِ موسى، وخِلافِهِم على رَبِّهم، وعِصيانِهم نَبِيَّهم، وتَبديلِهِمُ القولَ الذي أُمِروا أَنْ يَقولوهُ حينَ قالَ اللهُ لهم: اسكنوا قريةَ بيْتِ المقدس، وقد سُمِّيَ المأْوى مَسْكَناً مع أنَّ الإنسانَ في مَسْكَنِهِ مُتَحَرِّكٌ لا يسكُنُ, لأنَّهُ يَتْرُكُ فيهِ الكثيرَ من التَصَرُّفِّ، فَهو ساكنٌ في أَكْثَرِ أَحوالِهِ وإنْ كانَ في متحرِّكاً بعضِها.
ويجوزُ أَنَّ يكونَ الخطابُ في هذه الآية الكريمةِ لليهودِ المُعاصرين لمحمَّدٍ، رَسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ.
وقيل المرادُ بالقريةِ هنا هو قريةُ أَريحا مِنْ فِلسطين، وروي عنِ الحَسَنِ أَنَّها أَرْضُ الشّامِ، لكنَّ الأَرجَحَ أَنَّ القَرْيةَ المعنيَّةَ هي بَيْتُ المقدِسِ، لما أَخرجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّه قَالَ: "هَذِهِ الْقَرْيَةَ" بَيْتَ الْمَقْدِسِ. وهو ما ذهب إليه أَكثرُ المفسِّرين. و سمِّيت "القرية" لأنَّ الماءَ يُقْرى إِلَيْها، أَيْ يُجمعُ، مِنْ قولهم قَرى الماءَ في حَوْضِهِ إذا جمعَهُ فيه. أو لأنَّ الناسَ يجتَمعون إلَيْها كَما يَجْتَمِعْ الماءُ في الحوضِ.
قولُهُ: {فكلوا منها حيث شئتم} أيْ: كلوا مِنْ ثمارِها وحُبوبها ونباتها، "حيث شئتم"، كيفما شِئْتُم ومتى أردتم.
قولُهُ: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} أي: خاضعين لربكم مستكينين لِعِزَّتِهِ، شاكِرين لِنِعْمَتِهِ، وأمرَهم بالخضوع، وسؤال المغفرة، ووعدهم على ذلك مَغفِرَةً لذنوبهم وثواباً عاجلاً وآجلاً وزيادةً للمحْسِنِينَ مِنْ خيريِ الدُنيا والآخِرة. وأَمَرَهُمْ رَبُّهُمْ بِدُخُولِ البَابِ (أَيْ بَابِ البَلَدِ) سُجَّداً شُكْراً للهِ، بَعْدَ أَنْ أَسْكَنَهُمْ رَبُّهُمُ البَلَدَ الذِي دَخَلُوهُ بَعْدَ نَصرِهم عَلَى العَمَالِيقَ. وهو أَمْرٌ لهم بالتواضُعِ والاسْتِغفارِ لِذُنوبهم التي سَلَفَتْ مِنْهم.
رُويَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهًُ عنهما ـ فِي قَوْلِهِ: "وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا"، قَالَ: مِنْ بَابٍ صَغِيرٍ. وأخرج ابْن أبي حاتمٍ عن عِكْرِمَةَ: أنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قال: كَانَ الْبَابُ قِبَلَ الْقِبْلَةِ. وأخرج أيضاً عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: "بَابُ حِطَّةٍ مِنْ بَابِ إِيلِيَاءَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. كما أََخْرَجَ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قَالَ اللهُ لِبني إسرائيل: "ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا"، فَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ)).
قولُهُ: {وقولوا حطةٌ}، حِطَّةٌ: أَيْ قولوا: اللَّهُمَّ حُطَّ عَنَّا خَطَايَانَا، لِيَسْتَجِيبَ اللهُ دُعَاءهُم، رُوِيَ ذلك عن الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. وأَخْرجَ ابْنُ أبي حاتمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهما ـ قَوْلُهُ: "وَقُولُوا حِطَّةٌ"، قَالَ: مَغْفِرَةٌ، اسْتَغْفِرُوا". وَرُوِيَ، عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، نَحْوُ ذَلِك. ورَوى أيضاً عَنْ عِكْرِمَةَ، قَوْلُهُ: "وَقُولُوا حِطَّةٌ"، يَقُولُ: قُولُوا لا إِلَهَ إِلا اللهُ. وقَالَ أَيْ: احْطُطْ عَنَّا خَطايانا". وروى الضَّحَّاكُ أيضاً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: "وَقُولُوا حِطَّةٌ"، قَالَ: قُولُوا: "هَذَا الأَمْرُ حَقٌّ كَمَا قِيلَ لَكُمْ".
والحِطَّةُ: ك "جِلْسَةٍ"، اسْمٌ للهيئةِ، مِنَ الحَطِّ بمعنى الوَضْعِ والإنْزالِ، وأَصْلُه إنزالُ الشيءِ مِنْ عُلُوٍّ. يُقالُ: اسْتَحَطَّهُ وِزْرَهُ، أيْ: سَأَلَهُ أَنْ يَحُطَّهُ عَنْهُ، ويُنْزِلَهُ.
قولُهُ: {نغفر لكم ذنوبكم سنزيد المحسنين} أيْ: نَغْفِر لَكم ذُنوبُكم، ونَعفو لَكم عَنْها، فلا نُؤاخِذُكم بها. و "سَنَزيدُ المحسنينَ" مِنْكُمْ إحْساناً على إحْسانهم، والمطيعين: غُفراناً لخطاياهم وعَفواً عنِ ذنوبهم، جزاءَ طاعَتِهم لنا، كما وَعَدْناهُم.
قولُهُ تعالى: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} إذ: ظَرْفِيَّةٌ بمعنى: حين، وهي مَعْمولٌ لِفِعْلٍ محذوفٍ تَقديرُهُ: "اذْكر". وجاءَ الفِعْلِ هُنا مَبْنِيّاً للمَفْعولِ جَرْياً على سَنَنِ الكِبْرياءِ، مَعَ الإيذانِ بِأَنَّ الفاعِلَ غَنيٌ عَنْ التصريحِ باسمه، وهو اللهُ ـ تبارك وتعالى ـ أَيْ: اذْكُرْ لهم يا محمَّدُ وقْتَ قولِنا لأسْلافِهِم: " اسكنوا ... وادْخُلوا ... وقولوا...
قولُه: {وقولوا حطةٌ} حطةٌ: خبرُ مُبْتَدَأٍ محذوفٍ، أيْ: مَسْأَلَتُنا حِطَّةٌ، والأَصْلُ فيها النَّصْبُ، بمعنى: حُطَّ عَنّا ذُنوبَنا حِطَّةً، وإنَّما رُفِعَتْ لِتُعْطَى مَعْنى الثَباتِ، وجملةُ "حطةٌ" في محل نَصْبٍ بِ "قولوا"
قولُهُ: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافاً بَيانِيّاً لأنَّ قولَه: "تَُغْفِرْ لَكُمْ" في مَقامِ الامْتِنانِ بإعطائهم نِعَماً كَثيرَةً، ممّا قد يُثيرُ سُؤالَ سائلٍ فيقول: وهَلِ الغُفْرانُ هُوَ قُصارَى جَزائِهم? فَأُجيبَ بِأَنَّ ثمّةَ بَعْدَ الغُفرانِ زِيادةُ الأَجْرِ على الإحْسانِ، أيْ عَلى الامْتِثالِ لله فيما أمَر به وما عنه نهى.
قولُه: {حطَّةٌ} بالرفعِ هكذا قَرَأَها السَبعْةُ والحَسَنُ وأَبو رَجاءٍ ومجاهد وغيرُهم، وقَرَأَ الحَسَنُ بْنُ أبي الحَسَنِ "حِطَّةً" بالنَصْبِ، فالرَفْعُ على خَبرِ ابْتِداءٍ تَقديرُهُ مَسألتُنا، أَوْ طَلَبُنا حِطَّةٌ، وقد تقدَّمَ، أَمّا النَّصبُ فهو على المَصْدَرِ، أَيْ: حُطَّ ذُنوبَنا حِطَّةً، وهذا على أَنْ يُكَلَّفُوا قولَ لَفْظَةٍ مَعناها "حطة".
وقَرَأَ ابْنُ كَثيرٍ وعاصمٌ وحمزةُ والكِسائيُّ "نَغْفِر" بالنُونِ، و "لكم خطيئاتكم" بالتاءِ مَهموزاً على الجَمْعِ، وقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: "نَغْفِر" بالنون و "لَكمْ خطاياكم. نحوَ قَضاياكُم، وهيَ قِراءَةُ الحَسَنِ والأَعْمَشِ أيضاً.
وقَرَأَ نافع: "تُغفر" بِتاءٍ مَضْمُومَةٍ و "لكم خطيئاتُكم" بالهمزِ وضَمِّ التاءِ عَلى الجَمْعِ، ورواها محبوب عن أبي عمرو.
وقرأ ابنُ عامر: "تُغفر" بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ و "لكم خطيئتُكم" واحدةً مهموزةً مرفوعة.
وقَرَأَها الأعرجُ وفِرْقَةٌ "تُغفَرْ بالتاءِ وفَتْحُها على معنى أنَّ الحِطَّةَ تَغْفِرُ إذْ هيَ سَبَبُ الغفرانِ.