الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(157)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} وهذه الرحمة العظيمة التي تحدّثت عنها الآيةُ السابقةُ إنّما تختصُّ بالذين آمَنوا بالنَبيِّ محمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ مِنَ اليَهودِ والنَصارى، وتَشْمَلُ الرُسَلَ والأَنْبِياءَ الذينَ أَخَذَ اللهُ عَلَيْهِمُ العَهْدَ بالإيمانِ بِمُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ ـ فكانوا عالمين بِبِعْثَتِهِ يَقيناً، فهم آمنوا به، وتَنَزَّلوا مَنْزِلَةَ مَنِ اتَّبَعَ ما جاءَ بِهِ، لأنَّهمْ اسْتَعَدُّوا لِذلك، وكونُه أُميًّا شَرَفٌ لَهُ، إذِ الكِتابَةُ وسيلةٌ للعُلومِ، وقَدْ أُعْطِيَ مِنْها ما لم يُعطَ أحَدٌ مِنَ العالمين، مِنْ غَيرِ تَعَبِ تَعَلُّمِها، ولارْتِفاعِ الارْتِيابِ في نُبُوَّتِهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهي مِنْ جملةِ مُعجزاتِه.
قولُه: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} أيْ: يجدون اسمَه ووَصْفَه الذي يَعنيهِ. فالمعنى أَنَّ ذِكْرَ القرآنِ وارِدٌ في كُتُبِ الأَوَّلين، أَيْ جاءت بِشاراتٌ بمحمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليه وسلّم ـ وأَنَّهُ رَسولٌ يجيءُ بِكِتابٍ. قال تعالى في سورة الصَفِّ: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} الآية: 6.
وروى الواقديُّ بسنده عن ثعلبةَ بْنِ مالكٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ ـ رضي اللهُ عنه ـ سَألَ أَبا مَالِكٍ عَنْ صِفَةِ النَبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ ـ في التَوراةِ، وكانَ مِنْ عُلَماءِ اليَهودِ، فقال: صِفَتُهُ في كِتابِ بَني هرونَ الذي لم يُغَيَّرْ، ولم يُبدَّلْ: أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ إسماعيلَ بْنِ إبراهيمَ ومِنْ آخِرِ الأَنْبياءِ وهو النَبي العربي الذي يأتي بِدينِ إبراهيمَ الحنيفَ، يأْتَزِرُ على وَسْطِهِ، ويَغْسِلُ أَطْرافَهُ، في عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ، وبَيْنَ كَتِفَيْهِ خاتمُ النُبُوَّةِ مثلُ زُرِّ الحَجلَةِ، ليسَ بالقَصيرِ ولا بالطَويلِ، يَلْبَسُ الشَمْلَةَ، ويَجري بالبُلْغَةِ، ويَرْكَبُ الحِمارَ ويَمْشي في الأَسْواقِ، مَعَهُ حَرْبٌ وقَتْلٌ وسَبْيٌ، سَيْفُهُ على عاتِقِهِ، لا يُبالي مَنْ لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، معهُ صلاةٌ لو كانتْ في قومِ نُوحٍ ما أُهْلِكوا بالطُوفانِ، ولو كانَتْ في عادٍ ما أُهْلِكوا بالرِيحِ، ولَوْ كانَتْ في ثَمودَ ما أُهْلِكوا بالصَيْحَةِ، مَوْلِدُهُ بِمَكّةَ ومَنْشَؤُهُ بها، وبِدْءُ نُبُوَّتِهِ بها، ودارُ هِجْرَتِهِ يَثْرِبُ بَينَ حَرَّةٍ ونَخْلٍ وسَبْخَة، وهُوَ أُمِّيٌّ لا يَكْتُبُ بِيَدِهِ، هو بِجهادٍ، يَحْمَدُ اللهَ على كُلِّ شِدَّةٍ ورَخاءٍ، سُلْطانُهُ الشامُ، صاحِبُهُ مِنَ الملائكةِ جِبرئيلُ، يَلْقى مِنْ قومِهِ أَذَىً شَديدا،ً ويُحِبُّونَهُ حُبّاً شَديداً، ثمّ يُدالُ على قومِهِ يَحْصُرُهُمْ حَصْرَ الجرين، يكونُ لهُ وَقَعاتٌ في يَثْرِبَ، منها لَهُ ومِنْها عَلَيْهِ، ثمَّ يَكونُ لَهُ العاقِبَةُ، يُعَدُّ مَعَهُ أَقوامٌ هُمْ إلى الموتِ أَسْرَعُ مِنَ الماءِ مِنْ رَأْسِ الجَبَلِ إلى أَسْفَلِهِ، صُدورُهُم أَناجِيلُهم، قُرْبانُهم دِماؤهم، لُيوثُ النَّهارِ ورُهبانٌ باللّيلِ، يُرْعَبُ مِنْهُ عَدُوُّهُ بِمَسيرَةِ شَهْرٍ، يُباشِرُ القِتالَ بِنَفْسِهِ حتّى يَخْرُجَ ويُكَلِّم، لا شُرْطَة معهُ ولا حَرَس يُحْرُسُه.
وأَخرَجَ الإمامُ البُخارِيُّ في صَحيحِهِ، عنْ عبدِ اللهِ بْنِ سَلامٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ وكان حَبراً مِنْ أحبارِ اليهود فأَسْلَمَ وحَسُنَ إسلامُه أنَّه قالَ جاءَ في التوراة: (يا أيُّهَا النَبِيُّ إنَّا أرسلَنَاكَ شَاهِدًا ومُبَشَّرًا ونَذِيرًا، وحِرْزًا للأُمِّيينَ، أَنْتَ عَبدِي ورَسُولِي، سَمَّيتُكَ المُتَوكّلَ، لَيسَ بفظٍ ولا غليظٍ ولا صَخَّابٍ في الأسوَاقُ، ولا يُجَازِي بالسَّيِّئةِ السَّيِّئةَ، ولكِنْ يَعَفُو ويَصفَحُ، ولَنْ يَقبِضَهُ اللهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوجاءَ؛ بِأنْ يَقُولُوا: لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ، فَيَفْتَحُ بِها أَعْيُنًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقُلُوبًا غُلْفًا). وأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وأَحمدُ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرابِ قالَ: جَلَبْتَ حَلَوِيَّةً إلى المدينةِ في حياةِ رَسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلمّا فَرَغْتُ مِنْ بَيْعَتي قُلتُ: لأَلْقَيَنَّ هذا الرَجُلَ ولأَسمَعَنَّ مِنْهُ. فَتَلَقَّاني بَين أَبي بَكْرٍ وعُمَرَ يَمْشِيانِ، فتَبِعْتُهُما حتّى أَتَيا على رَجُلٍ مِنَ اليَهودِ ناشراً التَوْراةَ يَقْرَؤُها، يُعزّي بها نَفْسَهُ عَنِ ابْنٍ لَهُ في المَوْتِ، كَأَحْسَنِ الفِتْيانِ وأَجملِهِ، فقالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((أَنْشُدُكَ بالذي أَنْزَلَ التَوْراةَ، هلْ تَجِدُني في كِتابِكَ ذا صَفَتي ومَخْرَجي؟ فقالَ بِرَأْسِهِ هَكَذا؛ أَيْ لا. فقالَ ابْنُهُ: أَيْ والذي أَنْزَلَ التوراةَ إِنّا لَنَجِدُ في كِتابِنا صِفَتَكَ ومَخْرَجَكَ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ وأَنَّ مُحَمَّداً رَسولَ اللهِ. فقال: أَقيموا اليَهُودِيَّ عَنْ أَخيكم، ثمَّ وَلِيَ كَفَنَهُ والصَّلاةَ عَلَيْهِ)).
وعَنْ شَهر بْنِ حَوْشَبٍ في قِصَّةِ إسْلامِ كَعْبِ الأَحبارِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وهُوَ مِنْ حميرِ اليَمِنِ: أَنَّ كَعْبًا أَخبرَهُ بأِمْرَهِ، وكيفَ كانَ ذلك، وكانَ أَبوهُ مِنْ مُؤمِني أَهْلِ التَوراةِ بِرَسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ ـ قَبْلَ ظُهورِهِ، قالَ كَعْب: وكانَ أبي مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بالتَوراةِ وَكُتِبِ الأَنْبِياءِ، ولم يَكُنْ يَدَّخِر عَنّي شَيئًا ممّا كانَ يَعْلَمُ، فلمَّا حَضَرَتْهُ الوَفاةُ دَعاني فَقالَ: يا بُنَيَّ، قدْ عَلِمْتَ أَنِّي لمْ أَكُنْ أَدَّخِرُ عَنْكَ شَيْئًا ممّا كُنْتُ أَعْلَمُ، إلاَّ أَنّي حَبَسْتُ عَنْكَ وَرَقَتَينِ فِيهِما ذِكْرُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ، وقَدْ أَطَلَّ زَمانُه، فكَرِهْتُ أَنْ أُخْبركَ بِذلك، فلا آمَنُ عَلَيْكَ بَعْدَ وَفاتي أَنْ يَخْرُجَ بَعْضُ هَؤلاءِ الكاذِبين فَتَتْبَعْهُ، وقدْ قَطَعْتُهما مِنْ كِتابي، وجَعَلْتُهُما في هذِهِ الكُوَّةِ التي تَرى، وطَيَّنْتُ عَلَيْهِما، فلا تَتَعَرَّضْ لَهُما حتى يَخْرُجَ هذا النَبِيُّ، فإذا خَرَجَ فاتِّبِعْهُ وانْظُرْ فَيهِما، فإنَّ اللهَ تَعالى يَزيدُكَ بهذا خَيرًا، فلَمَّا ماتَ والدِي لم يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إليَّ مِنْ أَنْ يَنْقَضيَ المأتمُ حتّى أَنْظُرَ ما في الوَرَقَتَينِ، فإذا فيهِما: "محمَّدٌ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ خاتمُ النَبِيّينَ لا نَبِيَّ بَعدَهُ، مَولدُهُ بمكَّةَ، ومُهَاجَرُهُ طَيْبَةَ، لَيْسَ بِفَظٍّ ولا غَليظٍ ولا صَخّابٍ في الأَسْواقِ، ولا يجزي بالسَيِّئَةِ السَيِّئَةَ، ولكنْ يجزي بالسيئةِ الحَسَنَةَ، ويَعْفو ويَغْفِرُ ويَصْفَحُ، أُمَّتُهُ الحمَّادون، الذين يَحْمَدونَ اللهَ على كلِّ شَرَفٍ وعلى كلِّ حالٍ، وتُذَلَّلُ أَلْسِنَتُهم بالتَكْبيرِ، ويَنْصُرُ اللهُ نَبِيَّهم على كُلِّ مَنْ ناوَأَهُ، يَغْسِلونَ فُروجَهُم بالماءِ، ويَتَأَزَّرونَ على أَوْساطِهم، وأنَاجِيلُهُم في صُدورِهِم، ويَأكلونَ قُربانَهم في بُطونِهم، ويُؤْجَرون عَلَيْها، وتراحمُهم بَيْنَهم تَراحُمُ بَني الأُمِّ والأَبِ، وهُمْ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يَومَ القِيامَةِ مِنَ الأُمُمِ، وهمُ السابِقون المُقرَّبون، والشافعون المشفَّعُ فِيهم" فلمَّا قَرَأْتُ هذا قُلْتُ في نَفسي: واللهِ ما عَلَّمَني شَيْئاً خَيراً لي مِنْ هذا، فمَكَثْتُ ما شاءَ اللهُ حتّى بُعِثَ النبيُّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ـ وبَيْني وبَيْنَهُ بِلادٌ بعيدةٌ مُنْقَطِعَةٌ، لا أَقْدِرُ على إتْيانِهِ، وبَلَغني أَنَّه خَرَجَ في مَكَّةَ، فهُوَ يَظْهَرُ مَرَّةً ويَسْتَخْفي مَرَّةً، فقلتُ: هُوَ هذا، وتخوَّفْتُ ما كان والدي حَذَّرَني وخَوَّفَني مِنْ ذِكْرِ الكَذّابين، وجَعَلْتُ أُحِبُّ أَنْ أَتَبَيَّنَ وأَتَثَبَّتَ، فلَمْ أَزَلْ بِذلك حتى بَلَغَني أَنَّهُ أَتى المَدينةَ، فقلْتُ في نَفسي: إنّي لأَرْجو أَنْ يَكونَ إياهُ وجَعَلْتُ أَلْتَمِسُ السَبيلَ إليْهِ، فلم يُقَدَّرْ لي حَتى بَلَغَني أَنَّهُ تُوفيَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عَليه وسَلَّمَ ـ فقُلْتُ: في نَفْسي: لَعَلَّهُ لم يَكُنِ الذي كُنْتُ أَظُنُّ. ثمَّ بَلَغَني أَنَّ خَليفةً قامَ مَقامَهُ، ثمَّ لم أَلْبَثْ إلاَّ قَليلاً حتى جاءتْنا جُنُودُهُ فَقُلتُ في نَفْسي: لا أَدْخُلُ في هذا الدينِ حتَّى أَعْلَمَ أَهُمُ الذينَ كُنْتُ أَرْجُو وأَنْتَظِرُ، وأَنْظُرُ كيفَ سِيرَتهم وأَعْمالهُم، وإلى ما تَكونُ عاقِبَتُهم. فلمْ أَزَلْ أُقَدِّمُ ذَلكَ وأُؤَخِّرُهُ لأَتَبَيَّنَ وأَتَثَبَّتَ حتّى قَدِمَ عَلَيْنا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فلمَّا رَأَيْتُ صَلاةَ المُسْلِمينَ وصِيامَهم وبِرَّهم ووفاءَهم بالعهدِ، وما صَنَعَ اللهُ لهم على الأعداءِ عَلِمْتُ أَنَّهم هُمُ الذي كُنْتُ أَنْتَظِرُ، فحَدَّثْتُ نَفْسي بالدُخُولِ في دِينِ الإسْلامِ.
فوَ اللهِ إنّي ذاتَ ليلةٍ فوقَ سَطْحٍ إذا بِرَجُلٍ مِنَ المُسْلِمين يَتْلُو كِتابَ اللهِ حتّى أَتى على هذِهِ الآيةِ: {يَا أَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكِتابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} سورة النِساءِ، الآية: 47. فلمَّا سمعتُ هذِه الآيةَ خَشِيتُ اللهَ أَلاَّ أُصْبِحَ حتّى يُحَوَّلَ وَجْهي في قَفايَ، فما كانَ شَيْءٌ أَحَبَّ إليَّ مِنَ الصَباحِ، فغَدَوْتُ على عُمَرَ فأَسْلَمْتُ حينَ أَصْبَحْتُ. أَخْرَجَه كَذلِكَ أَبو نُعيم.
وقالَ كَعْبٌ لِعُمرَ عندَ انْصرافِهم إلى الشامِ: يا أَميرَ المُؤمنين إِنَّهُ مَكْتوبٌ في كِتابِ اللهِ إنَّ هذِهِ البِلادِ التي كان فيها بَنو إسْرائيلَ، وكانوا أَهْلَها، مَفْتوحَةٌ على يَدِ رَجُلٍ مِنَ الصالحين، رَحيمٍ بالمؤمنينَ شديدٍ على الكافرين، سِرُّهُ مِثْلُ عَلانِيَتِهِ، وعَلانِيَتُهُ مِثْلُ سِرِّهِ، وقولُهُ لا يُخالِفُ فِعْلَهُ، والقَريبُ والبَعيدُ عِنْدَهُ في الحقِّ سَواءٌ وأَتْباعُهُ رُهْبانٌ باللَّيلِ وأُسْدٌ بالنِهارِ، مُتَراحِمونَ، مُتَواصِلونَ مُتَباذِلونَ، فقالَ لَهُ عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، أَحَقٌّ ما تَقُولُ؟ قالَ: أَيْ والذي أَنْزَلَ التَوراةَ على مُوسى، والذي يَسْمَعُ ما تَقولُ إنَّهُ لحَقُّ، فقالَ عُمَرُ: الحمدُ للهِ الذي أَعَزَّنا وشَرَّفَنا وأَكْرَمَنا ورَحِمَنا بمُحَمَّدٍ ـ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ بِرَحْمَتِهِ التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
ومِنْ ذلكَ كِتابُ فَرْوَةَ بْنِ عُمَرَ الجُذاميّ إلى رَسولِ اللهِ ـ صَلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وكانَ مِنْ مُلوكِ العَرَبِ بِالشامِ، فكتَبَ إليْهِ: بِسْمِ اللهِ الرَحمنِ الرَحيم، لِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ مِنْ فَرْوَةَ بْنِ عُمَرَ إنّي مُقِرٌّ بالإسْلامِ مُصَدِّقٌ، أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمّداً عَبْدُ اللهِ ورَسُولُه، وأَنَّهُ الذي بَشّرَ بِهِ عِيسى بْنَ مَرْيَمَ ـ عليهِ السَّلامُ، فأَخَذَهُ هِرَقْلٌ لمَّا بَلَغَهُ إِسْلامَهُ وسَجَنَهُ فَقالَ: واللهِ لا أُفارِقُ دِينَ مُحَمَّدٍ أَبَداً فإنَّكَ تَعْرِفُ أَنَّهُ النَبِيُّ الذي بَشَّرَ بِهِ عِيسى بِنُ مَريمَ، ولكنَّكَ حَرَصْتَ على مُلْكِكَ وأَحْبَبْتَ بَقاءَهُ، فقالَ قَيْصَر صَدَقَ والإنْجيلِ. يَشْهَدُ لهذا ما أَخْرَجَهُ البُخاريُّ ومُسْلِمٌ مِنْ كِتابِ رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّم ـ إلى هِرَقْل، وسُؤالِ هِرَقْل عَنْ أَحْوالِ النبيِّ وأَخْلاقِهِ، فلمَّا أُخْبِرَ بها عَلِمَ أَنَّه رَسولُ اللهِ، قالَ: (إنَّه يَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ، ولَوْ خَلَصْتُ إلَيْهِ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْه) البخاري كتابُ بدءِ الوِحْيِ.
ومِنْ حديثِ زَيْد بْنِ أسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ خَرَجَ زَمَانَ الجاهِلِيَّةِ مَعَ ناسٍ مِنْ قُرَيْشٍ في تِجارةٍ إلى الشامِ، قالَ فإنّي لَفي سُوقٍ مِنْ أَسْواقِها إذا أَنَا بِبِطْريقٍ قَدْ قَبَضَ عَلى عُنُقي، فَذَهَبْتُ أُنازِعُهُ فَقيلَ لي: لا تَفْعَلْ فإنَّه لا نَصيفَ لَكَ مِنْهُ، فأَدْخَلَني كَنيسةً فإذا تُرابٌ عَظيمٌ مُلْقى، فَجاءني بِزَنْبيلٍ ومَجْرَفَةٍ فَقالَ لي: انْقُلْ ما هَاهُنا فَجَعَلْتُ أَنْظرُ كَيْفَ أَصْنَعُ، فلَمَّا كانَ مِنَ الهاجِرَةِ وافاني وعَلَيْهِ ثوبٌ أَرى سائرَ جَسَدِهِ مِنْهُ، فقال: أَئِنَّكَ على ما أَرى ما نَقَلْتَ شَيْئاً، ثمَّ جمعَ يَدَيْهِ فَضَرَبَ بهِما دِماغي فَقُلْتَ: واثُكْلَ أُمِّكَ يا عُمَرُ، أَبَلَغَتَ ما أَرى؟ ثمَّ وَثَبْتُ إلى الِمجْرَفَةِ فَضَرَبْتُ بِها هامَتَهُ فَنَشَرْتُ دِماغَهُ ثمَّ واريْتُهُ في التُرابِ وخَرَجْتُ عَلى وَجْهي لا أَدْري أَيْنَ أَسيرُ، فَسِرْتُ بَقِيَّةَ يَومي ولَيْلَتي مِنَ الغَدِ إلى الهاجِرَةِ فانْتَهَيْتُ إلى دَيْرٍ فاسْتَظْلَلْتُ بِفِنائِهِ فَخَرَجَ إليَّ رَجُلٌ مِنْهُ فقال لي: يا عَبْدَ اللهِ ما يُقْعِدُكَ هُنا؟ فَقُلْتُ: أَضْلَلْتُ أَصْحابي، فقالَ لي: ما أَنْتَ على طَريقٍ وإِنَّكَ لَتَنْظُرُ بِعَيْنَيْ خائِفٍ، فادْخُلْ فأَصِبْ مِنَ الطَعامِ واسْتَرِحْ. فدَخَلْتُ فأَتاني بِطعامٍ وشَرابٍ وأَطْعَمَني، ثمَّ صَعَّدَ فيَّ النَظَرَ وصَوَّبَهُ، فقالَ لي ما اسمُك؟ فقُلْتُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فقال: أَنْتَ واللهِ صاحِبُنا، فاكْتُبْ لي عَلى دَيْري هَذا وما فِيهِ، فقُلتُ: يا هذا إنَّكَ قَدْ صَنَعْتَ إليَّ صَنيعةً فَلا تُكَرِّرْها، فقالَ إنَّما هُو كِتابٌ في رِقٍّ، فإنْ كُنْتَ صاحِبَنا فَذَلِكْ، وإلاَّ لم يَضُرّكَ شَيْءٌ، فكَتَبَ لَهُ على دَيْرِهِ وما فِيهِ، فأتاني بِثيابٍ ودَراهِمَ فدَفَعَها إليَّ ثمَّ أَوْكَفَ أَتاناً فقالَ لي: أَتَراها؟ فقلتُ: نَعَم، قالَ سِرْ عَلَيْها، فإنَّكَ لا تَمُرُّ بِقَوْمٍ إلاَّ سَقوها وعَلَفُوها وأَضافوكَ، فإذا بَلَغْتَ مَأْمَنَكَ فاضْرِبْ وَجْهَها مُدْبِرَةً فإنَّهم يَفْعلونَ بها كَذلِكَ حَتَّى تَرْجِعَ إليَّ. قالَ فَرَكِبْتُها فَكانَ كَما قالَ، حتى لَحِقْتُ بِأَصْحابي وَهُم مُتَوَجِّهونَ إلى الحِجازِ، فَضَرَبْتُها مُدْبِرَةً وانْطَلَقْتُ مَعَهم. فلَمَّا وافى عُمَرُ الشامَ في زَمانِ خِلافَتِهِ جاءهُ ذَلكَ الراهَبُ بِالكِتابِ وهُوَ صاحبُ دَيْرِ العُرْسِ، فلمَّا رَآهُ عَرَفَهُ، فقال: قدْ جاءَ ما لا مَذْهَبَ لِعُمَرٍ عَنْهُ، ثمَّ أَقبلَ عَلى أَصْحابِهِ فحَدَّثَهم بِحَديثِهِ فلمَّا فَرَغَ مِنْهُ أَقْبَلَ عَلى الراهِبِ فَقالَ: هلْ عِنْدَكم مِنْ نَفْعٍ للمُسْلِمين؟، قال: نَعَمْ يا أَميرَ المؤمنين، قال: إنْ أَضَفْتُمُ المُسْلِمينَ ومَرَّضْتُموهم وأَرْشَدْتُموهُم فَعَلْنا ذَلك. قالَ: نَعَم يا أَميرَ المُؤمنين. فوَفَى لَهُ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ورَحَمَهْ.
وعنْ سَيْف يَرْفَعُهُ إلى سالمٍ بنِ عَبْدِ اللهِ، قال: لمَّا دَخَلَ عُمَرُ الشامَ تَلَقَّاهُ رَجُلٌ مِنَ يَهودِ دِمَشْقَ فقال: السلامُ عَلَيْكَ يا فاروقُ، أَنْتَ صاحِبُ إيلياءَ؛ واللهِ لا تَرْجِعُ حتّى يَفْتَحَ اللهُ إيلياءَ. ومِنْ ذلكَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ العاصِ، قدِمَ المدينةَ بَعْدَ وَفاةِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانَ رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدْ أَرْسَلَهُ إلى عُمُانَ وَالِياً عَلَيْها، فجاءَهُ يَوماً يَهُودِيٌّ مِنْ يَهودِ عُمانَ فَقالَ لَهُ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ، مَنْ أَرْسَلَكَ إلينا؟ فقالَ لَهُ: رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ، فَقالَ اليَهوديُّ: واللهِ إنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّهُ رَسولُ اللهِ؟؛ قالَ عَمْرٌو: نَعَمْ، فَقالَ اليَهوديُّ: لَئِنْ كانَ حَقّاً ما تَقولُ؛ لَقَدْ ماتَ اليَوْمَ. فلَمَّا سمِعَ عَمْرو ذلك جمعَ أَصْحابَهُ وكَتَبَ ذَلِكَ اليَوْمَ الذي قالَ لَهُ اليَهودِيُّ أَنَّ النَبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ماتَ فِيه. ثمَّ خَرَجَ فأَُخْبِرَ بِمَوتِ النَبِيِّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وهُو في الطَريقِ وَوَجَدَهُ قدْ ماتَ في ذَلِكَ اليَوْمِ.
وأَخرَجَ ابْنُ سَعْدٍ والبُخارِيُّ وابْنُ جَريرٍ والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائلِ عَنْ عَطاءَ بْنِ يَسارٍ قالَ: لَقيتُ عَبدَ اللهِ ابْنَ عَمْرٍو بْنِ العاصِ، قلتُ: أَخْبِرْني عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ. قال: (أَجَلْ واللهِ إنَّهُ لمَوْصوفٌ في التوراةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ في القُرآن: {يا أَيُّها النَبِيُّ إنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً ومُبَشِّراً ونَذيراً} سورةُ الأحزابِ، الآيةُ: 45. وحِرْزاً للأُمِّيين، أَنتَ عَبْدي ورَسولي، سمَّيتُك المُتَوَكِّلَ، ليسَ بِفَظٍّ ولا غَليظٍ ولا صَخَّابٍ في الأَسْواقِ، ولا يَجْزي بالسَيِّئَةِ السَيِّئَةَ ولكنْ يَعْفُو ويَصْفَحُ، ولَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حتّى يُقيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجاءَ بِأَنْ يَقولوا: لا إلهَ إلاَّ اللهُ).
وجاءَ في الإصْحاحِ الثامِنَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَثْنِيَةِ مِنَ التَوْراةِ قَوْلُهُ: (يُقيمُ لَكُم الرَبُّ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إخْوَتِكم مِثْلِي لَهُ تَسْمَعونَ حَسَبَ كُلِّ ما طَلَبْتُ مِنَ الرَبِّ في حُوريبَ ـ أيْ: جبل الطورِ ـ حينَ المُناجاةِ يَومَ الاجْتِماعِ، قالَ ليَ الرَبُّ: أُقيمُ لهمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إخْوَتِهم مِثْلَكَ، وأَجعَلُ كلامي في فَمِهِ، فيُكَلِّمُهم بِكُلِّ مَا أُوصيهِ بِهِ). فَدَلَّ هذا على أَنَّ هَذا النَبِيَّ مِنْ غَيرِ بَني إسْرائيلَ لِقولِهِ: "مِنْ وَسَطِ إخْوَتِكَ"، فإنَّ الخِطابَ لِبَني إسْرائيلَ، ولا يَكونونَ إخْوَةً لأَنْفُسِهم. وإنّما إخوتُهم هُمْ أَبْناءُ أَخي أَبيهم: إسْماعيلَ أَخِي إسْحاقَ، وهُمُ العَرَبُ، ولو كانَ المُرادُ بِهِ نَبِيّاً مِنْ بَني إسْرائيلَ أي (صَمْوئيل) كما يؤوِّلُهُ اليَهودُ لَقالَ: مِنْ بَيْنِكم، أوْ مِنْ وَسَطِكُمْ. وعُلِمَ أَنَّ النَبِيَّ رسولٌ بِشَرْعٍ جَديدٍ مِنْ قولِهِ: "مثلك" فإنَّ مُوسى كان نَبِيّاً رًسُولاً، فقدْ جمَعَ القُرآنُ ذَلكَ كُلَّهُ في قولِهِ: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} الخ.
ومِمّا في التوراةِ أَيْضًا: (أَنَّ الرَبَّ تَعالى جاءَ مِنْ طُورِ سِيناءَ، وطَلَعَ على "ساغين"، وظَهَرَ مِنْ جَبَلِ فاران)، يعني طورَ سِيناء: مَوْضِعَ مُناجاةَ مُوسى، وساغين: مَوْضِعَ عِيسى، وفارانَ هي مَكَّةُ، مَوْضِعُ مَوْلِدِ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليهِم وسَلَّمَ تسليماً. وفي التوراةِ أَيْضًا: أَنَّ هاجَرَ أُمَّ إسماعيلَ لمّا غَضِبَتْ عَلَيْها سارَةُ، تراءى لها مَلِكٌ فقالَ لها: يا هاجر، أَيْنَ تُريدين، ومِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتِ؟ فقالت: أَهْرُبُ مِنْ سَيِّدَتي سَارَةَ، فقال لها: يا هاجَرُ، ارْجِعي إلى سارةَ، وسَتَحْمِلينَ وتَلِدينَ وَلَدًا اسمُهُ إسماعيل، وهو يكونُ عَينَ الناسِ، وتَكونُ يَدُهُ فوقَ الجَميعِ، وتَكونُ يَدُ الجميعِ مَبْسُوطَةً إلَيِهِ بالخُضوعِ. وهذا الذي وَعَدَها المَلَكُ إنَّما ظَهَرَ بِمَبْعَثِ النبيِّ محمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ وظُهورِ دِينِهِ وعُلُوِّ مَكانِهِ، ولم يَكُنْ ذلك لإسماعيلَ ولا لِغَيرِهِ مِنْ أَوْلادِهِ، لكنَّ الأَصْلَ يَشْرُفُ بِشَرَفِ فَرْعِهِ. وفي التَوراةِ أَيْضًا: أَنَّ اللهَ أَوْحى إلى إبراهيمَ ـ عليهِ السَّلامُ: (قد أَجَبْتُ دُعاءَكَ في إسماعيلَ، وباركتُ عَلَيْهِ، وسَيَلِدُ اثْنَيْ عَشَرَ عَظيمًا، وأَجْعَلُهُ لأُمَّةٍ عَظيمةٍ. وفي بعضِ كُتُبِهم: لقدْ تَقَطَّعَتِ السَّماءُ مِنْ بهاءِ مُحَمَّدٍ المَحْمودِ، وامْتَلأَتِ الأرْضُ مِنْ حَمْدِهِ، لأنَّهُ ظَهَرَ بِخَلاصِ أُمَّتِهِ. أمّا ما في الإنجيل، فقد ورد أَنَّ المَسيحَ عيسى ـ عليه السلامُ ـ قال للحَوارِيّين: (إنّي ذَاهِبٌ عَنْكُمْ، وسَيَأْتيكم "الفارقَليط"، الذي لا يَتَكَلَّمُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، إنَّما يَقولُ كَما يُقالُ لَهُ). و "الفارقليط" بالعِبرانِيَّةِ: اسْمُ مُحَمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ، وقيلَ مَعناهُ: الشافِعُ المُشَفَّعُ.
وفي الإصحاحِ الرابعَ عَشَرَ مِنْ إنْجيلِ متّى قالَ عِيسى ـ عليه السّلامُ ـ ويَقومُ أَنْبِياءُ كَذَبَةٌ كَثيرونَ، ويَضِلّونَ كَثيراً... ولكنَّ الذي يَصْبِرُ إلى المُنْتَهى، أَيْ يَدومُ إلى آخرِ الدَهْرِ، أيْ دِينُهُ، إذْ لا خُلُودَ للأشْخاصِ فهذا يُخَلِّصُ ويَكَرِّزُ، أيْ يَدْعو بِبِشارَةِ المَلَكوتِ هذِهِ في كُلِّ المَسْكُونَةِ، أيْ الأَرْضِ المأَهولَةِ، شهادةً لجميعِ الأُمَمِ، رِسالةً عامَّةً، ثمَّ يَأْتي المُنْتَهى أَيْ نِهايَةُ العالَمِ. فالبِشارةُ هيَ الوَحْيُ، وهوَ القُرآنُ، وهوَ الكِتابُ الذي دَعا جميعَ الأُمَمَِ، قالَ تعالى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} سورةُ إبراهيم، الآية: 1. وقالَ تعالى في سورة الإسراءِ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} الآية: 89. وفي الإصْحاحِ الرابِعَ عَشَرِ مِنْ إنجيلِ يُوحَنَّا قَوْلُ المَسيحِ ـ عليه السلامُ: (وأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الأَبِ فيُعْطيكم مُعَزِّياً "أيْ رَسُولاً" آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعكم إلى الأَبَدَ هذا "هُو دوامُ الشَريعةِ" روحُ الحَقِّ الذي لا يَسْتَطيعُ العالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ "إشارةٌ إلى تَكذيبِ المُكَذَّبين" لأنَّهُ لا يَراهُ ولا يَعْرِفُهُ). ثمَّ قالَ: وأَمَّا المُعَزِّي الرُّوحُ القُدُسُ الذي سَيَرْسِلُهُ الأَبُ باسمي "أَيْ وَصْفِ الرِسالَةِ" فهُو يُعَلِّمُكم كُلَّ شيْءٍ، ويُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ ما قُلْتُهُ لَكم وهذا التَعليمُ لِكُلِّ شيْءٍ هُو القُرآنُ: {مَا فَرَّطْنا في الكِتابِ مِنْ شَيْءٍ".
وهذا غيضٌ من فيضٍ نَقَلْناهُ عَنْ أَهْلِ الكِتابِ مِنْ يَهودَ ونَصارى، يَتَحَدَّثون فيه عن صِفَةِ النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ في التَوراةِ والإنجيلِ، فقد جاء فيهما عنه ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ وعن أمَّته وما يكونُ من أمر دينه من التفصيل مالا يدعُ مجالاً لشكٍّ حتى قال الله تعالى في ذلك: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} سورة البقرة، الآية: 146. ومنَ الطَبيعي أَنْ يكونَ اللهُ تعالى قدْ بَشَّرَ بِهِ في هذيْن الكِتابين الكَريمين، كما في باقي الكُتُبِ السماويَّةِ، فأَعْلَمَ هذيْن النبيين، موسى وعيسى عليهما السلامُ ـ بمبعثِه لِيَكونَ أَتْباعُهُما على عِلْمٍ بهذا وعلى درايةٍ تامَّةٍ، لأَنَّ اللهَ تعالى واحدٌ، ولأنَّ الدِّينَ عندَهُ واحدٌ، ولأنَّ المرسلينُ جميعاً هم رُسُلُه، وما أَنْزلَ عليهم هي رِسالاتُهُ إلى خَلْقِهِ، في كلِّ عصرٍ من العصور، ولكلِّ أمَّةٍ من الأمَمِ، فمِنَ الطبيعي أَنْ تَرى لمحمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ ذكراً في هذه الرسالاتِ جميعاً، كما هو من الطبيعيِّ أَنْ تَرى للرِسالاتِ السابقة وللمُرسَلينَ السابقين، ذِكْرٌ في رِسالَةِ خاتم النبيّينَ والمرسلين ـ صلوات ربّي وسلامُه عليه وعليهم أجمعين، وعلى مَنِ اتَّبَعَهم بإحْسانٍ إلى يَومِ الدِّين. سِيَّما وَأَنَّ اللهََ أَخَذَ العَهْدَ والميثاقَ على جميعِ أَنْبيائه ورُسُلِه، في عالمِ الذَرِّ، حينَ خَلَقَ أَرْواحَهم، قبلَ أَنْ يَخْلُقَ أَجْسامَهم، بأنْ يُؤمِنوا بِخاتمِ أَنْبِيائِهِ، وأَنْ يَأْمُروا أَقوامَهم بِذلك، فقال: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} سورةُ آلِ عُمْرانَ، الآية: 81.
ومِنْ نُكَتِ القُرآنِ الكريمُ الجَمْعُ في هَذِهِ الآيَةِ بَيْنَ وَصْفَيِّ النُبُوَّةِ والرِسالَةِ لأَنَّ اليَهودَ بَدَّلوا وَصْفَ الرَّسولِ وعَبَّروا عَنْهُ بالنَبِيِّ لِيَصْدُقَ على أَنْبِياءِ بَني إسرائيلَ، وغَفِلُوا عَنْ مُفادِ قولِهِ مِثْلَكَ، وحَذَفوا وَصْفَ الأُمِّيّ، وقدْ كانتْ هذِهِ الآيةُ سَبَبَ إسْلامِ الحَبْرِ الأَنْدَلُسِيِّ العَظيمِ السَمَوْألِ بْنِ يَحيي اليَهوديّ، كما حَكاهُ عَنْ نَفْسِهِ في كِتابِهِ المسمّى (غايةُ المَقصودِ في الرَدِّ عَلى النَّصارَى واليَهُود).
قولُه: {يَأْمُرُهُم بالمعروف وينهاهم عَنِ المنكر} هذا مِنْ وَصْفِ النَبيِّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ـ في التوراةِ، وهو مستمرٌ في أَتْباعِهِ إلى يومِ القيامةِ فإنَّ أُمَّتَه ـ صلى الله عليه وسلمَ ـ مكلَّفةٌ بذلك، لقولِه ـ عَزَّ وجَلَّ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} سورة آل عمران، الآية: 104، كُلٌّ حَسَبَ اسْتِطاعَتِهِ. وقال رسولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما أخرج مسلمٌ والترمذيُّ وغيرهما عن أبي سعيد الخدري ـ رضي اللهُ عنه: ((مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكَرًا فلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِه، فإنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِلِسانَهِ، فإنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أَضْعَفُ الإيمان)). هذه رِوايةُ مُسلم: /325/، قال العلماء أمّا الأوَّل فهو مهمَّة أولياء الأمور، وأمّا الثاني، فهي مهمة العلماءُ، وأمّا الثالث، فهي للعامّة الذين لا سلطان لهم ولا علمَ عندهم، وقيل هي مهمَّةُ أَرْبابِ القلوبِ، والأَمْرُ بالمعروفِ يَكونُ واجِباً ومُنْدوباً، على حَسَبِ ما يَأْمُرُ بِهِ، أمّا النَهْي عَنِ المُنْكَرِ فواجِبٌ كُلُّهُ؛ لأنَّ جميعَ ما أَنْكَرَهُ الشَرْعُ حَرامٌ. وأَمَّا المَكْروهُ فَلَيسَ بِمُنْكَرٍ، فيُسْتَحَبُّ الإرشادُ إلى تَرْكِهِ. والأَظْهَرُ أَنَّ العاصي يَجِبُ أَنْ يُنْهَى عَمَّا يَرْتَكِبُهُ هُوَ؛ لأنَّهُ يَجِبُ عَلَيْه تَرْكُهُ، فلا يَسْقُطُ بِتَرْكِ أَحَدِهِما وُجوبُ الآخَرِ. وقدْ قالَ ـ عليْهِ الصّلاةُ والسّلامُ: ((مُرُوا بالمَعْرُوفِِ وإنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِكُلِّهِ، وانْهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وإنْ لم تَنْتَهُوا عَنْهُ كُلِّهُ)). والأمرُ بالمعروف من صفات المؤمنين، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} سورة التوبة، الآية: 71. أمّا المنافقون فهم يأمرون بالمنكر وينهمن عن المعروف بعكس المؤمنين، قال سبحانه واصفاً المنافقين:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} سورةُ التوبة الآية: 67.
قولُه: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِث} الطَّيِّبَاتُ: وَصْفٌ لِلأَطْعِمَةِ قُرِنَ بِهِ حُكْمُ التَحْليلِ، فَدَلَّ على أَنَّ الطِيبَ عِلَّةَ التَحليلِ، وأَفادَ أَنَّ الحرامَ ضِدُّهُ وهو الخبيث، وقدِ اخْتَلَفَتْ أَقوالُ العلماءِ في ضَبْطِ وَصْفِ الطَيِّباتِ؛ فعن مَالِكٍ: "الطَيِّباتُ الحلالُ"، ويَعَني أَنْ يَكونَ المؤذنُ بِتَحقيقِ وَصْفِ الطِيبِ هُوَ الحِلُّ، لأنَّه قدْ يخْفَى على المرءِ، فأَخَذَ بِعَلامَتِهِ، وهيَ الحِلُّ.
وعن الشافعي: "الطيِّباتُ: الحَلالُ المُسْتَلَذُّ، فكُلُّ مُسْتَقْذرٍ فهُوَ مِنَ الخبائثِ وهو حرامٌ. والعبرةُ في الاسْتِلْذاذِ والاسْتِطابَةِ عند الرازي بِأَهْلِ المَروءَةِ والأَخْلاقِ الجميلةِ، فإنَّ أَهْلَ البادِيَةِ يَسْتَطيبون أَكْلَ جميعِ الحيوانات. وفي الفقه الحنفي أنَّ ما اسْتَطابَهُ العَرَبُ حلالٌ، وما استخبثَوهُ فحرامٌ، والذين تُعتَبَرُ اسْتِطابَتُهم أَهْلُ الحِجازِ مِنْ أَهْلِ الأمْصارِ، لأنَّ القُرآنَ أُنْزلَ عليهم وخُوطِبُوا بِهِ، ولم يَعْتَبرْ أَهلَ البَوادي لأنهم يَأْكُلونَ ما يَجدونَ للضَرورَةِ والمجاعة. وما يُوجَدُ في أَمْصارِ المُسلمين، مما لا يَعرِفُهُ أَهْلُ الحِجازِ، رُدَّ إلى أَقْرَبِ ما يُشْبِهُهُ في الحجاز".
أَخرجَ ابنُ جريرٍ الطبريُّ، وابْنُ أَبي حاتمْ، والبَيْهَقيُّ، في سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ في قوله: "ويحرِّمُ عليْهِمُ الخَبائِثَ" قال: كَلَحْمِ الخِنْزيرِ والرِبا وما كانوا يَسْتَحِلُّونَ مِنَ المُحَرَّماتِ، مِنَ المَآكِلِ التي حَرَّمَها الله.
قولُهُ: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} يَضَعُ: تَخْييلٌ، وهو أَيْضًا اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ للإزالةِ. والإصرُ: الثِقلُ، والمُرادُ بهِ هُنا التَكاليفُ الشاقَّةُ والحَرَجُ في الدِّينِ، وقد كانت شريعةُ التوراةِ مُشْتَمِلَةً على أَحكامٍ كَثيرةٍ شاقَّةٍ مِثل العُقوبةِ بالقَتْلِ على مَعاصٍ كَثيرةٍ، مِنْها العَمَلُ يومَ السَبْتِ، ومثل تحريم مأكولاتٍ كثيرةٍ طَيِّبَةٍ، وتَغليظِ التَحريم في أُمورَ هَيِّنَةٍ، وأَشَدُّ ما في شريعةِ التَوراةِ مِنَ الإصْرِ أَنها لم تُشْرَعْ فيها التوبةُ مِنَ الذُنوبِ، ولا اسْتِتابَةُ المجرم. وقد تَقَدَّمَ بَيانُ الإصْرِ عِنْدَ قولِهِ تَعالى في سورة البقرةِ: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} الآية: 286.