وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
(159)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ} وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى: أَيْ: مِنْ بَني إسرائيلَ، فقومُ مُوسى هُمْ أَتْباعُ دينِهِ مِنْ قبلِ بِعْثَةِ سيدنا محمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ ـ فمَنْ بَقيَ مُتَمَسِّكاً بِدينِ مُوسَى، بَعْدَ بُلوغِ دَعْوَةِ الإسْلامِ إِليْهِ، فَلَيْسَ مِنْ قَوْمِ مُوسى، ولكنَّهُ مِنْ بَني إسرائيلَ، أَوْ مِنَ اليَهودِ، لأنَّ الإضافةَ في "قَوْمِ مُوسَى" تُؤْذِنُ بأنَّهم مُتَّبِعُو دينِه الذي مِنْ جُمْلَةِ أُصولِهِ تَرَقُّبُ مَجيءِ الرَّسولِ الأُمِيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّم.
و "أمَّةٌ" أَيْ جَمَاعَةٌ كَثِيرةُ العَدَدِ مُتَّفِقَةٌ في عَمَلٍ يَجْمَعُها، وقَدْ تَقَدَّمَ ذلك مستفيضاً في سورة البقرةِ عند قولِهِ تَعالى: {أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية: 213، والمُرادُ أَنَّ مِنْهم في كُلِّ زَمانٍ قَبْلَ الإسْلامِ.
أَخرجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ صَفوانَ بْنِ عَمْرٍو قال: هُمُ الذين قالَ اللهُ "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق" يَعني سِبْطانِ مِنْ أَسْباطِ بَني إسرائيلَ يَومَ المَلْحَمَةِ العُظمى يَنْصُرونَ الإِسلامَ وأَهْلَهُ.
وهذه الآية الكريمةُ عَطْفٌ عَلى قولِهِ: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً} الآية: 148 منْ هذه السورة. فهذا تخصيصٌ لِظاهِرِ العُمومِ الذي في قولِه: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى} قُصِدَ بِهِ الاحْتِراسُ لِئَلاَّ يُتَوَهَّمَ أَنَّ ذَلك قَدْ عَمِلَهُ قومُ مُوسى كُلُّهم، وللتَنْبيهِ على دَفْعِ هذا التَوَهُّمِ قَدَّمَ {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى} على مُتَعَلَّقِهِ.
قولُه: {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} يَهْدُونَ النَّاسَ بِالحَقِّ الذِي جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَيَعْدِلُونَ فِي تَنْفِيذِهِ إِذَا حَكَمُوا بَيْنَ النَّاسِ، فَلاَ يَتَّبِعُونَ هُوًى، وَلاَ يَأْكُلُونَ سُحْتاً وَلاَ مَالاً حَرَاماً. وقد أَتْبعَ ذكرَهم ذِكرَ أَضدادِهم على ما هُو عادَةُ القُرآنِ؛ تَنْبيهًا على أَنَّ تَعارُضَ الخيرِ والشَرِّ وصراعَ أَهلِ الحقِّ والباطلِ أَمْرٌ مُستَمِرٌ، ونحن نعيشُ الآن عصرَ ظهور اليهودِ وطغيانهم على المسلمين، فقد اغتصبوا المسجد الأقصى وفلسطين، وأسسوا فيها لهم دولةً سموها دولةَ إسرائيل، وشردوا من فلسطين مُعظَمَ أَهْلِها من مسلمين ونَصارى، يُمالِئُهم في ذلك الغربُ النَصرانيُّ المتصهينُ، ويَنْصُرُهم ويمكِّنُ لهم، حتى يهود الفلاشا الأثيوبيين فإنهم مضطهدونَ فيها، ويعاملون كما يعاملُ العبيد، ومَعَ ذلك فإنَّنا نَسمَعُ ونَقرأُ أحياناً لأَحبار يهود وجماعاتٍ يهودية، اعتاضهم على دولة إسرائيل، وإن كانت أصواتهم خافتةً لأنهم قلّةٌ.
وفي كُلِّ أُمَّةٍ، وفي كلِّ عَصْرٍ، أُمَّةٌ صالحةٌ، يُبَصِّرُونَ النَاسَ بالحَقِّ، ويَدْعونَ إلى الله، فمِنْهم مَنْ يَهدِي إلى تَزيينِ الظَواهِرِ بالشَرائِعِ، وهُمُ العُلَماءُ الأتْقياءِ، ومنهم مَنْ يَهدي إلى تَنويرِ السَرائرِ بالحَقائقِ، وهم الأوْلِياءُ، المُحَقِّقونَ العارفونَ بالله.
وفي هذه الآيةِ المباركةِ لَونٌ مِنْ أَلوانِ عَدالَةِ القُرآنِ الكريمِ في أَحْكامِهِ، وإنْصافِهِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الإنْصافَ مِنَ النّاسِ.
إنَّه لا يَسوقُ أَحْكامَاً تعُمُّ الصالِحَ والطالِحَ دونَ تَمييزٍ، وإنَّما يَصْدِرُ أَحْكامَاً مُنْصِفةً باحتراسٍ، فهُو يَحْكُمُ للصالحين بما يَسْتَحِقّونَ، وتلك هي العدالةُ الإلهيةُ التي تتجلى في هذه الآيةِ الكريمةِ وأمثالِها من آياتِ القرآنِ الكريم، ومنها قولُه تعالى في سورة آل عمران: {لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَاءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} الآية: 113.وقولُهُ بعد ذلك في السورةِ ذاتها: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً} الآية: 199. و "يهدون بالحقِّ" أي يَهدونَ الناسَ مِنْ بَني إسرائيلَ أَوْ مِنْ غيرِهم بِبَثِّ فَضائلِ الدينِ الإلهيِّ، وهو الذي سماهُ اللهُ بالحَقِّ، و"يعدلون" أَيْ يحكمونَ حُكْماً لا جَوْرَ فيه.
قولُهُ تعالى: {وبه يعدلون} قدَّمَ المجرورَ للاهتمامِ بِهِ ولِرِعايَةِ الفاصِلَةِ، إذْ لا مُقْتَضي لإرادة القَصْرِ، بِقَرينَةِ قولِهِ: "يَهْدُونَ بِالْحَقِّ" حيثُ لم يُقَدمِ المجرورُ.