وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ
(156)
قولُهُ ـ تباركت أَسماؤه: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ} وَأَثْبِتْ لَنَا، بِرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ "واكتب لَنَا" حَيَاةً طَيِّبَةً فِي هذِهِ الدُّنيا، مِنْ عَافِيةٍ وَبَسْطَةٍ في الرِّزْقِ، وَتَوْفِيقٍ لِطَاعَتك، وَمَثُوبَةٍ حَسَنَةٍ فِي الآخِرَةِ في جَنَّة الرضوان، ووالنظر لجمال وجهِك، و "واكتب" أَثْبِتْ واقْضِ، والكَتْبُ: مُسْتَعْمَلٌ في ما يَخْلُدُ، والحَسَنَةُ: النِعْمَةُ سُمِّيتْ بذلك لحُسْنِ مَوْقِعها في النُفوسِ. وقيل هي الثناءُ الصالحُ الجميل. وقيل هي مُسْتَحِقَّاتُ الطاعةِ. قال ابْنُ عبّاسٍ ـ رضيِ اللهُ عَنْهُما أي: (اقبَلْ وِفادتَنا ورُدَّنا بالمغفرة والرحمة). و "الحسَنةُ" لفظٌ عامٌّ في كلِّ ما يَحْسُنُ في الدُنيا مِنْ عافِيَةٍ وغِنًى وطاعةٍ للهِ تَعالى وغيرِ ذلك، فإنَّ النَكِرَةَ يُرادُ بها العُمومُ في سِياقِ الدُعاءِ. وحَسَنَةُ الآخِرَةِ الجَنَّةُ لا حَسَنَةَ دونَها ولا مَرْمَى وراءَها، وقد سمّاها اللهُ تعالى "الحْسنى" بقولِهِ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} سورة يونس، الآية: 26.
قولُهُ: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} إِنَّنَا تُبْنَا إِلَيْكَ مِمَّا فَرَطَ مِنْ سُفَهَائِنَا مِنْ عِبَادَةِ العِجْلِ، وَمِنْ تَقْصِيرِ العُقَلاءِ مِنّا فِي نَهْيِهِمْ وَالإِنْكَارِ عَلَيهِمْ.
وأَشْهَرُ وَصْفِ بَني إسرائيلَ في القرآن بأنهم هُودٌ وهو جمعُ هائدٍ مِثْلَ قُعودٍ جمعِ قاعدٍ. وأَصْلُ هُود: هُوود، وقد نُسِيَ منه هذا المعنى وصارَ عَلَماً بالغَلَبَةِ على بني إسرائيلَ فَنُودوا بِهِ هُنا بهذا الاعْتِبارِ لأنَّ المَقامَ ليسَ مَقامَ ثناءٍ عَليهم، أَوْ هُو تهكُّمٌ بهم.
قولُهُ: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} وَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى دُعَاءِ مُوسَى قَائِلاً: لَقَدْ أَوْجَبْتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابِي خَاصّاً أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ مِنَ الكُفَّارِ وَالعُصَاةِ، الذِينَ لَمْ يَتُوبُوا، أَمَّا رَحْمَتِي فَقَدْ وَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ، وفي هذا لَطيفةٌ؛ حيثُ لم يَقُلْ: عَذابي لا أُخْلِي مِنْهُ أَحَداً ، بَلْ عَلَّقَه عَلى المَشيئَةِ. وفيه إشارةٌ؛ أَنَّ أَفعالَهُ ـ سبحانُه وتعالى ـ غيرُ مُعَلَّلَة باكْتِسابِ الخَلْقِ؛ لأنَّه لم يَقُلْ: عذابي أُصيبُ بِهِ العُصاةَ بَلْ قال: "مَنْ أَشَاءُ"؛ وفي ذلكَ إشارةٌ إلى جَوازِ الغُفْرانِ لمن أَرادَ لقوله: "أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ" فإذا شاءَ أَلاَّ يُصيبَ بِهِ أَحَداً كان لَهُ ذلك، وإلاَّ لم يَكُنْ حِينئذٍ مختاراً واللهُ جلَّ جلالُ لا يجبُ عليه شيءٌ إلا ما أوجبهُ هو على نفسه، كما قرَّر علماءُ التوحيد. "ورحمتي وسعت كلّ شيءٍ" أيْ مِنْ صِفَةِ رَحمتي أَنَّها واسعةٌ تَبْلُغُ كُلَّ شيءٍ، فما مِنْ مُسْلِمٍ ولا كافِرٍ إلاَّ وعليْهِ أَثَرُ رَحمتي في الدُنيا "فَسَأَكْتُبُها" أي هذِهِ الرَحمةَ "للّذين يتّقون" غَضبي "ويؤتون الزكاة" المفروضَةَ "والّذين هم بآياتنا" بجميعِ كُتُبٍنا "يؤمنون" لا يَكفُرونَ بِشَيْءٍ مْنْها. وَسَأُثْبِتُ رَحْمَتِي بِمَشِيئَتِي لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكُفْرَ وَالمَعَاصِيَ، وَيُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَيُؤْتُونَ الصَّدَقَاتِ التِي تَتَزَكَّى بِهَا نُفُوسُهُمْ، وَلِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَيُصَدِّقُونَ بِجَمِيعِ آيَاتِي الدَّالَّةِ عَلَى الوحْدَانِيَّةِ، وَيُصَدِّقُونَ رُسُلِي، وَمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ.
قالتِ الأَشاعِرَةُ: هذا مِنَ العامِّ الذي أُريدَ بِهِ الخاصُّ. وقالَ أَكْثَرُ المحقِّقين: إنَّ رَحمتَهُ في الدُنيا تَعُمُّ الكُلَّ، المسلمَ والكافرَ، المطيعَ والعاصي، فالكلُّ مُتَقَلِّبٌ في نِعْمَتِهِ. وأَمّا في الآخرَةِ فهي مختصَّةٌ بالمؤمنين لذلك قال: "فَسَأَكْتُبُها للذين يتقون" فَلا مَوْجُود إلاَّ وهو مُشْمُولٌ بِنِعْمَتِهِ. وقيل: الخيرُ مَطلوبٌ بالذاتِ والشَّرُّ مَطْلوبٌ بالعَرَضِ وما بالذاتِ راجِحٌ غالبٌ.
وقالت المعتزلة: الرَّحمةُ عِبارةٌ عَنْ إرادةِ الخَيرِ، ولا حَيَّ إلاّ وقدْ خَلَقَهُ اللهُ تَعالى للرَّحمةِ والخيرِ واللَّذَّةُِ وإنْ حَصَلَ هُناكَ أَلَمٌ فَلَهُ أَعْواضٌ كَثيرةٌ. وقال مقاتل: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" يَعني مَلأَتْ كُلَّ شيءٍ، فقالَ إبليس: فأَنا مِنْ كُلِّ شيءٍ، قال اللهُ تعالى: "فَسَأَكْتُبُهَا"، يَعني الرحمةَ، "لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ"، فَعَزَلَ إبليس، يَعني للذين يُوحِّدونَ رَبهم، "وَيُؤْتُونَ الزكاة" يَعني أُمَّةَ محمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ "والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ"، يَعني بالقَرآنِ يُصدِّقونَ أَنَّهُ مِنَ اللهِ، قالتِ اليَهودُ: فنَحْنُ نَتَّقي اللهَ، ونُؤتي الزَكاةَ، ثمَّ نَعَتَهم، فقال: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسولَ النبيَّ الأُمِيَّ} على دينِهِ، يَعْني محمَّداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعزل إبليسَ واليَهُودَ.
والكَتْبُ هُنا مُسْتَعارٌ لِمَعنى العَطاءِ المُحَقَّقِ حُصولُهُ، المجدَّدِ مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ، لأنَّ الذي يُريدُ تحقيقَ عَقْدٍ، أوْ عَطاءٍ، وتَعَلُّقَهُ بالتَجَدُّدِ في المُسْتَقْبَلِ يَكْتُبُ ذلكَ في صَحيفَةٍ، فإذا كانَ العطاءُ لمرَّةٍ واحدةٍ لمْ يَحْتَجْ للكِتابَةِ، فالحوزُ أَوِ التَمْكِينُ مُغْنٍ عَنِ الكِتابةِ.
قولُه تعالى: {إنّا هُدْنَا إليك} العامَّةُ على ضمِّ الهاءِ، مِنْ "هُدْنا" على أنَّه مِنْ هادَ يَهودُ بمعنى مَالَ، أَيْ مِلْنا، من ذلك ما جاء في الحديث: وخَرَجَ ـ عَلَيهِ الصلاةُ والسلامُ ـ في مَرَضِهِ يَتَهادى بين اثْنينِ، أَيْ يَتَمايَلُ. ومِنْهُ الهَدِيّةُ لأَنَّها تُمالُ مِنْ مِلْكٍ إلى مِلْكٍ. ومِنْهُ الهَدْيُ: للحَيَوانِ الذي يُساقُ إلى الحَرَمِ، فالمَعنى: مِلْنا بِقلوبِنا إلى الحق. قال امرؤُ القيسِ (من السريع):
قد عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها ....................... أني مِنَ الله لها هائدُأوْ تَابَ، ومِنْه قولُ الشاعرُ (مِنَ المجتثّ):
إني امرؤٌ مما جَنَيْتُ هائِدُ ... . . . . . . . . . . . . . . .وقال زُهير:
سِوَى مَرْبَعٍ لَمْ تَأْتِ فِيهِ مَخَافَةً .............. وَلاَ رَهَقاً مِنْ عَابِدٍ مُتَهَوِّد
فَسُمُّوا يَهوداً لِتَوْبَتِهم مِنْ عِبادَةِ العِجْلِ. وقال أَبو عمرو ابنُ العلاءِ: لأنَّهم يَتَهَوَّدون، أيْ: يَتَحَرَّكُونَ عِنْدَ قِراءَةِ التَوْراةِ، ويَقولون: إنَّ السمواتِ والأرضَ تَحَرَّكَتْ حينَ آتى اللهُ مُوسى التوراةَ
ومنْ كلامِ بعضِهم: يا راكبَ الذَنْبِ هُدْ هُدْ، واسْجُدْ كَأنَّكَ هُدْهُدْ.
وقيل: لأنهم مِنْ أَوْلادِ يَهودا بْنِ يَعقوب. سُمُّوا بِهِ لأنَّهم نَسَبوا إلى يَهوذا أَكْبَرِ وَلَدِ يَعقوبَ، وإنَّما قالتِ العَرَبُ بالدالِ للتَعْريبِ فإنَّ العَرَبَ إذا نَقَلوا أَسماءً مِنَ العَجَميَّةِ إلى لُغتِهم غَيّروا بَعضَ حُروفِها.
وقرأَ زَيْدُ بْنُ عليٍّ وأَبو وَجْزَةَ "هِدْنا" بِكَسْرِ (الهاء) مِنْ هادَ يَهيدُ أيْ حَرَّكَ. وقد أَجازَ الزَمخشريُّ في هُدْنا وهِدْنا بالضَمِّ والكَسْرِ أَنْ يَكونَ الفِعلُ مَبْنِيّاً للفاعِلِ أَوِ للمَفعولِ في كلٍّ مِنْهُما بمعنى مِلْنا أَوْ أَمالَنا غَيرُنا، أَوْ حَرَّكْنا نحنُ أَنْفُسَنا أَوْ حَرَّكَنا غيرُنا وفيه نَظرٌ، لأنَّ بَعْضَ النَّحْويّينَ قدْ نَصَّ على أَنَّهُ مَتى أُلْبِسَ وَجَبَ أَنْ يُؤتى بِحَرَكَةٍ مُزيلَةٍ لِلَّبْسِ، فيُقالُ في "عُقْتُ" مِنَ العَوْق إذا عاقَكَ غَيرُكَ: "عِقْتُ" بالكسرِ فقط أَوِ الإِشمام، وفي "بِعْتَ" يا عَبْدُ، إذا قَصَدَ أَنَّ غيرَهُ باعَهُ: "بُعْتَ" بالضمِّ فَقَطْ أَوِ الإِشمامِ، ولكنَّ سِيبَوَيْهِ جَوَّزَ في "قِيلَ" و "بِيعَ" ونحوِهِما الأَوْجُهَ الثلاثةُ منْ غيرِ احْترازٍ.
قولُهُ {إن هِيَ إلاَّ فتنتُكَ} هي: ضميرٌ يُفَسِّرُهُ سِياقُ الكَلامِ إذْ التَقديرُ: إنْ فِتْنَتُهم إلاَّ فِتْنَتُك. وقيلَ: يَعودُ على مَسْأَلَةِ الإِراءَةِ مِنْ قولِهِ: {أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً} أي: إنْ مسألةَ الرؤيةِ.
وقولُهُ: {عذابي أُصِيبُ به منْ أشاءَ} عذابي: مُبْتَدَأٌ، وَ "أصيبُ" خَبرُهُ. والعامَّةُ على {مَنْ أشاءُ} بالشِينِ المُعْجَمَةِ. وقرأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وطاووسُ وعَمْرو بِنُ فائد: "أساءَ" بالمُهمَلَةِ مِنَ الإِساءَةِ.
قالَ الداني: لا تَصِحُّ هذِه القِراءةُ عَنِ الحَسَنِ ولا عَنْ طاووسَ، وعَمْرو بن فائد رجلُ سَوْءٍ. وقَرَأَها يَوماً سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ واسْتَحْسَنَها، فقام إليه عبدُ الرحمنِ المُقرِئُ فصاحَ بِهِ وأَسْمَعَهُ فقالَ سُفيانُ: لم أَفْطِنْ لما يَقولُ أَهْلُ البِدَعِ. ويعني عبدُ الرَحمنِ أَنَّ المعتزلةَ تَعَلَّقوا بهذِهِ القِراءَةِ في أَنَّ فِعْلَ العبدِ مخلوقٌ لَهُ، فاعْتَذَرَ سُفْيانُ عَنْ ذَلك.