وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
(153)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّه: {والذين عَمِلُواْ السيئات} والذين عَملوا السيئات مِنْ كُفْرٍ ومعاصٍ، أيَّ سيئةٍ كانت لِعُمومِ المَغْفِرَةِ ولأنَّه لا داعي للتخصيص. فقد أخرجَ ابنُ أبي حاتم عَنْ عبد الله ابنِ مَسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ أنَّه سُئِلَ عَنِ الرَجُلِ يَزْني بالمَرْأَةِ ثمَّّ يَتَزَوَّجُها، فتلا: "وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ". تلاها عشرَ مراتٍ ولم يأمرْهم ولم يَنهَهم عنها.
قولُه: {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا} ثمَّ تابوا رجعوا إلى الله، مِنْ بَعدِ فعل المعصية واعتصموا بالإيمان وعملوا الصالحات. أمَّا التَوبةُ مِنَ السَيِّئات فهيَ النَدَمُ على ما سَلَفَ، والعَزْمُ على أَلاّ يَفعلَ مِثلَها، وهجر قرناء السوء. وأنْ يكره أنْ يعودَ إليها كما يَكْرَهُ أَنْ يُلقى في النارِ، وأنْ يردَّ الحقوقَ والمظالمَ إلى أصحابها أو يستَسْمِحَهم، إنْ كان الذنب يَتَعَلَّقُ بالناس، كأكلِ مالهم أو أذيَّتِهم أو غِيبَتِهم أو غير ذلك. "وآمنوا" أي، حالَ كونهم مؤمنين، لأنَّ الواوَ هنا يمكنُ أن تكون حاليةً، أو أن المقصودَ ب "وآمنوا" أي: عادوا إلى إيمانهم، فتكون مخصوصةً بالمرتدين، عقيدةً أو عملاً مكفِّراً يخرجُ المرءَ من ربقة الإسلامِ، فيكونُ عليه والحالة هذه أن يجدِّد إيمانه، أو أنَّ "وآمنوا" تعني أنّهم صَدَّقوا وأَيْقَنوا أَنَّ اللهََ سيغفرُ لهم، لأنَّهُ مِنَ الواجِبِ على المؤمِنِ أنْ يُحْسِنَ الظَنَّ بِرَبِّهِ، ويَثِقَ بِوَعْدِهِ له، وقد وعَدَهُ العَفْوََ والمَغْفِرَةَ إنْ هو تابَ إليْه وأَناب، ولقولِه ـ صلى الله عليه وسلم: ((ادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ)). حسنٌ، سنن الترمذي: (11/383) عن أبي هريرة، ورواهُ أيضاً برقم: (3479) عن معاوية بن صالح، ورواهُ الحاكمُ في المستدرك (1/493) عن عفان بن مسلم وموسى ابن إسماعيل، ورواه الطبراني في كتاب الدعاء برقم (62) عن مخلد بن خداش. ويمكنُ أن يكونَ المخصوصَ بالخطابِ هم أهلُ الكتابِ، إذا ما رجعوا إلى اللهِ وأقلعوا عن تزويرهم إيمانهم بالله وتَكذيبِهم رسولَهُ، وأقلعوا عن عبادة العجل وغيرها من المخالفات، وآمنوا برسول اللهِ محمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ وبما أنزل اللهُ عليه من كتاب، والآيةُ تحتملُ كلَّ هذهِ التأويلاتِ، وتَشْمَلُ كلَّ أولئك العاصين إذا ما تابوا ورجعوا إلى مولاهم وحَسُنَتْ أعمالُهم.
قولُه: { إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} إنَّ ربِّكَ مِنْ بَعْدِ التَوْبَةِ النَّصوحِ لَغَفورٌ عنهم، غفورٌ لأعمالهم، وهو غيرُ فاضِحِهم بها في الآخرة، لأنَّ من معاني العفوِ المحوُ، وهو رَحيمٌ بهم وبِكلِّ مَنْ كانَ مِثْلَهُم من التائبين. وإذا كان اللهُ غفوراً رحيماً، فإياكُم أن تُذَكِّروا مُذْنِباً بِذَنْبِهِ بعدَ أَنْ يَتوبَ؛ فتقول للسارقِ التائب: يا سارق، أو تَقولَ للزاني التائب: يا زاني، إلى آخر ذلك. لأنَّ صاحبَ الشَأْنِ قد عفا وغَفَرَ.
قوله تعالى: {والذين عَمِلُواْ} مُبْتَدأٌ، وخبرُهُ، قولُهُ: "إن ربك" إلى آخره. والعائد محذوفٌ والتقديرُ: غفورٌ لهم رحيم بهم كقوله في سورة الشورى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} الآية: 43. أي: منه.
قوله: {مِن بَعْدِهَا} يجوزُ أنْ يَعودَ الضَميرُ على "السيئات" وهو الظاهرُ، ويجوزُ أَنْ يَكونَ عائداً على التوبةِ المدلولِ عليْها بقولِهِ: "ثم تابوا"، أي: مِنْ بعدِ التوبةِ. وهذا أَوْلَى، لأنَّ الأوَّلَ يَلْزمُ مِنْهُ حَذْفُ مُضافٍ ومَعْطوفِه، إذِ التَقديرُ: من بعد عَمَلِ السيئات والتوبةِ منها.
قولُه: {وآمنوا} يجوزُ أَنْ تَكونَ الواوُ للعطفِ فيُقالَ: التوبةُ بعدَ الإِيمانِ فكيفَ جاءَتْ قَبْلَه؟ فالجواب: الواو لا تُرَتِّبُ، ويجوزُ أَنْ تَكونَ الواوُ للحال، أي: تابوا وقد آمنوا.