قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ
(29)
قولُهُ ـ سبحانَه وتعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} بيانٌ للمَأْمورِ بِهِ إثْرَ نَفْيِ ما أُسْنِدَ أَمْرُهُ إليْهِ ـ تعالى ـ مِنَ الأُمورِ المَنْهِيِّ عَنْها؛ فقال: وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ: أَمَرَ رَبِّي بِالاسْتِقَامَةِ وَالعَدْلِ فِي كُلِّ الأُمُورِ، والقِسْطُ هُوَ الوَسَطُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: المُتَجافي عَنْ طَرَفَيِّ الإفْراطِ والتَفْريطِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهُما ـ القِسْطُ هو: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ. وقالَ مُجاهِدٌ والسُدِّيُّ: القِسْطُ العَدْلُ. فالقِسْطُ: هُوَ العَدْلُ في كُلِّ شَيْءٍ: في القولِ والفِعْلِ وغيره، كَما قالَ في سُورَةِ الأَنْعامِ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} الآية: 152، وكقولِهِ ـ تعالى ـ في سورة النساءِ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} الآية: 135. وأَصْلُ العَدْلِ: هو مُحافَظَةُ الشَيْءِ على الحَدِّ الذي جُعِلَ لَهُ، وَوَضْعُه مَوْضِعِهِ. وفيهِ أَنَّ اللهَ ـ سُبحانَهُ ـ يأمُرُ بالعَدْلِ، لا كَما زَعَموهُ مِنْ أَنَّ اللهَ أَمَرَهُمْ بالفَحشاءِ، والمعنى أَمَرَ العَدْلَ فَأَطِيعُوهُ، فَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ.
قولُهُ: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} "أنْ" مَطْوِيَّةٌ في الكَلامِ ومَقصودةٌ، والسِياقُ هَكَذا: أَمَرَ ربّي بالقِسْطِ وبِأَنْ أَقيموا وُجوهَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ. أَيْ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، أيْ: إِلَى الْقِبْلَةِ، وذلك فِي أَيِّ مَسْجِدٍ كُنْتُمْ. فَأَقْسِطُوا وَتَوَجَّهُوا إلَى اللهِ بِخُشُوعٍ وَحُضُورِ قَلْبٍ، عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ تَعْبُدُونَهُ فِيهِ، وَأَخْلِصُوا فِي عِبَادَتِهِ، وقيل: "وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ"، أيْ: اجْعَلوا عِبادَتَكم للهِ، ولا تُشْرِكوا فيها غَيْرَه؛ وقيل: "أَقِيمُوا وجوهَكم"، أيْ: سَوُّوا وُجوهَكمْ نَحْوَ الكَعْبَةِ، "عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ"، أيْ: في كلَّ مَكانٍ تكونون فيه، وهوَ كَقَولِهِ في سورة يونس: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} الآية: 87. أي: اجْعَلوا بُيوتَكم نَحْوَ الكَعْبَةِ؛ وكقولِه: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} سورة البقرة، 144. وإقامةُ الوَجْهِ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ، هي الاتِّجاهُ إلى اللهِ تَعالى، مثل قولِه تعالى في سورةِ الروم: {فأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} الآية: 30، والوُجوهُ هيَ الذَواتُ، أيْ اتَّجِهوا إلى اللهِ تَعالى بِكُلِّ أَنْفُسِكُم عندَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وهذا ما يطلُبُه اللهُ تعالى عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ، معَ توقيرِ المَساجِدِ، وإعْطائها حَقَّها في الاحْتِرامِ والإجْلالِ، فلا يَصِحُّ أَنْ يَكونَ فيها عُرْيٌ أوْ ما يَكونُ رَذيلَةً في ذاتِهِ، أوْ ما يَبْعَثُ على الرَّذيلةِ، وأَنْ يَكونَ الاحْتِشامُ هو الزِيَّ الأَكْمَلَ. وإقامةُ الذاتِ للهِ تَعالى أَنْ تَكونَ خالِصَةً لَهُ ـ سبحانه ـ ومُسْتَشْعِرَةً خَشْيَتَهُ، وجَلالَهُ. وقُرِنَ الوجهُ هُنا بالمَسْجِدِ، لِكَرامَةِ المَسْجِدِ كما ذَكَرْنا؛ ولأنَّهُ رَمْزُ الصَلاةِ، فإقامةُ الوَجْه في الصَلاةِ بأنْ يَكونَ فيها اسْتِحْضارُ عَظَمَةِ اللهِ ـ سُبْحانَهُ وتعالى ـ في قِراءتِها وأَدْعِيَتِها وكُلِّ حَرَكاتِها، لَا يَعْمُرُ القَلْبَ فيها غيرُ اللهِ تعالى.
ويُشْبِهُ أَنْ يَكونَ الوَجْهُ كِنايَةً عنِ الأنْفُسِ وعبارةً عنها؛ كأنَّهُ قالَ: أَقيموا أَنْفُسَكُم للهِ، لا تًشرِكوا فيها لِأَحَدٍ شِرْكًا كقوله في سورة لقمان: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ} الآية: 22. أَيْ بِجَعْلِ نَفْسِهِ للهِ سالِمًا.
قولُهُ: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، ادْعُوهُ: أَيْ وَحِّدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ. ويَحْتَمِلُ قولُهُ: "وَادْعُوهُ"، أيْ: اعْبُدوهُ، أوْ أنَّ المقصودَ هو الدعاءُ نَفسُه، أيْ: ادْعوهُ رَبًّا خالقًا ورحمانًا، فقد قَرَنَ ـ سبحانَه ـ الأمرَ بإقامَةِ الوُجوهِ للهِ بالأمْرِ بالدُعاءِ، فالأمرُ بالدُعاءِ هُوَ الأَمْرُ بالعِبادَةِ، لأنَّ العِبادَةَ دُعاءٌ، ولأنَّ الدعاءُ رأسُ العبادة وأساسُها كما قالَ ـ عليْه الصلاةُ والسلامُ ـ فيما أَخْرَجَ التِرْمِذِيُّ والحاكمُ عَنْ أَنَسٍ بْنِ مالكٍ ـ رضيَ الهُه عَنْهُ. وأَخْرَجَ البُخاريُّ في الأدَبِ عنْ السيدةِ عائشةَ ـ رضي الها عنها ـ قالت: سُئِلَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم: أيُّ العبادةِ أَفْضَلُ؟ فقالَ: ((دُعاءِ المَرْءِ لِنَفْسِهِ)). لأنَّ الدُعاءَ اتِّجاهٌ إلى اللهِ ـ تعالى ـ بِضَراعَةٍ وخُشوعٍ، وتذلُّلٍ وخُضُوعٍ. و"مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ" بالوَحْدانيَّةِ والأُلوهيَّةِ والرُّبوبيَّةِ، ومُخْلِصينَ لَهُ العِبادةَ، ولا تُشْرِكوا غَيْرَهُ فيها. ويَحْتَمَلُ: أيْ دِينُوا بِدينِهِ الذي دَعاكم إلى ذَلِكَ وأَمَرَكم بِه. مخلصين لَهُ تَعالى، بحيثُ لَا نُشْرِكُ في عِبادَتِهِ أَحَداً، فلا نَعْبُدَ أَحداً سِواهُ، ولا نُرائي في عِبادَتِه، فالرياءُ في العِبادَةِ هو الشِرْكُ الخَفِيُّ، ولِذا وَرَدَ أَنَّ النَبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ قال: ((مَنْ صَلّى يُرائي فقدْ أَشْرَكَ، ومَنْ صامَ يُرائي فقَدْ أَشْرَكَ، ومَنْ تَصَدَّقَ يُرائي فَقَدْ أَشْرَكَ)). أَخْرَجَهُ أَحمدُ، والطَبرانِيُّ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، والبَيْهَقِيُّ، وغيرُهم، عنْ شداد بنِ أوسٍ رضي الهُي عنه، وعَنْه قال: كُنَّا نَعُدُّ الرِّياءَ على عَهْدِ رسولِ اللهِ ـ صَلى اللهُ عليْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ـ الشِرْكَ الأَصْغَرَ. وأَخرجَ أَحْمَدُ أيضاً، والطيالِسِيُّ، أنَّ رسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ قال: ((إنَّ اللهَ يَقولُ أَنَا خَيرُ قَسيمٍ لِمَنْ أَشْرَكَ بِي، مَنْ أَشْرَكَ بي شَيْئاً فإنَّ عَمَلَهُ قَليلُهُ وكَثيرُهُ لِشَريكِهِ الذي أَشْرَكَهُ، أَنَا عَنْه غَنِيٌّ)). وهو مِصداقُ قولِه تعالى: {فمَنْ كانَ يَرجو لِقاءَ ربِّه فلْيَعْمَلْ عملاً صالحاً ولا يُشركْ بعبادةِ ربِّه أَحَداً} الكهف: 110.
وقولُهُ: {كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} نَظِيرُهُ قولُهُ تعالى في سورةِ الأنعامِ: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية: 94. فقد قَرَنَ ـ سُبحانَهُ ـ الأَوامِرَ السابقةَ بالتَحذيرِ مِنْ عِصْيانِه، والتذكيرِ بالبعثِ، وأَنَّ وراءَ البعثِ قيامَةٌ وحِسابٌ، فثوابٌ أوْ عقابٌ، ولِذا قالَ تعالى: "كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ".أَيْ يُعيدكم كما بَدَأَكُم، وهو دَعْوَةٌ إلى الإيمانِ بالبعث، وتذكيرٌ بِهِ، وهذا التذكير يَحْمِل ُفي نفسِه دَليلَهُ، والمعنى بهذا البدءِ بالخَلْقِ والتَكْوينِ تَعودون، والدليلُ عليه بقياسِ الإعادةِ على الإنشاءِ، واللهُ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ.
قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} قل: فِعْلُ أَمْرٍ والفاعِلُ ضميرٌ مستترٌ وجوباً تقديرُهُ "أنت"، و"أمر" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتح الظاهر، و"ربّي" فاعلٌ مَرفوعٌ وعلامةُ رفعِه الضَمَّةُ المُقَدَّرَةُ على ما قبلِ ياءِ المتكلَّم، وهو مضافٌ، وياءُ المتكلِّم ضميرٌ متًّلٌ في محلِّ جرِّ مضافٍ إليْه، و"بالقسط" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "أمر"، وجملةُ "قُلْ" مستأنَفَةٌ لا محلَّ لها من الإعراب، وجملةُ "أمر" في محلٍ نصبٍ مقولَ القول.
قولُه: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الواو: حرفُ عطفٍ، "أَقيموا" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٍّ على حَذْفِ النُونِ لأنَّه من الأفعالِ الخمسةِ، والواو الدالّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، و"وُجوهَ" مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ وهو مضافٌ، و"كُمْ" الكافُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليهِ، والميمُ علامة جمع المذكَّر، و"عند" ظَرْفٌ مَنصوبٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "أقيموا" وهو مضافٌ، و"كُلّ" مُضافٌ إليْهِ أوَّل، مَجْرورٌ و"مسجدٍ" مُضافٌ إليْهِ ثانٍ مَجرورٌ. ويحتمَلُ أنْ يكونَ "مَسْجِدٍ" هُنا ظرفاً للمكانِ وللزمانِ، أي: في وَقْتِ كُلِّ سُجودٍ، وفي مَكانِ كُلِّ سُجودٍ. وكانَ مِنْ حَقِّ "مَسْجِدٍ" أنْ يكونَ "مَسْجَد" بِفَتْحِ العَيْنِ، لأنها مضْمومةٌ في المُضارِعِ، ولَهُ في هذا الشُذوذِ أَخَواتٌ كثيرةٌ مَذكورةٌ في التَصريفِ. وجملةُ "أقيموا" الأظْهَرُ أَنَّها في محلِّ نصبٍ عَطْفاً على جملةِ مقولِ القِولِ المُقَدَّرِ، أَيْ: الذي يَنْحَلُّ إليْهِ المَصْدَرُ وهُوَ "القسط"، فهو ينحلُّ لِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وفِعْلٍ، والتقديرُ: قُلْ: أَمَرَ رَبِّي بِأَنْ أَقْسِطُوا وأَقيموا، وكَما أَنَّ المَصْدَرَ يَنْحَلُّ لـ "أَنْ" والفِعْلِ الماضي نحو: "عَجِبْتُ مِنْ قيامِ زَيْدٍ وخَرَجَ" أيْ: عجبتُ مِنْ أَنْ قامَ وخَرَجَ، وينحلُّ كذلك لـ "أَنْ" والفعلِ المُضارِعِ كقولِ ميسون بنتٍ بَحْدَلٍ:
لَلُبْس عباءَةٍ وتَقَرَّ عَيْني ... . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم. أيْ: لأَنْ أَلْبَسَ وتَقَرَّ، كذلكَ يَنْحَلُّ لـ "أَنْ" وفِعلِ أَمْرٍ لأنَّه بالثلاث الصيغ: الماضي والمضارعِ والأمرِ بِشَرْطِ التَصَرُّفِ. وهذا بِخلافِ "ما" فإنَّها لا تُوصَلُ بالأَمْرِ، وبِخلافِ "كي" فإنَّها لا تُوْصَلُ إلاَّ بالمُضارِعِ، فلِذلك لا يَنْحَلُّ المَصْدَرُ إلى "ما" وفعلِ أمرٍ، ولا إلى "كي" وفعلٍ ماضٍ أوْ مُضارِعٍ. وقالَ الزَمَخْشَرِيُّ: "وأَقيموا وُجوهَكَمْ" أي وقُلْ أَقيموا وُجوهَكم، أيْ: اقْصُدوا عبادَتَه". وهذا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكونَ أَرادَ بقولِهِ: "قل" أَنَّه مُقدَّرٌ غيرُ هذا المَلفوظِ بِهِ، فيَكونُ "أقيموا" معمولاً لقولٍ أَمْرٍ مُقَدَّرٍ، ويَحتمِلُ أَنْ يَكونَ مَعْطوفاً على قولِهِ: "أَمَر ربي" فإنَّهُ مَعمولٌ لـ "قل". وإنَّما أَظْهَرَ الزَمَخْشَرِيُّ "قل" معَ "أقيموا" لِتَحقيقِ عَطْفيَّتِهِ على "أَمَر ربي". ويَجوزُ أَنْ يَكونَ قولُهُ "وأقيموا" مَعْطوفاً على أَمْرٍ مَحْذوفٍ تقديرُه: قُلْ أَقْبِلوا وأَقيموا. وقالَ الجُرجاني صاحبُ "النظم": "نَسَقَ الأمرَ على الجَرِّ" وجازَ ذلك لأنَّ قولَهُ: "قُلْ أَمَرَ رَبِّي" قولٌ؛ لأنَّ الأمْرَ لا يَكونُ إلاَّ كَلاماً والكلامُ قولٌ، وكأنَّه قال: قُلْ يَقولُ ربّي: "أقسطوا وأقيموا" يَعني أَنَّهُ عَطفٌ على المَعنى.
قوله: {وادْعوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} الواو: عاطفةٌ، "ادعوا" مِثُلُ "أقيموا"، و"الهاءُ" ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مَفعولٍ بِهِ، و"مُخْلِصِينَ" حالٌ مِنْ فاعلِ "ادعُوه"، منصوبٌ وعلامَةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنّه جمعُ مُذكَّرٍ سالمٍ، والنونُ عوضاً عنِ التنوينِ في الاسمِ المفردِ، و"له" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بـ"مُخْلصين"، ويَجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذوفٍ على أَنَّهُ حالٌ مِنَ "الدين". و"الدين" مَفْعولٌ بِهِ لاسْمِ الفاعِلِ "مخلصين" مَنصوبٌ وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهرةُ.
قولُه: {كَمَا بَدَأَكُمْ تعودون} الكاف" حَرْفُ جَرٍّ وتَشْبيهٍ، في مَحَلِّ نَصْبٍ نَعْتاً لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ والتَقْديرُ: تَعُودونَ عَوْداً مثلَ ما بَدَأَكُم. وقيلَ التَقديرُ: يَخْرجونَ خُروجاً مِثْلَ ما بَدَأَكُم، والأَوَّلُ أَلْيَقُ بِلَفْظِ الآيةِ الكريمةِ. وقال ابْنُ الأنْباري: "موضعُ الكافِ في "كما" نَصْبٌ بـ "تعودون" وهو على مَذْهَبِ العَرَبِ في تَقديمِ مَفعولِ الفِعْلِ عَليْه، أيْ: تَعودونَ كَما ابْتَدَأَ خَلْقَكُمْ. وقالَ أبو عليٍّ الفارِسِيُّ: "كما بَدَأَكُم تَعودونَ" لَيْس على ظاهِرِهِ، إذْ ظاهِرُهُ: تَعودون كالبَدْءِ، ولَيْسَ المعْنى تَشبيهَهم بالبَدَاءِ، إنَّما المَعنى على إعادَةِ الخَلْقِ كَما ابتُدِئ، فتَقديرُ: "كما بدأكم تعودون": كَما بَدَأَ خَلْقَكَمْ، أيْ: يُحْيِي خَلْقَكَمْ عَوْداً كَبَدْئِهِ، وكما أَنَّهُ لَمْ يَعْنِ بالبَدْءِ ظاهِرَهُ مِنْ غَيْرِ حَذْفِ المُضافِ إليْهِ، كذلك لَم يَعْنِ بالعَوْدِ مِنْ غيرِ حَذْفِ المُضافِ الذي هو الخَلْقُ، فلمَّا حَذَفَهُ قامَ المُضافُ إلِيْهِ مَقَامَ الفاعِلِ فَصارَ الفاعِلون مُخاطَبِين، كَما أنَّه لَمَّا حَذَفَ المُضافَ مِنْ قولِهِ كما بَدَأَ خَلْقَكُمْ صارَ المُخاطَبون مَفعولين في اللَّفْظِ. يَعني أَنَّ الأَصْلَ كما بَدَأَ خَلْقُكُمْ يَعودُ خَلْقُكُم، فحَذَفَ الخَلْقَ في المَوْضِعَيْنِ، فصارَ المُخاطَبونَ في الأَوَّلِ مَفعولِين بَعدَ أَنْ كانوا مَجرورين بالإِضافَةِ، وفي الثاني صاروا فاعلين بَعدَ أَنْ كانوا مَجْرورين بالإِضافة أيْضاً. و"ما" حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ، أَيْ: كَبَدْئكُم. و"بدأ" فعلٌ ماٍضٍ مبني على الفتح الظاهرِ. و"بدأ" بالهمزِ أَنْشَأَ واخْتَرَعَ، ويُسْتعمَلُ بِهذا المَعْنى ثُلاثيّاً ورُباعيّاً على وزنِ "أَفْعَلَ"، فالثُلاثيُّ كهذِهِ الآيةِ، وقدْ جَمَعَ بَيْنَ الاسْتِعْمالَيْنِ في قولِهِ تعالى في سورةِ العنكبوت: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الخَلْقَ} الآية: 19. فـ "يُبْدئ" هنا مِنْ أَبْدَأَ، ثُم قال: {كَيْفَ بَدَأَ الخلق} سورة العنكبوت، الآية: 20. وهذا فيما يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ. وأَمَّا ما يَتَعَدَّى بالباءِ نحو: بدأتُ بِكَذا، بمَعنى قَدَّمْتُهُ، وجَعَلْتُهُ أوَّلَ الأشياءِ، يُقالُ مِنْه: بَدَأْتُ بِهِ وابْتَدَأْتُ بِه. ويقال أيضاً مِنْ هذا: أَبْدَأْتُ بِهِ عَلى وزنِ "أَفْعَل" وهو غَريبٌ. وقولُهم: "أَبْدَأْتُ مِنْ أَرْضِ كذا" أيْ: ابْتَدَأْتُ مِنْها بالخُروجِ. والبَدْءُ: السَيِّدُ، سُمِّيَ بِذلكَ: لأنَّه يُبْدَأُ بِهِ في العَدِّ إذا عُدَّ الساداتُ، وذكَروا عليْهِ قولَ أعرابيٍّ من
بني أسَدٍ:
فَجِئْتُ قبورَهم بَدْءاً ولمَّا ................... فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ
أي: جئتُ قبورَ قومي سَيِّداً ولمَّا أَكُنْ سَيِّداً، لكنْ بموتِهم صُيِّرْتُ سيِّداً وهو من أبياتِ قالَ فيها:
وقائلةٍ أَسيتَ، فقلتُ جيرَ ..................... أَسًى إنّني مِنْ ذاك إنَّهْ
أَصابَهُم الحِمى وهُمُ عَوافٍ ................... وكُنَّ عَليهِمُ نَحْساً لُعِنَّهْ
فجئتُ قُبورَهُم بَدْءً ولَمَّا ................... فَنادَيْتُ القُبورَ فَلَمْ يُجِبْنَهْ
وكيفَ يُجيبُ أَصداءٌ وهامٌ ................... وأَبْدانٌ بَدَرْنَ وما نُخِرْنَهْ
قولُه: جَيْرَ أَيْ حَقّاً. وقالِ الآخَرِ:
خَلَتِ الديارُ فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّدِ .......... ومن العَناء تفرُّدي بالسُّؤْدُدِ
و"كم" الكافُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولٍ بِهِ، والميمُ علامة الجمع المذكَّرِ، والفاعلُ ضميرٌ مستترٌ جوازاً تقديرُهُ: "هو" يعودُ على الخالقِ ـ سبحانَه. والمَصْدَرُ المُؤوَّلُ "ما بدأكم" في مَحَلِّ جَرٍّ بالكَافِ وهو مَتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ مَفْعولٍ مُطْلَقٍ عامِلُهُ الفِعْلُ الآتي، أَيْ: تَعودونَ عَوْداً كَبَدْءِ خَلْقِكم. و"تعودون" فعلٌ مضارعٌ مَرْفوعٌ، وعلامة رفعِهِ ثبوتُ النون لأنّه من الأفعال الخمسةِ، والواوُ: ضميرٌ متَّصلٌ دالٌّ على الجماعةِ في محلِّ رفعِ فاعلٍ. وجملةُ: "ادعوه": في محلِّ نَصْبٍ مَعْطوفةٌ على جُمْلَة أَقيموا. وجُملةُ "بدأكم" صلةُ الموصولِ الحرفي "ما" لا محلّ لها من الإعرابِ. وجُمْلَةُ "تعودون": استئنافٌ فيه معنى التعليلِ للأمَرِ "أقيموا" لا محلَّ لها من الإعرابِ.