إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ
(152)
قوله ـ تعالى جّدُّهُ: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} إِنَّ الذِينَ اسْتَمَرُوا عَلَى عِبَادَةِ العِجْلِ، كَالسَّامِريِّ وَأَشْيَاعِهِ، يدلُّ على ذلك أنَّ الموصول الثاني في الآيةِ التي تليها يخصُّ التائبين، فاقتضى أنْ يَكونَ الموصُولُ الأوَّلُ خاصّاً بالمُصِرِّينَ على المَعْصِيَةِ، وهم السامريُّ ومَنْ أصرَّ على عبادةِ العجلِ مَعَهُ قائلين: {لنْ نبرح عليه عاكفين} سورة طه، الآية: 91. والمُرادُ أَبناؤهم الذين كانوا في زَمَنِ النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ ذلك لأنَّ العربَ تُعَيرُ الأبناءَ بِقبائحِ أَفعالِ الآباءِ، كما يُفْعَلُ ذَلكَ في المَناقِبِ أيضاً؛ يَقولونَ للأبناءِ فَعلتمْ كذا وكذا، وإنَّمَا فَعَلَ ذَلكَ أَسْلافُهم. ويجوزُ أَنَّ قولَهُ: "إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ" إلى قولِهِ "الدُّنْيَا" مِنْ تمامِ كلامِ مُوسى ـ عليه السلامُ ـ فبَعَدَ أَنْ دَعا لنفسه ولأخيه بالمغفرة، أَخبرَ أَنَّ اللهَ غَضِبَ على الذين عَبَدوا العِجْلَ، وأَنَّهُ سَيَظْهَرُ أثَرُ غَضَبِهِ عَلَيْهم، وسَتَنالُهُمْ ذِلَّةٌ في الحياةِ الدُنيا، وذلك بِوَحْيٍ تَلَقّاهُ من ربِّه، وأنَّ "وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ" هو خِطٌاب مِنَ اللهِ في القُرْآنِ، فهو اعْتِراضٌ، فتكون الواوُ هنا اعْتِراضِيَّةً ذَيَّلَ اللهُ بهذا الاعتراضِ حِكايةَ كلامِ مُوسى فأَخْبرَ بأنَّهُ يجازي كلَّ مُفْتَرٍ.
وقال عطيَّةً العوفيُّ: أَرادَ بهم اليهودَ الذين كانوا في عصرِ النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَيَّرهُم بصنع آبائهم ونَسَبَهُ إليهم، ثمَّ حكى عليهم بأنَّهُ: "سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ" في الآخرةِ: "وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا" أَرادَ: ما أَصَابَ بَني قُريْظَةَ والنَّضيرِ مِنَ القَتْلِ والجَلاءِ.
قولُهُ: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} سيَنَالُهُمْ: سيُصيبُهم. والنَّوْلُ والنَّيْلُ: الأَخْذُ، وهو هُنا اسْتِعارَةٌ للإصابَةِ والتَلْبسِ كما في قولِهِ تَعالى: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} في الآية: 37 من هذه السورة. والغَضَبُ ما أُمِروا بِهِ مِنْ قَتْلِ أَنْفُسِهم. والذِلَّةُ: خُروجُهم مِنْ دِيارِهم لأنَّ ذُلَّ الغُرْبَةِ مَثَلٌ مَضْروبٌ. وقيل: هو ما نالَ أَبْناءَهم، وهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ والنَّضيرِ، مِنْ غَضَبِ اللهِ تَعالى بالقَتْلِ والجَلاءِ، ومِنَ الذِلَّةِ بِضَرْبِ الجِزْيَةِ. ومن قالَ بهذا دعمَ تأويله بأنَّ السين إنّما تكونُ للمُسْتَقْبَلِ، وقد قالَ اللهُ تَعالى سَيَنالُهم، فكان ذلكَ ما حدث لهم حين حكم عليهم سعد بن معاذ ـ رضي اللهُ عنه ـ بالقتلِ والجَلاءِ عَنِ المَدينةِ، وقبلوا بحكمه صاغرين. والله أعلم.
قولُهُ: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} أيْ: ومِثْلُ ذَلكَ النِّيلِ والغَضَبِ والذِّلّةِ التي أصابت بني إسرائيلَ في الماضي أو الحاضر سَ "نَجْزِي المُفْترينَ" الكاذبين، وقد تقَدَّم تعريف الافتراءِ غيرَ مَرَّةٍ، وهو أشنع الكَذِبِ. قال أَبُو قُلابَةَ: هو والله جَزاءُ كُلِّ مُفْتَرٍ إلى يَوْمِ القيامَةِ أَنْ يُذِلَّهُ اللهُ. وقال مالِكُ بْنُ أنسٍ: ما مِنْ مُبْتَدعٍ إلاَّ ويَجِدُ فوقَ رَأْسِهِ ذِلَّةٌ. وأخرجَ أَبو الشَّيْخِ عَنْ سُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قال: ليس في الأرضِ صاحبُ بِدْعَةٍ إلاَّ وهوَ يَجِدُ ذُلَّةً تَغْشاهُ، وهو في كتابِ اللهِ. قالوا: أينَ هي؟ قال: أَمَا سمعتم إلى قوله: "إن الذين اتخذوا العجل . . ." الآية؟ قالوا: يا أَبَا محمَّدٍ هذِه لأَصْحابِ العِجْلِ خاصَّةً. قال: كلاّ، اقرأْ ما بعدَها "وكذلك نجزي المفترين" فهي لِكُلِّ مُفْتَرٍ ومُبْتَدِعٍ إلى يومِ القيامةِ.
قوله تعالى: {الذين اتخذوا العجل} العجلَ: مفعولٌ أوّل ل "اتخذوا" والمفعولُ الثاني مِنْ مَفعولَيْ للاتِّخاذِ محذُوفٌ، والتقديرُ: اتَّخذوا العجل إلهاً أو مَعْبُوداً، يَدُلُّ على هذا المحذوفِ قولُهُ تعالى في سورة طه: {فَقَالُواْ هاذا إلهُكُم وإلهُ مُوسى} الآية: 88.