وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(147)
قولُه ـ تعالى شأنُه: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} هو نوعٌ آخر من الكافرين بالله وبما جاء من عند الله، وهي عقوبة أخرى بعد عقوبة الطمس على البصيرة والصرفِ عَنْ الاهتداء إلى سَبيلِ الخيرِ، وَالذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ، وَكُتُبِهِ، المُنَزَّلَةِ بِالحَقِّ وَالهُدَى، عَلَى رُسُلِهِ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، وَلَمْ يَهْتَدُوا، وَكَذَّبُوا بِمَا يَكُونُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ: مِنْ ثَوَابٍ عَلَى الخَيْرِ، وَعِقَابٍ عَلَى الشَّرِّ، فقد كانَ يجوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنهم يَخْتلفون في العقابِ لأنَّ فيهم مَنْ يَعملُ بعضَ أَعْمالِ البِرِّ، وقد تقدَّمَ في أوَّل سُورَةِ البقرة أنّه عندما نزل قولُه تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} قالوا: نحن نؤمنُ بالغيب، وعندما قال: {ويقيمون الصلاةَ} قالوا: نحن نصلِّي لله تعالى، فلما قال: {وممّا رزقناهم ينفقون} قالوا: ونحنُ ننفق مما رزقنا الله، لكنهم عندما قال: {والذين يؤمنونَ بما أُنزلَ إليك} أحجموا ووجموا. فإنَّ اللهَ ـ تبارك وتعالى ـ واحدٌ، والدينُ عنده واحدٌ، فلا يقبلُ تجزئته أبداً ولا يجزئُ أن يُخذَ ببعضِه ويكفَرُ ببعضٍ، كما حكى عنهم في سورة النساء: {.. وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} 150) فردَّ إيمانهم ورد عليهم بقولِه: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} سُورَةُ النِّساءِ، الآيتان: 150 و 151. فبيَّن تَعالى أنَّ حَالَ جميعِهم واحدٌ سَواءً كانَوا مُتَكَبرين أو مُتَواضِعين أو كانوا قليلي الإحْسانِ، أوْ كانوا كثيريّ الإحسان، فقال: "والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا وَلِقَاءِ الأخرة" يَعْني بذلك جَحْدَهم للمِيعادِ وجُرْأتهم على المعاصي وتفريقهم دين اللهَ وتكذيبهم رسولَه ـ صلى اللهُ عليه وسلم. فَإِنَّ أَعْمَالَهُمْ تَهْلَكُ وَتَتَلاَشَى وَتَذْهَبُ سُدًى (تَحْبَطُ)، لأَنَّهُمْ عَمِلُوا لِغَيْرِ اللهِ، وَأَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي غَيْرِ مَا يُرْضِي اللهَ، فَتَصِيرُ أَعْمَالُهُمْ وَبَالاً عَلَيْهِمْ، لأنَّ الأساس الإيمانُ باللهِ وبكلِّ ما جاء من عند الله، فإذا صحَّ الإيمانُ كانَ هناك نظرٌ في العملِ، خيرِهِ وشرِّهِ أمّا إذا كان ثمّةَ خللٌ في الإيمانِ، فإنَّ العملَ لا يساوي عند اللهِ شيئاً أبداً، لأنه لم يكن خالصاً لوجهه الكريم، فكيف يقبلُ عملاً أشرك به فيه غيرُه، وقدً أوضح تعالى هذا المعنى بقوله في سورة النور: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} الآية: 39.
قولُه: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَلاَ يُجْزَوْنَ إلاَّ عَلَى الأَعْمَالِ التِي قَامُوا بِهَا مِنَ الكُفْرِ وَالمَعَاصِي، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ بِأَنْ جَعَلَ الجَزَاءَ فِي الآخِرَةِ أَثَراً لِلْعَمَلِ فِي الدُّنْيا، وَلاَ يَظْلِمُ اللهُ تَعَالَى أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ أَبَداً. وهذه الآيةُ المباركة تقريرٌ المُرادُ بِهِ تَأكيدُ خُسرانِ أُولئِكَ المَصْروفينَ عَنْ آياتِ اللهِ تَعَالى، إذْ لم تَقُمْ أَعْمالُهم على أَساسِ العَدْلِ والحَقِّ بَلْ قامَتْ على أَساسِ الظُلْمِ والأباطيل، ولذلك فهي باطلةٌ مِنْ جهةٍ فَلا تُكْسِبُهم خيراً، وهي من جهةٍ أُخرى أَعمالُ سُوءٍ سَوْفَ يُجْزَوْنَ بها سُوءً في دارِ الجَزاءِ، وهوَ عَذابُ الجَحيمِ، ولِذا قال تعالى: "هل يُجْزَوْنَ إلاَّ ما كانوا يعملون} أيْ: ما يُجْزَوْنَ إلاَّ ما كانوا يَعملونَ مِنَ السُوءِ، وعَدالَةُ اللهِ تَعالى أَنَّ مَنْ جاءَ بالسَّيِّئَةِ فلا يُجْزى إلى مِثْلَها وهُم لا يُظْلَمون.
قوله تعالى: {والذين كَذَّبُواْ} الذين: مُبتدأٌ وخبرُه إمَّا الجُملةُ مِنْ قولِه: "حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ" و "هَلْ يُجْزَوْنَ" خبرٌ ثان أَوْ استئنافٌ. وإمَّا أنَّ جملةَ "حَبِطَتْ" في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ، و (قد) مُضمرةٌ مَعَهُ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ ذلك، وصاحبُ الحال هو فاعلُ "كذَّبوا" والخبرُ هو جملةُ "هل يُجْزون".
قولُهُ: {وَلِقَاءِ الآخرة} هو مِنْ بابِ إضافةِ المَصْدَرِ لِمَفعولِهِ، والفاعلُ محذوفٌ والتقديرُ: ولِقائِهِمُ الآخرةَ. وذكرَ الزمخشريُّ وجهاً ثانياً وهو: أنَّهُ مِنْ بابِ إضافةِ المَصْدَرِ للظَرْفِ، فيكون المعنى: ولِقاءِ ما وَعَدَ اللهُ في الآخِرَةِ، لكنَّ جُلَّةَ النَّحْوِيّينَ لا يُجيزُونَ هذه الإِضافةَ لأَنَّ الظَرْفَ على تقديرِ "في"، والإِضافةُ عندَهم على تقديرِ اللامِ أوْ "مِنْ"، فإنِ اتُّسِعَ في العامِلِ جازَ أَنْ يُنْصَبَ الظَرْفُ نَصْبَ المفعول، ويجوزُ إذْ ذاك أَنْ يُضافَ مَصدرُه إلى ذلك الظَرْفِ المتَّسَعِ في عاملِه، وأَجازَ بَعْضُ النَّحْوِيين أَنْ تَكونُ الإِضافةُ على تقديرِ "في".
قولُه: {هَلْ يُجْزَوْنَ إلاَّ ما كانوا يعملونَ} اسْتِفْهامٌ مَعناهُ النَفْيُ، ولِذلكَ دَخَلَتْ "إلا"، ولو كان مَعناهُ التَقريرَ لَكانَ مُوجِباً فيَبْعُدُ دُخولُ "إلا" أَوْ يَمْتَنِعُ. ولا بُدَّ مِنْ تقديرِ محذوفٍ، أي: هل يجزونَ إلاَّ بما كانوا يعملون، أو على ما كانوا يعملون، أوْ جزاءَ ما كانوا يعملون. ذلك لأنَّهم لا يجزون بنفسِ ما كانوا يَعْملونَهُ، وإنَّما يُجْزونَ بما يُقابِلِهِ.