وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. (134)
قولُه ـ تعالى جَدُّه: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} قال مقاتلٌ هو العذابُ الذي كان قد نزل بهم، وأخرج ابنُ مَرْدَوَيْهِ عن السيدة عائشة أمِّ المؤمنين ـ رضيَ اللهُ عنها وأرضاها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ أنَّه قال: ((الرجزُ: العذابُ)). وأخرج عبدٌ بْنُ حميدٍ، وابْنُ جَريرٍ الطبريُّ، وأبو الشَيْخِ كلُّهم عن قتادةَ أنَّه قال: الرجز: العذابُ.
ويجوز أَنْ يكونَ المرادَ بالرِّجْزِ هنا الطاعونُ، أيْ أَصابهم طاعونٌ أَلجأهم إلى التَضَرُّعِ بموسى ـ عليه السلام ـ فَطُويَ ذِكْرُهُ للإيجاز، والتقديرُ: وأرسَلْنا عليهِمُ الرِّجْزَ، ولما وَقَعَ عَلَيْهم الخ.. فقد أخرجَ عبدٌ بْنُ حميدٍ عَنْ سعيدٍ بْنِ جُبَيرٍ: "لئن كشفت عنّا الرِجْزَ" قال: هو الطاعون. وهذا الطاعونُ هو المَوَتانُ الذي حُكِيَ في الإصحاحِ الحادي عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الخُروجِ: (هكذا يَقولُ الرَّبُّ إني أَخْرُجُ نحوَ نِصْفِ اللَّيْلِ في وَسَطِ مِصْرَ فيَمُوتُ كلُّ بَكْرٍ ـ فتىً ـ في أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَكْرِ فِرعونَ الجالِسِ على كُرْسِيِّهِ إلى بَكْرِ الجاريةِ التي خَلْفَ الرَّحى، وكلُّ بَكْرِ بهيمةٍ). ثمَّ قال في الإصحاحِ الثاني عَشرَ: (فحدَثَ في نِصْفِ اللَّيلِ أنَّ الرَبَّ ضَرَبَ كلَّ بَكْرٍ في أرْضِ مِصْرَ، فقامَ فرعونُ ليلاً هو وعبيدُه وجميعُ المَصْريّين، فدَعا مُوسى وهارونَ لَيْلاً وقالَ قُوموا اخْرُجوا أَنْتُمْ وبَنُو إسرائيلَ جميعاً، واذْهَبوا اعْبُدُوا رَبَّكم، واذْهَبوا وباركوني الخ..) قيل ماتَ سبعونَ أَلَف رَجُلٍ في ذلك اليومِ مِنَ القِبْطِ خاصَّةً، ولم يُصِبْ بَني إسرائيلَ مِنْه شيءٌ.
وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ قَالَ: (أَمَرَ موسى قَوْمَهُ مِنْ بني إسرائيل، فَقَالَ: لِيَذْبَحْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ كَبْشًا، ثُمَّ لِيُخَضِّبْ كَفَّهُ فِي دَمِهِ، ثُمَّ لِيَضْرِبْ عَلَى بَابِهِ، قَالَ فَقَالَتِ الْقِبْطُ: فَمَا يَعْرِفُكُمُ اللهُ إِلاَّ بِهَذِهِ الْعَلامَاتِ، قَالُوا: هَكَذَا أَمَرَنَا نَبِيُّنَا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: فَأَصْبَحُوا وَقَدْ طُعِنَ مِنْ قَوْمِ فرعون سَبْعُونَ أَلْفٍ ذُرًى، قَالَ: فَأَمْسُوا وَهُمْ لا يَتَدَافَنُونَ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ فرعون عَنْ ذَلِكَ: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ، لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ، لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بني إسرائيل، وَالرِّجْزُ: الطَّاعُونُ، قَالَ: فَدَعَا رَبَّهُ، فَكَشَفَ عَنْهُمْ، فَكَانَ أَوْفَاهُمْ كُلُّهُمْ فرعون، قَالَ: اذْهَبْ بِ بني إسرائيل حَيْثُ شِئْتَ). وأَخْرجَ أَبو الشَّيْخِ عَنْ سَعيدٍ بْنِ جُبَيرٍ قال: أَلقى الله الطاعونَ على آلِ فِرعَوْنَ فَشَغَلَهم بِذَلِكَ حَتّى خَرَجَ مُوسى، فقال موسى لبني إسرائيل: اجعلوا أكُفَّكُمْ في الطِّينِ والرَّمادِ، ثمَّ ضَعُوهُ على أَبوابكم كيما يجتنبكم ملكُ الموتِ. قال فرعون: أمَا يموت مِنْ عَبيدِنا أَحَدٌ؟ قالوا: لا. قال: أَليسَ هذا عَجَباً أَنَّا نُؤخَذُ ولا يُؤخَذون . . . !
قولُهُ: { قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} ليسَ قولهُم "ادْعُ لَنَا" عن إيمانٍ منهم باللهِ ورسالةِ موسى، ولكنَّهم كانوا مشركين يُجوزون تعدُّدَ الآلهةِ، واختصاصَ بعضِ الأُمَمِ، وبعضَ الأقطارِ بآلهةٍ لهم، فهم قد خامَرَهم أنْ يكونَ لموسى رَبٌّ لَهُ تَصَرُّفٌ وقُدْرةٌ، لكثرة ما رأوا من آيات ومعجزات، وأنَّ إلهَ موسى وبني إسرائيل قد أَصابهم بكلِّ هذه المصائبِ لأنهم آذوا عَبيدَه، فقد نظروا إلى المسألة على أنها حرب بين إله بني إسرائيل وآلهتهم، لأنَّ عقيدة الشرك وتعدُّدِ الآلهةِ كانتْ متمكِّنةً من نفوسهم، بحيث لم تنفعْهم كلُّ الآيات والمعجزات، بحيث يفهموا عقيدة التوحيد، فسألوا موسى أن يكفَّ عنهم ربَّه ويَكون جزاؤهُ الإذنُ لِبني إسرائيلَ بالخروجِ من مصرَ لِيَعبُدوا ربهم. وَكانوا من قبلُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ كَانَ يَنْزِلُ بِهِمْ عَذَابٌ، يَأْتُونَ إِلَيهِ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَدْعُوا رَبَّهُ لِيُنْقِذَهُمْ مِمَّا نَزَلَ بِهِمْ، وَأنْ يَكْشِفَ عَنْهُمْ ذلِكَ البَلاءَ، وَيَتَعَهَّدُونَ لَهُ بِأَنْ يُؤْمِنُوا لهُ.
ثمَّ إنَّ قولَ فرعونَ لموسى: "بما عَهِدَ عندَكَ"، أي: بما عَرَّفَكَ وأَوْدعَ عِنْدَكَ مِنَ الأَسرارِ، يدُلُّ على أنَّ حالَ موسى ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ قد انْبَهَم عليه فلم يَدْرِ أَهُوَ رسولٌ مِنَ إلهٍ غيرِ آلهةِ القِبْطِ، ف حال موسى ـ عليه السلامُ ـ قد انْبَهَم على فرعون فلم يدرِ أَهُوَ رسولٌ مِنَ إلهٍ غيرِ آلهةِ القِبْطِ، فهذِهِ عِبارةُ مُتحيِّرٍ في الأَمْرِ مُلْتَبِسَةٍ عَلَيْهِ الأَدِلَّةُ.
قولُهُ: {وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} وَعدوه بِأَنْ يَسْمَحُوا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِالخُرُوجِ مَعَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. وَكَانَ مُوسَى يَدْعُو اللهَ رَبَّهُ ويَسْأَلُهُ في كلِّ مرةٍ كَشْفَ البَلاءِ فَيَكْشِفُهُ، فَلاَ يَلْبَثُونَ أَنْ يَعُودُوا إِلَى كُفْرِهِمْ وَعِنادِهِمْ، وَيُصِرُّونَ عَلَى عَدَمِ السَّماحِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِالخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ، لأنهم كانوا يستعبدونهم ويسخرونهم في أعمالهم ـ كما ذكِرَ غيرَ مرَّةٍ ـ وكان اللهُ تعالى يَعُودُ إِلَى ابتلائِهِمْ بِبَلاءٍ آخَرَ يُرْهِقُهُمْ، بعدَ كلِّ نكثٍ لهم، فَيَعُودُونَ إِلَى رَجَاءِ مُوسَى وهكذا.
قوله تعالى: {الرجزَ} التَعريفُ باللامِ هُنا للعَهْدِ أَيْ العَذابُ المَذْكورُ، وقد تقدَّمَ بيانُه.
قولُه: {ادْعُ} حُذِفَ مُتَعَلَّقُ فِعْلِ الدُعاءِ لِظُهورِ المُرادِ، أَيْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِأَنْ يَكُفَّ عَنَّا العذابَ. كَما دَلَّ عَليه قولُهُ على لسانهم بعدُ: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ}.
قولُهُ: {بِمَا عَهِدَ} الظاهرُ أنَّ باءَ الجرِّ هنا تَتَعَلَّقُ بِ "ادْعُ" أيْ: ادْعُهُ بالدُعاءِ الذي عَلَّمَكَ أَنْ تَدعوهُ بِهِ، وبحقِّ ما عِنْدَكَ مِنْ عَهْدِ اللهِ وكرامتِهِ إيَّاكَ بالنبوَّةِ، أو ادعُ الله لنا متوسِّلاً إليه بعهدِهِ عِنْدَكَ، ويجوزُ أنها باءُ القَسَمِ. وجوابُه "لنؤمِنَنَّ" أي: أقْسَمْنا بِعَهْدِ اللهِ عِنْدَكَ. وعليه فاللامُ هي الموطِّئةُ للقسم. و "ما" مصدرية والمعنى بعهدِهِ عِنْدَكَ وهو النُبُوّةُ.
وقولُهُ: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} مُسْتَأْنَفَةٌ استئنافاً بَيانِيّاً، لأنَّ طلبَهم مِنْ مُوسى الدُعاءَ بِكَشْفِ الرِجْزِ عَنْهُمْ مَعَ سابِقِيَّةِ كُفْرِهِم بِهِ يُثيرُ تسُاؤلَ مُوسى أنْ يَقولَ: فما الجزاءُ على ذلك.
قرأ الجمهورُ: "الرِجزَ" بكسرِ الراءِ، في جميع القرآنِ، وقرأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ ومجاهِدٌ وابْنُ جُبَيْرٍ: "الرُّجز" بِضَمِّ الراءِ في جميعِ القُرآنِ، إلاَّ أَنَّ ابْنَ مُحَيْصِنٍ كَسَرَها في موضعين: "رِجْزِ الشَيْطان" و "والرِجْزَ فاهْجُرْ".