وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
(132)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا} قالوا بعدَ ما رأوا مِنَ العَصا، والسِنينَ، ونقصِ الثَمَراتِ "مهما تأتِنا به من آية" وهو شُروعٌ في بيانِ بعضٍ آخَرَ ممّا أُخِذوا بِهِ مِنْ ألوانِ العَذابِ التي هي في نَفْسِها آياتٌ بَيِّناتٌ، وعَدَمُ إرْعِوائهم عمَّا همْ عليْه مِنَ الكُفْرِ والعِنادِ، فما زالُ الحديث عَنْ نَبيّ اللهِ موسى ـ عليه السلامُ ـ وما لاقاهُ مِنْ عَنَتِ فِرعونَ وقومِهِ، ومجادَلَتِهِمْ لَهُ بالباطلِ. هو يأتيهم بالآياتِ البَيِّناتِ والمُعْجِزاتِ الباهِراتِ وهُمْ يُكابِرونَ، ويُعاندونَ، وكلَّما جاءهم بآيةٍ بَيِّنَةٍ وفَنَّدَ لهمْ حُجَّةً طَلبوا منه آيةً أُخرى، حتي أُسْقِطَ في أيديهم، ونَفِدَتْ حُجَّتُهم، ولم يَبْقَ لَديهم ما يجادِلونَ بِهِ، قالوا: "مهما تأتِنا بِهِ مِنْ آيةٍ" وإنما سمَّوها آيةً على زَعْمِ مُوسى، لا اعتقاداً منهم بها أنّها آية، ولذلك قالوا: "لتسحرنا بها" أي: لِتَسْحَرَ بها أَعْيُنَنا وتُشَبِّهَ علينا، ومهما تَسُوقُ لنا من براهين، فإنَّنا على مَوْقِفِنا ثابتونَ لا نَتزَحْزَحُ، وبعقيدتنا متمسِّكون، وبدينِنا مُلْتَزِمون، ولَنْ تَسْتَطيعَ أَنْ تَسْحَرَ عُقولَنا لِنُؤمِنَ بربِّك إلهاً لنا، وبِكَ نَبيّاً منه مُرْسَلاً، ولَنْ نَتَّبِعَ ما جِئْتَ بِهِ مِنْ رِسالةٍ ديناً لنا ومنهاجاً، ولَنْ نَعْبُدَ إلهكَ ونَترُكَ آلهتَنا وديننا، وَفِي ظَنِّهِمْ أَنَّ مَا يَأْتِيهِمْ بِهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ.
قولُهُ: {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أيْ ما نحنُ بمصدِّقين لكَ، ولا مؤمنين بِنُبُوَّتِكَ أَصْلاً. وكان موسى ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ رَجُلاً حَديداً مُسْتَجابَ الدَّعوةِ، فدَعا عَليهم، فاسْتَجابَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ دُعاءَهُ فأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الطُّوفان.
قولُهُ تعالى: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ} مهما: جمهور النُحاةِ على أنّها اسْمُ شَرْطٍ يَجْزِمُ فِعْلَين، ك "إنْ"، و "تأتِنا": شَرْطُها، وجملةُ: "فما نحنُ" جوابُها، فهي "ما" المُضَمَّنَةُ مَعنى الجَزاءِ، ضُمَّتْ إليها "ما" المَزيدَةُ المُؤَكِّدَةُ للجَزَاءِ كما في قولِكِ: مَتى ما تخرجْ أَخْرُج. وكَقولِهِ تَعالى في سورةِ النِّساءِ: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت} الآية: 78. وقد يأتي للاسْتِفْهامِ، وهو قليلٌ جداً، كقولِهِ مِنَ السّريعِ:
مهما لي الليلةَ مهما لِيَهْ ........................ أَوْدَى بنعلَيَّ وسِرْباليَهْ
يريد: ما لي الليلةَ ما لي؟ والهاءُ للسَّكْتِ.
وزَعمَ بعضُ النَّحْوِيّينَ أَنَّ الجازمَةَ تأتي ظَرْفَ زَمانٍ، وأَنْشَدَ عليْه مِنَ الطويلِ لحاتمٍ الطائيّ:
وإنك مهما تُعْطِ بطنك سُؤْلَه .......... وفَرْجَكَ نالا منتهى الذمِّ أجمعا
وقولَ الآخرِ مِنَ الكامِلِ:
عوَّدْتَ قومَك أنَّ كلَّ مُبَرَّزٍ ................... مهما يُعَوَّدْ شيمةً يَتَعوَّدِ
وقولَ طُفَيْلٍ الغَنَوِيِّ مِنَ الكامِلِ أيضاً:
نُبِّئْتُ أن أبا شُتَيْمٍ يَدَّعي ................ مهما يَعِشْ يُسْمِعْ بما لم يُسْمَعِ
قال: ف "مهما" هُنا ظَرْفُ زَمان. والجمهورُ على خلافِهِ. وما ذَكَرَهُ مُتَأَوَّلٌ، بَلْ بعضُهُ لا يَظْهَرُ فيه للظَرْفِيَّةِ مَعْنى.
وقال جمال الدين ابْنُ مالك: جميعُ النَّحْويين يَقولون إن "مهما" و "ما" مثل "مَنْ" في لُزومِ التَجَرُّدِ عَنِ الظَرْفِ، مَعَ أَنَّ اسْتِعْمالَهُما ظَرْفين ثابتٌ في أَشْعارِ الفُصَحاءِ مِنَ العَرَبِ، وكفى بقوله: "جميع النحويين" دليلاً على ضَعْفِ القَوْلِ بِظَرْفِيَّتِهما.
ثمَّ هيَ اسْمٌ لا حَرْفٌ بدليلِ عَوْدِ الضَميرِ عَلَيْها، ولا يَعودُ الضَميرُ على حَرْفٍ كَقَوْلِهِ تعالى في هذه الآيةِ المباركة: "مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ" فالهاءُ في "بِهِ" تَعودُ على "مهما". وشَذَّ السُهَيْليُّ فَزَعَمَ أَنَّها قدْ تَأْتي حَرْفاً.
واخْتَلَفَ النَّحْويّونَ في "مهما": هل هي بَسيطةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ؟ والمشهورُ أنَّها بَسيطةٌ، وقال ابْنُ هشامٍ في حاشية التسهيل: يَنْبَغي لمن قال بالبساطةِ أَنْ يَكتُبَ "مهما" بالياءِ "مهمى" ولِمَنْ قالَ أصلُها "ما" "ما" أنْ يَكتُبها بالأَلِفِ، وفي (الشرح) وكذا إذا قيلَ أَصْلُها "مَه" "ما". وتَعقَّبَ ذلك الأشموني بأنَّ القائلين بالأصلين المذكورين مُتَّفِقون على أنَّ "مهما" أَصْلٌ آخرُ، فما يَنْبَغي في كَتْبِ آخرِها على القولِ الأَوَّلِ يَنْبَغي على القولِ الثاني، وفيه نَظَرٌ. أَمَّا القائلونَ بِتَرْكِيبِها ـ وهمُ الخليلُ وأَتْباعُهُ مِنْ أَهْلِ البَصْرَةِ ـ فقدِ اخْتَلَفُوا: فمِنْهُم مَنْ قالَ: هي مُرَكَّبَةٌ مِنْ "ما" "ما"، كُرِّرَتْ "ما" الشَرْطِيَّةُ تَوكيداً فاسْتُثْقِلَ تَوالي لَفْظَيْنِ، فأُبْدِلَتْ أَلِفُ "ما" الأُوْلى هاءً. وقِيلَ: زِيدَتْ "ما" على "ما" الشَرْطِيَّةِ كما تُزادُ على "إنْ" في قولِهِ تعالى في الآيةِ (38) مِنْ سُورةِ البقرة: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم}. فعُمِلَ العَمَلُ المذكورُ للثِقَلِ الحاصِلِ. وقال الكِسَائِيُّ: هي مُرَكَّبَةٌ مِنْ "مَهْ" التي هِيَ اسْمُ فِعْلٍ معناهُ الزَّجْرُ، ومِنْ "ما" الشَرْطِيَّةِ، ثمَّ رُكِّبَتْ الكَلِمتانِ فصارتا شيئاً واحداً. وقالَ أَيضُاً: لا تَركيبَ فيها هُنا بَلْ كأنَّهم قالوا لَهُ: "مَهْ"، ثمَّ قالوا: "ما تَأْتِنا به" وليسَ بِشَيْءٍ؛ لأنَّ ذلك قد يأتي في موضِعٍ لا زَجْرَ فيهِ، ولأنَّ كتابَتَها مُتَّصِلَةً يَنْفي كونَ كلٍ مِنْهُما كلمةً مُسْتَقِلَّةً. وقال قوم: إنها مُرَكَّبَةٌ مِنْ "مَهْ" بمعنَى: اكْفُفْ، و "مَنْ" الشَرْطِيَّةِ، بدليلِ قولِ الشاعرِ:
أَ(مَاوِيَّ) "مَهْ" مَنْ يَسْتمعْ في صَدِيقِهِ....أَقاويلَ هذا الناسِ (ماوِيَّ) يَنْدَمِ
فأُبْدِلَتْ نونُ "مَنْ" ألفاً، كما تُبَدَّلُ النونُ الخفيفةُ بعدها فَتْحَةً، والتَنوينُ أَلِفاً. وهذا ليسَ بشيءٍ، بَلْ "مَهْ" على بابها مِنْ كونِها بمعنى اكْفُفْ. وقال مَكِيٌّ: بلْ هي مُرَكَّبَةٌ مِنْ "مَنْ" و "ما"، فأُبْدلت نونُ "مَنْ" هاءً، كما أَبْدَلوا مِنْ أَلِفِ "ما" الأُولى هاءً، وذلك لمؤاخاةِ "مَنْ" "ما" في أشياءَ، وإنِ افْتَرَقا في شيءٍ واحدٍ. أمَّا محلُّها مِنَ الإعْرابِ: فيجوزُ أنْ يكونَ الرَّفعَ على الابْتِداءِ، وما بَعْدَها خَبرُها، وهلِ الخبرُ فعلُ الشَرْطِ أَوْ فِعْلُ الجَزاءِ أَوْ هُما مَعاً، خلافٌ مَشهورٌ. ويجوزُ أنْ تَكونَ في مَحَلِّ نَصْبٍ إمَّا على الاشْتِغالِ، وهو الأَظْهَرُ، ويُقَدَّرُ الفِعْلُ مُتَأخِّراً عَنِ اسْمِ الشَرْطِ، تقديرُهُ: مهما تُحْضِرْ تأتِنا بِهِ، ف "تَأْتِنا" مُفَسِّرٌ ل "تُحْضِرْ" لأنَّهُ مِنْ مَعْناهُ. وإمَّا على الظَرْفِيَّةِ عِنْدَ مَنْ يَرى ذلك.
والضَميرانِ مِنْ قولِهِ: "به"، و "بها"، عائدان على "مهما"، عادَ الأوَّلُ على اللفْظِ لإبهامه فذُكِّرَ. وعاد الثاني على المعنى، فأنث للمُحافظةِ على جانِبِ المعنى لأنَّه إنَّما رَجَعَ إليهِ بعدما بُيِّنَ ب "آية"، وادَّعى ابْنُ هِشامٍ أنَّ الأَوْلى عَوْدُ الضَميرِ الثاني إلى "آيةٍ"، ولَعَلَّهُ راعى القُرْبَ، ومن ذهب إلى الأَوَّل راعى أنَّ "آيَةً" مَسوقَةٌ للبيان، فالأوْلى رُجوعُ الضَميرِ على المُفَسَّرِ المَقصودِ بالذاتَ، وإنْ كان المآلُ واحداً، أي: لِتَسْحَرَ بِتِلْكَ الآيَةِ أَعْيُنَنا وتُشَبِّهَ عَلَيْنا. فإنَّ معناها الآيةُ المَذكورةُ. ومثلُهُ قولُ زُهيرٍ مِنَ الطَويلِ:
ومهما تكنْ عند امرئٍ من خَليقةٍ ... وإن خالها تَخْفَى على الناسِ تُعْلَمِ
ومثلُه في ذلك قولُه تعالى في سورة البقرة: {ما نَنْسَخْ من آيةٍ أو نَنْسَأْها نأْتِ بخيرٍ منها أو مثلها} الآية: 106. فأعادَ الضميرَ على "ما" مؤنَّثاً لأنها بمعنى الآية.
وقولُهُ: {فَمَا نَحْنُ} يجوزُ أَنْ تَكونَ "ما" الحجازيَّةَ، ويجوزُ أَنْ تكونَ التميميَّةَ، والراءُ زائدةٌ على كِلا القولين، والجُملةُ في محلِّ جزمِ جوابِ الشرْطِ.