قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ
(125)
قولُه ـ تعالى شأنُه: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} فَقَالَ السَّحَرَةُ يَرُدُّونَ عَلَى تَهْدِيدِ فِرْعَوْنَ: إِنَّنَا نَعْلَمُ يَقِيناً أَنَّنَا سَنَرْجِعُ إِلى اللهِ رَبِّنَا، وَعَذَابُهُ تَعَالَى أَشَدَّ مِنْ عذَابِكَ، وَنَكَالُهُ عَلَى مَا أَكْرَهْتَنا عَلَيهِ مِنْ مُمَارَسَةِ السِّحْرِ لِمُعَارَضَةِ الحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللهِ، أَعْظَمُ مِنْ نَكَالِكَ، لِذلِكَ فَإِنَّنَا سَنَصْبِرُ عَلَى أَذَاكَ لِنَنْجُوَ مِنْ عَذَابِ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ.
وهذا جوابٌ عن وعيدِ فرعونَ بأنَّه وعيدٌ لا يَضيرُهم، لأنهم يعلمون أنهم صائرون إلى الله ربِّ الجميع، وقد جاء هذا الجواب موجزاً إيجازاً بديعاً، لأنَّه يتضمَّن أنهم يرجون ثواب الله على ما ينالهم من عذاب فرعون، ويرجون منه مغفرة ذنوبهم، ويرجون العقاب لفرعون على ذلك، وإذا كان المراد بالصلب القتل وكان المراد تهديد جميع المؤمنين، كان قولهم: ففي جوابِهم "إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ" تشوُّقٌ إلى حلول ذلك بهم محبَّةَ لقاءِ الله تعالى، فإنَّ اللهَ تعالى لما هداهم إلى الإيمان أكسبهم محبةَ لقائه، ثم بيَّنوا أن عقاب فرعون لا غضاضة عليهم منه، لأنه لم يكن عن جناية تصمهم بل كان على الإيمان بآيات الله لما ظهرت لهم. أي: فإنك لا تعرف لنا سبباً يوجب العقوبة غير ذلك.
أخرجَ ابْنُ أبي حاتمٍ عنِ عبد الله ابْنِ جُبيرٍ أنَّ السَحَرَةَ حين خرُّوا سُجَّداً رَأَوْا مَنازِلهم في الجنَّةِ تُبْنى لهم، وأَخرَجَ عنِ الإمامِ الأُوزاعيِّ أنَّه رُفعت لهم الجنَّةُ حتى نَظَروا إليها، ويُحتَمَلُ أنَّهم أَرادوا إنَّا ولا بدَّ مَيِّتون، فلا ضيرَ فيما تَتَوَعَّدُنا بِهِ، والأجلُ محتومٌ لا يَتَأَخَّرُ عَنْ وقتِهِ، وهو كقولِ الشاعر ابنُ نُباتةَ السَعديُّ:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ...... تعددت الأسباب والموت واحد
وهو من شعراء القرن الحادي عشر الميلادي وهذا البيت من قصيدة له جاء فيها:
أرى المرء فيما يبتغيه كأنما .................... مُداولةُ الأيامِ فيهِ مَبارِدُ
ويضطرم الجمعان والنقع ثائرٌ ............ فيسلم مِقدامٌ ويَهْلكُ خامدُ
ومَنْ لم يمُتْ بالسيف مات بغيرِه ...... تعدَّدتِ الأسبابُ والموتُ واحدُ
فصبراً على ريبِ الزمانِ فإنَّما .......... لكم خُلقتْ أهوالُه والشدائدُ
ويحتمل أيضاً أن المعنى إنا جميعاً ننقلب إلى الله تعالى فيحكم بيننا، وهو كقول أبي العتاهية:
إلى ديان يوم الدين نمضي ................... وعند الله تجتمع الخصوم
قوله تعالى: {قالوا إِنَّا إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} قَالُواْ: استئنافٌ بيانيٌّ. ويجوزُ في هذا الضمير أن يَخُصُّ السَّحَرة، ويؤيِّده قولُه تعالى بعد ذلك: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا} فإنَّ الضميرَ في "مِنَّا" يَخُصُّهم. ويجَوزُ أَنْ يَعودَ عليهم وعلى فرعون، أي: إنَّا نحن وأنت ننقلب إلى الله، فيجازي كلاً بعمله، وهذا وإن كان هو الواقعَ إلاَّ أنَّ السياق لا يؤيِّدُه.