وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ
(120)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} وَخَرَّ السَّحَرَةُ عَلَى وُجُوهِهِمْ سَاجِدِينَ للهِ إِيمَاناً بِهِ، وَاعْتِذَاراً عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ سِحْرٍ أَرَادُوا بِهِ مُعَارَضَةَ آيَاتِ اللهِ، كأنما ألقاهم على الأرض مُلْقٍ لسرعة خرورهم، لما رأَوْا مِنْ عظيمِ القُدرةِ، وما تَيَقَّنوا بِهِ نُبوَّةَ موسى، فآمنوا بقلوبهم واستعظموا ما رأوا من عجيب قدرة الله وبهروا بالمعجزة التي أَيَّدَ اللهُ تعالى بها نبيَّه موسى ـ عليه السلامٌ ـ و هيمن عليهم الفزعُ من عظيم قدرةِ الله تَعالى فخرُّوا سُجداً له ـ سبحانَه وتعالى ـ طارحين نفوسهم على الأرض، والسجودُ هيئةٌ خاصَّةٌ لإلْقاءِ المرءِ نفسِهِ على الأرضِ يُقصَدُ منها الإفراطُ في التعظيمِ، وسُجودُهم هذا كان لله الذي عَرَفوهُ حينئذٍ بِظُهورِ مُعجزةِ موسى ـ عليه السلامُ.
قال قَتادةُ: كانوا أَوَّلَ النَهارِ كُفَّاراً سَحَرَة؛ وفي آخرِهِ شهداءَ بَرَرَة. وقال ابنُ عباسٍ ـ رضي اللهُ تعالى عنهما: كانتِ السَحَرَةُ سبعين رَجُلاً أَصْبَحوا سَحَرَةً وأَمْسَوا شُهداء.
والإلقاءُ: مُستعملٌ هنا في التعبير عن سرعةِ الهَوْيِ إلى الأرضِ، أيْ: لم يَملُكوا أَنْفُسَهم فسَجَدوا بدون تَرَيُّثٍ ولا تَرَدُّدٍ. وكان هذا خاصًّا بهم دونَ بقيَّةِ الحاضرين، وفي سُجودِهم قولان: أَوَّلُهُما: أَنهم سَجَدوا لمِوسى تَسْلِيماً لَهُ وإيماناً بِهِ. وثانيهما: أنهم سَجَدوا للهِ إقراراً بربوبِيَّتِه، لأنهم قَالُوا بعد ذلك: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} الآية: 121.
وفي سببِ سُجودِهم قولان أيْضاً: أحدُهما: أنَّ اللهَ أَلهَمَهم ذلك وحَمَلَهم عليهِ لُطفاً بهم، فالمُلْقي هو الله تعالى، بإلهامِهِ لهم حتّى يَنْكَسِرَ فِرعوْنُ بالذين أَرادَ يهم كَسْرَ موسى ـ عليه السلامُ ـ ويَنقلِبَ الأمرُ عليه، ويُحتَمَلُ أنْ يَكونَ الكلامُ جارياً مجرى التمثيلِ مُبالَغَةً في سُرعةِ خُرورِهم وشدته، ويجوزُ أَنْ يكونَ التعبيرُ بذلك مُشاكَلَةً لما مَعَهُ مِنَ الإلقاء، (أَلْقَوا فأُلْقُوا). والثاني: أنَّ موسى وهارون سَجَدا شُكراً للهِ عندَ ظهورِ الحَقِّ على الباطلِ فاقتَدَوا بهما في السُجودِ للهِ طاعةً. يُروى أَنَّ اجتماعَ القومِ كان
بالإسكندريَّة.
قوله تعالى: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ} أُلْقيَ: بُنيَ فِعلُ الإلقاءِ للمَجهولِ لِظُهورِ الفاعِلِ، وهو أَنْفُسُهم، والتقديرُ: وأَلْقى السَحَرَةُ أَنْفُسَهم على الأرضِ. فلذلك جِيءَ بالاسْمِ الظاهر "السَحَرةُ" دون الضميرِ لِئَلاَّ يَلْتَبِسَ بالضَميرِ الذي قبلَهُ الذي هو شاملٌ للسَحَرَةِ وغيرِهم. فلمَّا كان الضميرُ قبلُ مشتركاً جُرِّدَ المؤمنون، وأُفرِدوا بالذِكر.
وقولُهُ: {سَاجِدِينَ} حالٌ مِنَ "السَحَرَةِ" منصوبٌ وعلامة نصبِه الياءُ لأنّه جمعٌ مذكَّرٌ سالمٌ، والنونُ عِوَضاً عن التنوينِ في الاسم المفرد..