فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)
قولُه ـ تبارك وتعالى: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ} أي غُلِبَ جميعُهم في مَكانِ اجْتَماعهم، وَأَدْرَكَ السَّحَرَةُ أَنَّهُمْ غُلِبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى، وَلاَ قُدْرَةٍ لَهُمْ عَلَى مُقَاوَمَتِهِ، وَشَعَرُوا بِصَغَارِهِمْ أَمَامَ عَظَمَةِ رَسُولِ اللهِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلاَمُ. والذِينَ غُلِبُوا حقيقة هُمْ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ، الذِينَ أَدْرَكُوا أَنَّ مُوسَى غَلَبَهُمْ أَمَامَ الجَمْعِ المحشودِ، فِي ذَلِكَ اليَوْمِ المَشْهُودِ، فَحِينَما أَتَى فِرْعَوْنُ بِالسَّحَرَةِ، إِنَّمَا جَاءَ بِهِمْ لِيُقَارِعُوا مُوسَى، وَهُمْ إِنَّمَا يُمَثِّلُونَ فِرْعَوْنَ فِي هذِهِ المَعْرَكَةِ، فَانْكِسَارُهُمْ هُوَ انْكِسَارٌ لِفِرْعَونَ وَمَلَئِهِ. روى ابنُ أبي حاتم في تفسيره عن ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ قَوْلَهُ: "وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ "، فَكَسَرَ اللهُ ظَهَرَ فرعونَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ، وَأَشْيَاعِهُ".
فقد "انقَلَبُوا صَاغِرِينَ" لأنَّه لا ذُلَّ ولا صَغَارَ أَعْظَمُ في حَقِّ المُبطِلِ مِنْ ظُهورِ بُطلانِ قولِه وحُجَّتِهِ، على وجهٍ لا يمكن فيه حِيلةٌ ولا شُبْهَةَ أصلاً. والانقلاب: مُطاوِعُ قَلَبَ، والقَلْبُ: تَغييرُ الحالَ وتَبديلُه، والأَكْثرُ أنْ يكون تًغييراً مِنَ الحالَ المُعتادةِ إلى حالٍ غَريبَةٍ. ويُطْلَقُ الانْقِلابُ على الرجوعِ إلى المكان الذي يخرج مِنْهُ، لأنَّ الراجِعَ قد عَكَسَ حالَ خروجه. وانقلب من الأفعال التي تجيء بمعنى "صار" وهو المرادُ هنا أيْ: صاروا صاغرين، واختيارُ لَفظِ "وَانْقَلَبُوا" دون "رَجَعوا" أو "صاروا" لمناسَبَتِه للفْظِ غُلِبوا في الصِيغةِ، ولِما يُشعِرُ بهِ أَصْلُ اشْتِقاقِهِ مِنَ الرُجوعِ إلى حالٍ أدنى، فكان لفظ انقلبوا أدخل في الفصاحة.
و"صاغرين" من الصَّغارِ: وهو المَذَلَّةُ، يُقالُ: "صَغِرَ الرَّجُلُ يَصْغَر صَغَرًا وصُغْرًا وصَغارًا. إذا ذلَّ وهان في أعين الناس، وتلك المذلة هي مَذلة ظُهورِ عَجزِهم، ومَذَلَّةُ خَيبةِ رَجائِهم ما أَمَّلوهُ مِنَ الأَجْرِ والقُرْبِ عند فرعون.
قولُه تعالى: {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ} هنالك: هنا اسْمُ إشارةٍ للمكان متعلِّقٌ ب "غلبوا"، واللامُ للبعدِ، والكافُ للخطاب، أي: غُلبوا في المكان الذي وَقَع فيه سحرهم، وهذا هو الظاهر. ومن استعماله للمكان قولُه تعالى: في سورة الفرقان: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} الآية: 13. أيْ في ذلك المكانِ الضَيِّقِ. ويجوزُ أنْ يكونَ زماناً، ومنه قوله تعالى في سورة الأحزاب: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المؤمنون} الآية: 11. وقولُه تعالى في سورة الكهف: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ للهِ الْحَقِّ} الآية: 44. فهذا إشارة إلى الزمان. ومنه قولُ الأفْوهِ الأوْدِيَّ:
وإذا الأمورُ تعاظَمَتْ وتشابَهَتْ ........... فهناك يَعْترفون أين المَفْزَعُ
ومنه قول زهير بنُ أبي سلمى، من الطويل:
هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا
وإنْ يَسْأَلوا يُعْطُوا وإنْ يَيْسِروا يُغْلُوا
وقد يقال: هَنَّا وهِنّا بفتح الهاءِ وكَسْرِها، وتَشديدِ النُّونِ، كقولِ الشاعر الجاهلي شبيبٍ بْنِ جعل التَغلبي من الكامل، وقيل البيتُ لحجل بن نَضلة وهو جاهلي أيضاً:
حَنَّتْ نُوَارُ وَلاَتَ هَنَّا حَنَّتِ ............ وَبَدَا الَّذِي كَانَتْ نَوَارُ أجَنَّتِ
وقد يُقالُ: هَنَّتْ.
قوله: {صَاغِرِينَ} حالٌ من فاعلِ "انْقَلبوا"، والضَميرُ في "انقلبوا" يجوزُ أنْ يَعودَ على قومِ فِرْعونَ، ويجوز أن يعودَ على السَّحَرة إذا جعلنا الانقلابَ قبلَ إيمانِ السَحَرَةِ، أوْ جعلْنا انْقلَبوا بمعنى صاروا، أي: صاروا أَذِلاَّء مَبْهوتين متحيِّرين. ويجوزُ أَنْ يَعودَ عليهم دون السَّحَرةِ إذا كان ذلك بعد إيمانهم، ولم يُجعل "انقلبوا" بمعنى صاروا، لأنَّ الله لا يَصِفُهم بالصَّغار بعدَ إيمانهم.
وعطفت جملة "فَغُلِبُوا" بالفاء لحصول المغلوبيَّةِ إثْرَ تَلَقُّفِ العصا لإفْكهم.