فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(118)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {فَوَقَعَ الْحَقُّ} قال ابْنُ عبَّاسٍ والحَسَنُ ـ رضي اللهُ عنهم ـ وقعَ الحقُّ: ظَهَرَ واسْتَبانَ، وقالَ أَربابُ المعاني: الوُقوعُ: ظُهورُ الشيءِ بِوُجودِهِ نازلاً إلى مُسْتَقَرِّهِ. ف "وَقع الحقُّ" يُفيدُ قوَّةَ الظُهورِ والثُبوتِ بحيثُ لا يَصِحُّ فيه البُطْلانُ، كما لا يَصِحُّ في الواقِعِ أنْ يَصيرَ إلاَّ واقعاً، ومَعَ ثُبوتِ الحَقِّ زالتْ تِلكَ الأعيانُ التي أَتَوْا بها وهيَ الحِبالُ والعِصِيُّ، فوَقَعَ في قلوبهم أيْ فأثَّرَ فيها، الوُقوعُ يكونُ عادةً مِنْ أَعْلى إلى أسفلَ بحيثُ يراهُ الجميعُ ويَعرِفُهُ كلُّ مَنْ يَراه. ومنه: وقعَ الطائرُ، إذا نَزَلَ إلى الأرضِ، واسْتُعيرَ الوُقوعُ لِظُهورِ أَمْرٍ رَفيعِ القَدْرِ، لأنَّ ظُهورَهُ كانَ بِتَأْييدٍ إلهيٍّ، فشُبِّهَ بِشيءٍ نَزَلَ مِنْ عُلُوٍّ، وقدْ يُطلَقُ الوُقوعُ على الحصولِ لأنَّ الشيءَ الحاصِلَ يُشْبِهُ النازلَ على الأرض، وهي استعارةٌ شائعةٌ، قال تعالى في سورةِ الذارياتِ: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} الآية:6. أيْ: حاصلٌ وكائنٌ، والمَعنى: فَظَهَرَ الحَقُّ وحَصَلَ.
ولَعَلَّ في اخْتِيارِ لَفْظِ "وقع"، هُنا دُون "نزل" مُراعاةً لِفِعْلِ الإلْقاءِ، لأنَّ الشيءَ المُلْقى يَقَعُ على الأرضِ، فكانَ وُقوعُ العَصا على الأرضِ وظُهورُ الحَقِّ مُقتَرِنَيْن. فَقد ثَبَتَ الحَقُّ، وظَهَرَ وتَبَيَّنَ، وهو أمرُ موسى ـ عليه السلام ـ والمُرادُ ب "الحَقُّ" ضِدُّ الباطل، وهو هنا: سُطوعُ البرهانِ، وظُهورُ الإعجازِ. وأُريدَ به صِدْقُ موسى ـ عليه السلامُ ـ وصِحَّةُ مِعْجِزَتِهِ، وكونُ ما فَعَلَتْه العَصا هُو مِنْ صُنْعِ اللهِ تعالى، وأَثَرِ قُدْرَتِهِ.
وفَسَّرَ بَعضُهم "وقع" بِ "ثَبَتَ"، على أنَّه قدْ اسْتُعيرَ الوَقْعُ للثُبوتِ والحُصولِ، أوِ للثباتِ والدوامِ، لأنَّهُ في مُقابِلِ "بَطَلَ" والباطِلُ زائلٌ، وفائدةُ الاسْتِعارَةِ: الدَّلالةُ على التَأثيرِ، لأنَّ الوَقْعَ يُسْتَعْمَلُ في الأجسامِ.
قولُهُ: {وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} زَالَ وفَسَدَ ما كانوا يَعْمَلونَ مِنَ السِحْرِ، وهو الذي فَعَلَهُ السَّحَرَةُ، وَمَوَّهُوا بِهِ عَلَى النَّاسِ. فَعَرَفَ السَّحَرَةُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى حَقٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، وَلَيْسَ بِالسِّحْرِ. و"بَطَلَ": حقيقتُه اضْمَحَلَّ. والمُرادُ: اضْمِحْلالُ المَقصودِ مِنْه، يقالُ: بَطَلَ سَعيُه، أيْ: لم يأتِ بفائدَةٍ، ويُقالُ: بَطَلَ عَمَلُهُ، أيْ: ذَهَبَ ضَياعاً بِلا أَجْرٍ، ومنْهُ قولُه تعالى في سورةِ الأنفال: {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} الآية: 8. أي: يُزيلُ مَفعولَه وما قَصَدوه مِنْهُ، فالباطل هو الذي لا فائدة فيه، أو لا خير فيه. وشاع هذا الإطلاقُ حتى صارَ الباطلُ كالاسْمِ الجامِدِ، والباطلُ اسْمُ فاعلٍ مِنْ بَطَلَ، فيُساوي المَصدرَ في اللَّفْظِ، ويَتَعَيَّنُ المُرادُ منهما بالقرينة، فُصُوْغُ فِعْلِ "بَطَلَ" يَكونُ مُشْتَقّاً مِنَ المَصدرِ، وهُوَ البُطلان، وقدْ يَكونُ مُشتَقّاً مِنَ الاسْمِ وهو الباطلُ. ويَصِحُّ تَفسيرُهُ هنا بالمعنيين. وقولُهُ: "وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" بعدَ قولِهِ: "فَوَقَعَ الْحَقُّ" تقريرٌ لمضمونِ جملةِ "فَوَقَعَ الْحَقُّ" لِتَسجيلِ ذَمِّ عَمَلِهم، ونداءٌ بخيْبَتِهم.
قولُهُ تعالى: {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يجوزُ أنْ تكونَ "ما" بمعنى الذي، فيكونُ فاعلاً، ويجوزُ أَنْ تَكونَ مَصْدريّةً، أيْ: وبَطَل الذي كانوا يعملونَه، أوْ وبَطَلَ عَمَلُهم، وهذا المصدرُ يجوزُ أَنْ يكونَ على بابِهِ، وأنْ يَكونَ واقِعاً موقعَ المفعولِ به بخلافِ {ما يَأفِكون} في الآيةِ السابقةِ، فإنَّه يَتَعَيَّن أنْ يَكونَ واقِعاً موقعَ المفعولِ بِه لِيَصِحَّ المعنى، إذِ اللَّقْفُ يَسْتَدْعي عَيْناً يَصِحُّ تَسَلُّطُهُ عليها. وجملة "فوقع الحقُّ" معطوفةٌ على جملة {هي تلقف}.