وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ
( 117 )
قولُه، سبحانه وتعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} فَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إلَى رسولِه مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ـ أَنْ يُلْقِيَ عَصَاهُ، فَلَمَّا أَلْقَاهَا انْقَلَبَتْ ثُعْبَاناً، أَخَذَ يَلْتَقِمُ مَا أَلْقَى بِهِ السَّحَرَةُ مِنْ بَاطِلٍ أَوْهَمُوا النَّاسَ أَنَّهُ حَقٌّ، حَتَّى أَتَى عَلَيهِ جَمِيعاً.
قولُهُ: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} لقد ابتلعَتْ بِسُرْعَةٍ فائقةٍ جميعَ ما صََنَعُوهُ من حبالٍ وعِصيِّ، وتَلْقَفُ: مِنْ لَقِفَ يَلْقَفُ، ك "عَلِمَ يَعْلَمُ" ومنه قولُ الشَّاعِر من السريع:
وأنتَ عَصَا مُوسَى الَّتي لَم تَزَلْ .............. تَلْقَفُ مَا يَصْنَعُهُ السَّاحِرُ
ويُقَالُ: رَجُلٌ ثقفٌ لقفٌ، وثَقِيفٌ لَقِيفٌ، أي بَيِّنُ الثَّقافةِ واللَّقَافَةِ. ويُقَالُ: لَقِفَ ولَقِمَ بمعنى واحدٍ، ويقالُ: تَلْقَفُ، وتَلْقَمُ، وتَلْهَمُ: بمعنىً واحدٍ.
وقال ابنُ عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما: "مَا يَأفِكُونَ" يريد يَكْذِبُونَ،
والمعنى: أنَّ العصا تلقَفُ ما يأفِكُونَهُ، أي: يَقْلِبُونَهُ عن الحَقِّ إلى البَاطِلِ.
والتعبير بصيغة المضارع في قوله: "تَلْقَفُ" و"يَأْفِكُونَ" للدلالة على التجديد والتكرير، مع استحضار الصورة العجيبة، أي: فإذا هي يتجدد تلقفها لما يتجدد ويتكرر من إفكهم. وتسمية سحرهم إفكا دليل على أن السحر لا معمول له وأنه مجرَّدُ تخييلاتٍ وتمويهات.
قولُهُ تعالى: {أَنْ أَلْقِ} أن: مصدريّةٌ وهي وما بعد من مصدرٍ مؤوَّلٍ في مِوْضِعِ نَصْبٍ ب "أوحينا" أيْ بأنْ أَلْقِ، ويجوزُ أن تكونَ المفسِّرة لمعنى الإِيحاء، فهي بمعنى "أي" فلا يكون لها موضِعٌ مِنَ الإعْرابِ.
وجملة {وَأَوْحَيْنَا} معطوفة على جملة {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} من الآية التي قبلها. فهي في حيِّزِ جوابِ لمّا، أي: لمّا ألقوا سحروا، وأوحينا إلى موسى أنْ ألْقِ لهم عصاك.
قولُه: {فإذَا هِيَ} يجوزُ أن تكُون الفاءُ العاطفةَ، ولا بُدَّ من حَذْفِ جملةٍ قَبْلهَا ليترتَّبَ ما بعد الفاءِ عليها، والتقديرُ: فألْقَاهَا فإذا هِيَ. وَمَنْ جوَّز أن تكون الفاءُ زائدةً في نحو: خَرَجْتُ فإذا الأسَدُ حَاضِرٌ. جوَّز زيادتها هُنَا. وعلى هذا فتكونُ هذه الجملةُ قد أوحيت إلى موسى كالَّتي قَبْلَهَا. أمَّا على الأوَّل ـ أعني كون الفاءِ عاطفةً ـ فالجملةُ غير موحى بها إليه.
قوله: {مَا يَأفكونَ} يجوزُ في "ما" أن تكون بمعنى "الذي" والعائدُ محذوفٌ، أي: الذي يأفِكُونهُ. ويجوزُ أنْ تكُون "ما" مَصدرية، والمصدر
حينئذٍ واقعٌ موقعَ المفعُولِ به، وهذا لا حَاجةَ إلَيْهِ.
ومعنى الإفكِ في اللُّغةِ: قلبُ الشَّيءِ عن وجْههِ، ومنه قِيلَ للكذبِ إفْكٌ، لأنَّهُ مقلْوبٌ عن وجهه.
قرأ العامة قوله: {تَلْقَّفُ} بالتشديد، مِنْ تلقَّفَ يتلقَّفُ، والأصل: "تَتَلَقَّفُ" بتاءين فحذفت إحداهما: إمَّا الأولى وإما الثانية، وقد تقدَّم ذلك نحوُ قولِه في سورة الأنعام: {تَذَكَّرُونَ} الآية: 80.
وقرأ البزِّي: "فإذا هي تَّلَقَّفُ" بتشديد التاء، على أصلِه في إدغامِها فيما بعدَها أَيْضاً. وقد تقدَّم تحقيقُه عند قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} سورة البقرة، الآية: 267.
وقرأ حفص: "تَلْقَفْ" بتخفيف القاف مِنْ لَقِفَ ك عَلِم يعلم ورَكِب يركب، يُقالُ: لَقِفْتُ الشيء أَلْقَفُه لَقْفاً ولَقَفاناً، وتَلَقَّفْتُه أَتَلَقَّفُه تَلَقُّفاً إذا أخذتَه بسرعة فأكلته أو ابتلعته، وفي التفسير: أنها ابتلعَتْ جميعَ ما صنَعُوه، وأنشدوا على لَقِف يلقَف ك عَلِم يَعْلَم قول الشاعر:
أنت عصا موسى التي لم تَزَلْ ................ تَلْقَفُ ما يَصْنَعُه السَّاحرويقال: رجلٌ ثَقْفٌ لَقْفٌ وثقيف لقيف بَيِّنُ الثقافة واللَّقافة. ويقال: لَقِفَ ولَقِم بمعنى واحد قاله أبو عبيد. ويقال: لَقِف ولَقِم ولَهِم.