يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ
(110)
قولُه ـ تبارك وتعالى: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} أي إنَّ غَايَتَهُ مِنْ سِحْرِهِ هذَا أَنْ يَتَغَلَّبَ عَلَيْكُمْ بِاسْتِمَالَةِ الشَّعْبِ إِلَيهِ، وَأَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ، يَعنونَ أنَّه ما فعلَ ما فعلَهُ مِنْ سِحْرٍ، ولا طَلَبَ من فرعونَ إخراجَ بَني إسرائيلَ حين قال له: {فأرسلْ معي بني إسرائيل} إلاَّ ذَريعةً لإخراجِ كلِّ مَنْ يُؤمِنُ بِهِ لِيَتَّخِذَهم تَبَعًا ويُقيمَ بهم مُلْكاً خارجَ مِصْر، فزَعَموا أنَّ تلكَ مَكيدةٌ مِنْ مُوسى ـ عليه السلامُ ـ لِثَلْمِ مٌلكِ فِرعوْنَ وتقويضِه. أو أنْ في ملأِ فرعون رجالٌ مقرَّبون مِنْ بَني إسرائيلَ وهم منْ أهلِ الرأْيِ في مملكته، إذا فكاف الخطابِ موجَّهٌ إليهم، وهمُ المقصودُ، أي: يُريدُ إخراجَ قومِكمْ مِنْ أَرْضِكم التي اسْتَوْطَنْتُموها أربعةَ قُرونٍ وصارتْ لَكم مَوْطِناً كما هي للمصريين، والقْصدُ تذكيرُهم بحبِّ وطنِهم، وتقريبُهم من أَنْفُسهم، وإنساؤهم ما كانوا يَلقوْن مِنِ اضْطِّهادِ القُبْطِ واسْتِذْلالهم.
أو أنهم عَلِموا أَنَّه إذا شاع في الأمَّة ظُهورُ حُجَّةِ مُوسى وعَجزِ فرعون ومَلَئِهِ، أحدثَ ذلك فتنةً في عامَّة الأمَّةِ فآمنوا بموسى وأصبحَ هوَ الملكَ على مِصْرَ فأَخْرجَ فِرْعونَ ومَلأَهُ منها.
ويجوزُ أنْ يَكونَ الملأُ خاطبوا بذلك فِرعونَ. فَجَرَتْ ضمائرُ الخطابِ في قوله: "أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ" على صيغةِ الجمعِ تَعظيماً للمَلِكِ كما في قولِه تَعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} سورة المؤمنون، الآية: 99. وهذا مُطَّرِدٌ في خطاب الملوك والعظماء.
قولُهُ: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} فَمَا الذِي تَرَوْنَ أَنْ نَفْعَلَ بِهِ لِنَتَجَنَّبَ حُصُولَ ذَلِكَ؟ وهو من قولِ الملأِ أوْ منْ قولِ فِرْعونُ، ويؤيِّدُ أنَّه من قولِ فرعون قولُهُ بعد ذلك: {قالوا أَرْجِهْ}.
ويجوز أن يكون "يريد أن يخرجكم .." من قول الملأ، و"فماذا تأمرون" من قول فرعون" فاتَّصلَ قولُهُ بقولهم، وهو كقولِه تعالى في الآية: 59. من سورة: ص: {هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} وهي الأُمَّة تدخل بعد الأُمَّة النارَ، ثم قَالَ: {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ} فالكلامُ متَّصل، كأنه قولٌ واحِدٌ، وإنما قولُه: {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ} من قولِ أهلِ النارِ، بدليل قولِه في الآية التي بعدها: {قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ}. الآية: 60.
و"تأمرون" هو من المؤامَرِةِ، أيْ المُشاورةِ، أو مِنَ الأمْرِ الذي هو ضِدُّ النَهي. وهو من باب التواضع للمخاطبين والتَلَطُّفِ بهم، ووجههُ طلَبُ الرأيِ والمَشورةِ وحسْب، لأنَّ أَمْرَهُم لا يَتَعَيَّنُ العملُ بِهِ، هذا إذا كان فرعونُ هو صاحبَ الخطابِ، والملأُ هم المتوجَّه إليهم به، إمّا إذا كانَ المُخاطَبُ هو فرعون، فالمراد مِنَ الأَمْرِ هو الطَلَبُ الذي يجبُ امْتِثالُهُ، وهو كما قال ملأُ بلقيس في الآية: 33. من سورة النَمْلِ: {فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} أي أمراً نافذاً واجبٌ علينا تنفيذُه. وقال تعالى هنا: "يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ" وقال في الآية: 35. من سورة الشعراء: {يُريدُ أنْ يخرجَكم مِنْ أرضِكم بِسِحْرِهِ} فزادَ "بِسِحْرِهِ"، لأنَّ أوَّلَ هذه الآيةِ مبنيٌّ علىَ الاخْتِصارِ.
هذا وقدْ جاءَ ذِكْرُ موسى في نحوِ اثْنَتَيْنِ وعشرين سُورَةً بينَ مختصَر ومطوّلٍ، وذُكِرَ اسمُهُ أكثرَ مِنْ مئةٍ وثلاثين مَرَّةً. ذلك لأنَّ حالَهُ مع قومِه شبيه بحال نبيِّنا ـ عليهما الصلاةُ والسلامُ ـ مع كفارِ مكّةَ، فقد لقي كلٌّ منهما من أمَّته عنتاً كبيراً، ولأنَّ شريعتَه كانت دِينيَّةً ودنيويَّةً أيضاً، وثمَّة سببٌ آخرُ ـ واللهُ أعلم ـ وهو أنّه سيكون بين الأمّتين جدالٌ طويل وخصامٌ مستمِرٌ إلى أمَدٍ طويلٍ حتى يتحقَّقَ ما أخبر عنه نبيُّنا ـ عليه الصلاة والسلامُ ـ فيما رواه الإمام مسلم: ((لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ المُسْلِمُونَ اليَهُودَ فَيَقْتُلُهُمْ المُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ اليَهُودِيُّ وَرَاءَ الحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الحَجَرُ وَالشَّجَرُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذا يَهُوِدٌّي خَلْفِي تَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلاَّ الغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ اليَهُودِ)).
قوله تعالى: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} ما: استفهام في محلِّ نَصبٍ على أنَّه مفعولٌ ثانٍ ل "تأمرون" بحذفِ الجَارِّ، والمفعولُ الأوَّلُ محذوفٌ، والتقديرُ بأيِّ شيءٍ تأمرونَني؟. وقيل: "مَا" خبرٌ مُقدَّمٌ و "ذَا" اسمٌ مَوصولٌ وهو مبتدأٌ مُؤخَّرٌ، أَيْ: ما الذي تأمرون به؟، أو: أيَّ أمرٍ تأمرونَ؟ ومَحَلُّ "مَاذَا" النَّصْبُ على المَصْدَرِيَّةِ، والجمهور على "تأمرون" بفتحِ النون. ورَوى كُرْدُمٌ عنْ نافعٍ كَسْرَها. وعلى كِلْتا القراءتين يَجوزُ أنْ يكونَ "ماذا" كُلُّه اسماً واحداً في محلِّ نَصْبٍ على أنَّه مفعولٌ ثانٍ ل "تأمرون" بعد حَذْفِ الياءِ، ويكون المفعولُ الأوَّلُ ل "تأمرون" وهو ياءُ المتكلم محذوفاً، والتقديرُ: بأيِّ شيءٍ تأمرونني؟ وعلى قراءةِ نافعٍ لا تقول: إنَّ المفعولَ الأوَّلَ محذوفٌ بل هو في قوَّةِ المَنطوقِ بِه؛ لأنَّ الكسرةَ دالَّةٌ عليه، فهذا الحذفُ غيرُ الحذفِ في قراءةِ الجماعةِ.
ويجوزُ أنْ تَكونَ "ما" اسْتفهاميَّةً في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و "ذا" موصولٌ، وصِلَتُه "تأمرون"، والعائدُ محذوفٌ، والمفعولُ الأولُ أيضاً محذوفٌ، على قراءةِ الجماعة، وتقديرُ العائدِ منصوبُ المحلِّ غيرُ مُعَدَّى إليْهِ بالباءِ فتَقديرُه: فما الذي تأمرونِيهُ؟