وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ( 102 )
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} قال ابنُ عبّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: وذلك أنَّ اللهَ إنما أَهْلَكَ القُرى لأنهم لم يَكونوا حَفِظوا ما أَوْصاهم بِهِ. وقال الحسن ـ رضي اللهُ عنه: العهد: الوفاء. وقال مجاهد: العهد: الذي أخذ من بني آدم في ظهر آدم لم يفوا به. وقال أُبيُّ بنُ كعبٍ: الميثاق الذي أخذه في ظهر آدم. وأخرج ابن المنذر أيضاً عنه قولَه: "وما وجدنا لأكثرهم من عهد" قال: عَلِمَ اللهُ- يومئذٍ مَنْ يَفي ممن لا يَفي فقال: "وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين". وقال أبو العالية: هو ذاكَ العَهْدُ يومَ أُخِذَ الميثاق. أمَّا قَتادةُ ـ رضي اللهُ فقال: "وما وجدنا لأكثرهم من عهد" قال: لمّا ابْتَلاهم بالشِدَّةِ والجهدِ والبَلاءِ ثمَّ أَتاهم بالرَّخاءِ والعافيةِ، ذَمَّ اللهُ أكثَرهم عند ذلك فقال: "وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين". والمعنى لَمْ يَثْبُتَ أَكْثَرُ هؤُلاَءِ الأَقْوَامِ عَلَى عَهْدِ الفِطْرَةِ، الذِي أَخَذَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ، وَهُمْ فِي أَصْلابِ آبَائِهِمْ، بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ، وَأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَعْبُدُوهُ، فَخَالَفُوا هَذا العَهْدَ، وَتَرَكُوهُ وَرَاءَهُمْ ظِهْرِيّاً، وَعَبَدُوا مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى بِلاَ دَليلٍ وَلاَ حُجَّةٍ، وَلا بُرْهَانٍ، فَكَانُوا مِنَ الفَاسِقِينَ الخَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، وَعَنْ عَهْدِ الفِطْرَةِ.
قوله تعالى: {لأَكْثَرِهِم}: الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بالوِجْدان كقولك: ما وَجَدْت له مالاً أي: ما صادَفْتُ له مالاً ولا لَقِيْتُه. الثاني: أن يكون حالاً من "عهد" لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ فلمَّا قُدِّم عليها نُصِب على الحال، والأصل: وما وَجَدْنا عهداً لأكثرهم، وهذا ما لم يذكر أبو البقاء غيره. وعلى هذين الوجهين ف "وجد" متعدية لواحد وهو "مِنْ عهد"، و "مِنْ" مزيدة فيه لوجودِ الشرطين. الثالث: أنه في محل نصب مفعولاً ثانياً لوجد إذ هي بمعنى عِلْمية، والمفعول هو "من عهد". وقد يترجَّح هذا بأن "وَجَد" الثانيةَ عِلْمية لا وِجْدانية بمعنى الإِصابة، وسيأتي دليل ذلك. فإذا تقرَّر هذا فينبغي أن تكونَ الأولى كذلك مطابقةً للكلام ومناسبة له. ومَنْ يرجِّح الأولَ يقول: إنَّ الأولى لمعنى، والثانية لمعنى آخر.
قوله: {وَإِن وَجَدْنَا} إنْ: هذه هي المخففة، وليست هنا عاملةٌ لمباشرتها الفعلَ فزال اختصاصُها المقتضي لإِعمالها. وقال الزمخشري: "وإنَّ الشأنَ والحديثَ وَجَدْنا" فظاهرُ هذه العبارة أنها مُعْمَلة، وأنَّ اسمَها ضميرُ الأمر والشأن. وقد صَرَّح أبو البقاء هنا بأنها معملةٌ وأن اسمَها محذوفٌ، إلا أنه لم يقدِّره ضميرَ الحديث بل غيرَه. فقال: واسمُها محذوفٌ. أي: إنَّا وجدنا، وهذا مذهب النحويين أعني اعتقادَ إعمالِ المخففِ من هذه الحروفِ في "أنْ" المفتوحة على الصحيح وفي "كأنْ" التشبيهية، وأما "إنْ" المخففةُ المكسورةُ فلا. وقد تقدَّم ذلك بأوضح من هذا. و"وجدنا" وَجَدَ هنا متعديةٌ لاثنين أوَّلهما "أكثرهم"، والثاني "لَفاسقين". قال الزمخشري: والوجودُ بمعنى العِلْمِ مِنْ قولِكَ: وَجَدْتُ زيداً ذا الحفاظ بدليل دخول "إنْ" المخففة، واللامُ الفارقة، ولا يَسُوغ ذلك إلا في المبتدأ والخبر والأفعالِ الداخلةِ عليهما. يعني أنها مختصةٌ بالابتداء أو بالأفعالِ الناسخة له، وهذا مذهب الجمهور، وقد تقدَّم لك خلافٌ عن الأخفش: أنه يُجَوِّز على غيرها وقَدَّمْتُ دليله على ذلك. واللام فارقةٌ. وقيل: هي عوضٌ من التشديد. قال مكي: ولَزِمَتِ اللامُ في خبرها عوضاً من التشديد. والمحذوفُ الأول. وتقدَّم الكلامُ أيضاً أن بعض الكوفيين يجعلون "إنْ" نافيةً، واللامَ بمعنى "إلا" في قوله تعالى: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} سورة البقرة، الآية: 143.