أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ
(100)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا) عُطِفَتْ هذه الآيةُ الكريمةُ على قولِهِ تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} الآية: 97. من هذه السورة، لاشتراك مضمون الآيتين في الاستفهام التعجيبي، فانتقل عن التعجيب من حال الذين مضوا إلى التعجيب من حال الأمة الحاضرة، وهي الأمة العربية الذين ورثوا ديار الأمم الماضية فسكنوها: مثل أهل نجران، وأهل اليمن، ومن سكنوا ديار ثمود مثل بلي، وكعب، والضجاغم، وبهراء، ومن سكنوا ديار مدين مثل جهينة، وجرم، وكذلك من صاروا قبائل عظيمة فنالوا السيادة على القبائل: مثل قريش، وطي، وتميم، وهذيل، فالموصول بمنزلة لام التعريف العهدي، وقد يقصد بالذين يرثون الأرض كلُّ أمَّةٍ خلفتْ أمَّةً قبلَها.
وهذه أيضاً آية وعيدٍ، ويَهْدي معناه يُبَيِّنُ، والهُدى الصباح وأنشدوا على ذلك:
حتى اسْتِبَنْتُ الهُدى والبيدُ هاجمةٌ ..... يُسَبِّحْنَ في الآلِ غُلْفاً أوْ يُصَلِّينا
و"يهدي لهم" أي يُبَيِّنُ للذين يَرِثونَ الأرضَ طَريقَ الخَيرِ، ومعنى "يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا" أنَّ الأرضَ كانتْ مملوكةً لسواهم، ثمَّ جاءوا هم من بعدِهم. وحينَ يستقرئُ الإِنسانُ الوُجودَ الحَضاريَّ الإنسانيَّ على الأرضِ، يجدُ أنَّ كلَّ حضارةٍ بُنِيَتْ على أنقاضِ حضارةٍ أخرى سبقتها، والذي يأتي على أنقاضِ الغيرِ يُسَمَّى إرْثاً، وما دمتم وَرِثْتم غيرَكم يجبُ أنْ يَظَلَّ في بالكم أنَّ غيرَكمُ سَيَرِثُكم، فالمسألةُ دُوَلٌ بين العبادِ، فعلى الإنسان العاقل أن يتفكَّر ويتدبَّر ويعلمَ أنَّ ما في يده سينتقل يوماً إلى غيره، إذاً فلا تغترَّ بما أنت فيه من نعمة واشكر الله الذي أنعم عليك بها.
ويحتملُ أنْ يَكونَ المُبينَ اللهُ، ويحتملُ أنْ يَكونَ المُبينَ قولُهُ: {أنْ لو نشاءُ} أيْ عِلْمُهم بذلك، وقالَ ابْنُ عبَّاسٍ ومجاهدٌ وابنُ زَيْدٍ ـ رضي اللهُ عنهم: و"يهدي" معناهُ يَتَبَيَّنُ، أَيْ يُبَيِّنُ ويُوَضِّحُ للوارثين مآلَهم وعاقبةَ أَمْرِهم ـ والمقصودُ هم كُبراءُ مَكَّةَ ـ وإصابَتَنا إيَّاهُم بذنُوبِهم لو شِئْنا ذلك، وهم الذِينَ يَسْتَخْلِفُهُمُ اللهُ فِي الأَرْضِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَهْلَكَ آخَرِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، سَارُوا سِيَرَتَهُمْ، وَعَمِلُوا عَمَلَهُمْ، وَعَتَوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، أَوَ لم يتبيَّنْ لهم أَنْ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ مَا فَعَلَهُ بِمَنْ قَبْلَهُمْ ، عِقَاباً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَخْتِمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ وَعْيَ مَوْعِظَةٍ، وَلا فَهْمَ نَصِيحَةٍ.
قولُه: {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} نطبع: أيْ نختِمُ، ونختم عليها بالشَقاوَةِ، وفي هذه العبارة ذِكْرُ القومِ الذين قُصِدَ ذِكْرُهم وتَعديدُ النِّعمةِ عَليهم فيما "ورثوا" والوعظُ بحالِ مَنْ سَلَفَ مِنَ المُهْلَكين.
قولُه: {فَهُم لاَ يَسْمَعُونَ} أيْ لا يَقْبَلون، كما تقولُ في الصلاة، سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَهُ، أيْ قَبِلَ اللهُ ممن حَمِدَهُ، وقال الشاعر:
دَعَوْتُ اللهَ حَتَّى خِفْتُ أَلاَّ .................. يَكُونَ اللهُ يَسْمَعُ مَا أَقُولُ
أي يقبل.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} هذه ألف تقرير دخلت على واو العطف، وفعلٌ مضارعٌ فاعلُه المصدر المؤولُ من "أنْ" وما في حَيِّزها، والمفعولُ محذوفٌ والتقدير: أو لم يَهْدِ أي: يبيِّن ويوضِّح للوارثين مآلهم وعاقبةَ أمرِهم وإصابتنا إياهم بذنوبهم لو شِئْنا ذلك، فقد سَبَكْنا المصدر من "أنْ" ومن جواب "لو". أو أنَّ الفاعلَ هو ضميرُ اللهِ تعالى أي: أوَ لم يبيِّنِ اللهُ، ويؤيدُه قراءةُ مَنْ قرأ "نَهْدِ" بالنون. أو أنَّ الفاعلَ ضميرٌ عائدٌ على ما يُفْهَمُ مِنْ سياق الكلام أي: أوَ لم يَهْدِ ما جَرَى للأممِ السابقةِ كقولهم: "إذا كان غداً فَأْتني" أي: إذا كان ما بيني وبينك مما دلَّ عليه السياق. وعلى هذين الوجهين ف "أنْ" وما في حيِّزها بتأويل مصدر كما تقدَّم في محلِّ المفعول والتقدير: أَوَ لم يُبَيِّن ويوضحِ اللهُ أوْ ما جَرَى للأممِ إصابَتَنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك.
وعدَّى فعلَ الهدايةِ باللام "للذين" لأنها بمعنى التبيين. والتعريف في الأرض تعريف الجنس، أي يرثون أي أرض كانت منازل لقوم قبلهم، وهذا إطلاق شائع في كلام العرب. فالأرض بهذا المعنى اسمُ جِنْسٍ صادقٌ على شائعٍ مُتَعَدِّدٍ، فتعريفُه تعريفُ الجِنْسِ، وبهذا الإطلاق جمعت على أرضين، فالمعنى: أو لم يهد للذين يرثون أرضاً من بعد أهلها.
وقولُه: {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ} "أنْ" مفعولٌ فقط، وهي المخففةُ من الثقيلة، واسمُها ضميرُ الشأنِ، وجملةُ {لَوْ نَشَاءُ} خبرُها, ولما كانت "أن" المفتوحة الهمزة من الحروف التي تفيد المصدريَّةِ على التَحقيق لأنها مركبةٌ مِنْ "إنَّ" المكسورة المشددة، ومن "أن" المفتوحة المخففَّة المصدريَّة، لذلك عُدَّتْ في الموصولات الحرفيَّةِ، وكان ما بعدها مؤولاًّ بمصدرٍ مُنْسَبِكٍ مِنْ لَفظِ خبرِها إنْ كان مُفرداً مُشتَقّاً، أو مِنْ الكونِ إنْ كان خبرُها جملةً. فموقع "أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ" موقعُ فاعلِ "يَهْدِ"، والمعنى: أو لم يبين للذين يخلفون في الأرض بعد أهلها كون الشأن المهم وهو لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم. و "لو" فاصلةٌ بينها وبين الفعل، وقد تقدَّم أن الفصلَ بها قليلٌ. و "نشاء" وإن كان مضارِعاً لفظاً فهو ماضٍ معنىً؛ لأنَّ "لو" الامتناعيةَ تخلِّصُ المضارع للمضيّ. وفي كلامِ ابنِ الأنباري خلافُه فإنَّه قال في "ونطبعُ": هذا فعلٌ مستأنَفٌ ومنقطع مما قبله، لأنَّ قولَه: "أَصَبْنا" ماضٍ و "نَطْبع" مستقبل. ثم قال: ويجوزُ أنْ يكونَ معطوفاً على "أَصَبْنا" إذ كان بمعنى نُصيب، والمعنى: لو يَشاءُ يُصيبُهم ويَطْبَعُ، فَوَضَع الماضي موضع المستقبل عند وضوحِ معنى الاستقبالِ كقولِهِ تعالى في سورة الفرقان: {إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ} الآية: 10. أي: يجعل، بدليل قوله بعد ذلك: {ويجعل لَك}. وهذا ظاهرٌ قويٌّ في أنَّ "لو" هذه لا تخلِّصُ المضارعَ للمُضيّ، وتنظيرُه بالآيةِ الأخرى مُقَوٍّ لَهُ أيضاً.
وقال الفراء: وجاز أن تَرُدَّ "يَفْعلُ" على فَعَلَ في جواب "لو" كقوله تعالى في سورة يونس: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشرَّ استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ} الآية: 11.
وقولُه: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} هذه الجملةُ ليست معطوفة على جملةِ "أَصَبْنَاهُمْ" حتى تكون في حكم جواب "لو" لأنَّ هذا يُفسدُ المعنى، فإنَّ هؤلاءِ الذين ورثوا الأرضَ مِن بعدِ أهلِها فقد طُبِعَ على قلوبهم، ولذلك فلم تُجْدِ فيهم دعوة النبيِّ محمَّدٍ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ منذ بُعِثَ إلى زمن نُزولِ هذِهِ السُورةِ، فلو كان جوابا لـ "لو" لصار الطبعُ على قلوبهم ممتَنِعاً، وهذا فاسد، فتعيَّنَ: إمّا أنْ تكونَ جملةُ "وَنَطْبَعُ" معطوفةً على جملة الاستفهام برُمَّتِها فلَها حُكمًها مِنَ العطف على أَخبارِ الأمَمِ الماضية والحاضرة، والتقدير: وطبعنا على قلوبهم، ولكنَّه صيغَ بصيغة المضارع للدلالة على استمرار هذا الطبع وازدياده آناً فآناً، وإمّا أن تجعل "الواو" للاستئناف والجملة مستأنفة، أي: ونحن نطبعُ على قلوبهم في المستقبل كما طبعنا عليها في الماضي. ويُعرَفُ الطبعُ عليها في الماضي بأخبار أُخرى كقوله تعالى في سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} الآية: 6، فتكون الجملة تذييلاً لإنهاء القصة، ولكن موقع الواو في أول الجملة يرجِّح الوجهَ الأوَّل.
وقولُه: {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} جملةٌ معطوفة بالفاء على "وَنَطْبَعُ" متفرعاً عليه.
قرأ الجمهور: "يَهْدِ" بالياء مِنْ تحتِ. وقرأَ مجاهدٌ "نَهْدِ" بنونِ العَظَمَةِ.
وقرأ أبو عَمْرٍو: {ونطبعّ على} بإدغامِ العينِ في العين، وإشمامِ الضَمِّ.