ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ
(95)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} فَإِذَا اسْتَمَرُّوا فِي كُفْرِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ يَمْتَحِنُهُمْ رَبُّهُمْ بِالعَافِيَةِ وَالرَّخَاءِ، فَيُبَدِّلُ حَالَهُمْ مِنْ بُؤْسٍ وَضِيقٍ وَمَرَضٍ إلَى رَخَاءٍ وَصِحَّةٍ لِيَشْكُرُوا اللهَ عَلَى ذَلِكَ، ابتلاءً لهم بالأمرين.
قولُه: {حَتَّى عَفَوْا} أي كَثُروا، ونموا في أنفسهم وأموالهم، وكَثُرتْ أَرزاقُهم وانبسطوا في نعمةِ اللهِ وفضلِه، ونَسُوا ما مَرَّ عليهم من البَلاءِ. وبذلك فسَّرَهُ ابْنُ عبّاسٍ وغيرُهُ، مِنْ عَفا النّباتُ، وعَفا الشَّحمُ والوَبَرُ إذا كَثُرتْ، يقال: عَفَاه وأَعْفاه ثلاثياً ورباعياً. قال زهير:
أذلك أم أَقَبُّ البطنِ جَأْبٌ ..................... عليه مِنْ عَقِيقته عِفاءُ
وفي الحديث: ((إذا عَفا الوَبَر وبَرأ الدبر فقد حلَّت العمرةُ لمن اعتمر)). ومنْه قولُه ـ صلى الله عليه وسلّم: ((أَحفّوا الشوارِبَ واعْفوا اللّحى)). وقولُ الحُطيئة:
بمستأسد القريان عاف نباته ....... تساقطني والرحل من صوت هدهد
وقول لبيد:
ولكنّا نَعضُّ السيفَ منها ................ بأسوقِ عافياتِ الشّحْمِ كُومِ
و "عفا": أيضاً دَرِسَ، فهو من الأضداد. قال لبيدُ بنُ ربيعة العامري أيضاً: الطويل.
عفَا الرَّسمُ أمْ لا ، بعدَ حولٍ تجرمَا ... لأسْماءَ رَسْمٌ كالصَّحيفةِ أعجَما
قولُه: {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} فَإِذا كَثُرَتْ أَوْلاَدُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ "عَفَوْا"، وَاسْتَمْرَؤُوا العَيْشَ الهَنِيءَ، وَنَسُوا نِعْمَةَ اللهِ، وَفَضْلَهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا لجهلهم لَقَدْ مَسَّتْنَا السَّرَّاءَ وَالضَّرَّاءُ مِثْلَمَا سَبَقَ لَها أنْ أَصَابَتْ آبَاءَنا فِي سَالِفِ الأَيَّامِ، وَهَذا هُوَ حَالُ الدُّنيا، فَلا الضَّرَّاءُ عِقَابٌ عَلَى ذَنْبٍ يُرْتَكَبُ، وَلا السَّرَّاءُ جَزَاءٌ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ يُكْتَسَبُ، وإنما هو الدهر تارات وتارات، ولم يتفطنوا لأمرِ اللهِ فيهم، ولا اسْتَشعروا ابتلاءَ اللهِ لهم في الحالين. وهذا بخلاف حالِ المؤمنين الذين يشكرون الله على السَرّاءِ، ويَصْبِرون على الضَرّاءِ، كما ثبت في الصحيح من حديث صُهَيْبٍ الرومي ـ رضي الله عنه: ((عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، وإن أصابته سَراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضَرَّاء صَبَر فكان خيرا له" صحيح مسلم برقم (2999). فالمؤمن يتفطَّن لما ابْتلاه اللهُ بهِ منْ سرَّاءَ ضَرَّاءَ؛ أما الكافر والمنافق فلا يدري من ذلك شيئاً ولا يتفكَّر به، أو يعزوهُ إلى الدهر وصُرُفه، لأنه لا يؤمن بأنَّ لهذا الكونِ خالقٌ مدَبِّرٌ يسيِّرُه كيف يشاء، ويحكم في كلِّ صغيرة وكبيرٍ فيه.
قولُه: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أَخَذَهُمُ اللهُ بِالعَذَابِ فَجْأَةً، وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ، لأنَّهُمْ جَهِلُوا سُنَنَ اللهِ فِي خَلْقِهِ، فَلاَ هُمُ اهْتَدُوا إِلَيها بِعُقُولِهِمْ، وَلاَ هُمْ صَدَّقُوا الرُّسُلَ فِيمَا أَنْذَرُوهُمْ بِهِ. قَالَ قَتادةُ: بَغَتَ الْقَوْمَ أَمْرُ اللهِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ قَوْمًا قَطُّ إِلاَّ عِنْدَ سَلْوَتِهِمْ، وَغِرَّتِهِمْ، وَنِعْمَتِهِمْ، فَلا تَغْتَرُّوا بِاللهِ إِنَّهُ لا يَغْتَرُّ بِاللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ". قال سُفْيَانُ الثوريُّ: بَعْدَ سِتِّينَ سَنَةً. وعن ابْنِ الْمُبَارَكِ، أنَّ مُحَمَّد بْنَ النَّضْرِ الْحَارِثِيِّ، أنَّهم أُمْهِلُوا عِشْرِينَ سَنَةً.
قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة} مكانَ: منصوبٌ على الظرف، والتقديرُ: ثمَّ بَدَّلْنا في مكان السيئةِ الحسنةَ، إلاَّ أنَّ هذا يَنبغي أنْ يُرَدَّ لأنَّ "بَدَّلَ" لا بُدَّ له مِنْ مَفعولين أَحَدُهما على إسقاطِ الباءِ. والأظهر أنَّه مفعولٌ به لا ظرفٌ، والمعنى: بدَّلنا مكانَ الحالِ السيئةِ الحالَ الحَسَنَةَ، فالحَسَنَةُ هي المأخوذةُ الحاصلة، ومكانُ السيئةِ هو المتروكُ الذاهبُ، وهو الذي تَصْحبُه الباءُ في مثل هذا التركيب لو قيل في نظيره: بدَّلْتُ زيداً بعمرٍو، فزَيْدٌ هو المأخوذُ وعَمرٌو المتروكُ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة. ف "مكان" و"الحسنة" مفعولان، إلاَّ أنَّ أحدَهما وَصَلَ إليه الفعلُ بنفسِهِ وهو الحَسَنَةُ، والآخَرُ بحذفِ حرفِ الجَرِّ وهو "مكان".
قوله: {حتى عَفَوْاْ} حتى" هنا غاية، وتقَديرها ب "إلى" هو تفسيرٌ للمعنى وليس إِعراباً، لأن "حتى" الجارةَ لا تُباشرُ إلاَّ المُضارعَ المنصوبَ بإضمارِ "أن" لأنها في التقدير داخلةٌ على المصدرِ المنسبكِ منها ومن الفعل، وأمَّا الماضي فلا يطَّرد حَذْفُ "أنْ" معه، فلا يُقَدَّر معه أنها حرفُ جرٍّ داخلةٌ على "أنْ" المصدريَّةِ أي: حتى أَنْ عَفَوا.
قوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ} عطفٌ على "عَفَوا" وما عطف عليه أيضاً، أعني أن الآخذ ليس متسَبِّباً عن العَفاء فقط، بل عليه وعلى قولهم تلك المقالةَ الجاهلية؛ لأنَّ المعنى ليس أنَّه لمجردِ كثرتِهم ونموّ أموالهم أَخَذهم بغتةً بل بمجموعِ الأمرين، بل الظاهرُ أنه بقولهم ذلك فقط.
قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } حالٌ، وهي في قوة المؤكدة لأنَّ "بغتة" تفيدُ إفادتَها، سواءً أَعْرَبْنا "بغتة" حالاً أم مصدراً.