وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
(96)
قولُهُ ـ جلَّ شأنُه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقوا} أي لو أنهم آمنوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ النَّبِيُّونَ، وَصَدَّقُوهُمْ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الذِي جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، وَاتَّقَوْا بِأنْ فَعَلوا الطَّاعَاتِ، وَتَركوا المُحَرَّمَاتِ. والمقصود "بالقرى" قيل هي القرى المدلولُ عليها بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مّن نَّبِيٍّ} الآية: 94، السابقة. وقيلَ المقصودُ مَكَّةُ وما حولها، وقيل هي عامَّة شاملةٌ لكلِّ قريةٍ، وهو المرجح عندنا، لأنَّ الجزاءَ الموعودَ به بعد ذلك قاعدةٌ مضطردةٌ شاملةٌ الخلقَ أَجمعين، فقد وَعَدَ ـ سبحانَهُ وتعالى ـ بأنَّه مكافئٌ المؤمنين المتَّقين، بالحياةَ الطَيِّبَةَ في الدنيا، والجزاءِ الأوفى في الآخرة. قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} سورة النحل، الآية: (97).
قولُه: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} أي لأَمْطَرَتِ السَّمَاءُ عَلَيْهِمْ بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَلَفَاضَتِ الأَرْضُ بِالخَيْرَاتِ، وأصلُ البركَةِ المواظبةُ على الشَّيءِ، أي تابعنا عليهم المطرَ، فالمُرادُ بِ "بَرَكَات السَّماءِ" المَطَرُ، وببركات "الأرْضِ" النَّبَاتُ والثَّمَارُ وكَثْرَةُ المواشي والأَمْنُ والسَّلامَةُ، وكذلك كُنوزُها من معادن وثروات مدفونة تُستَنْبَطُ منها الكماليات المرادة في الحياة. وذلك لأنَّ السَّماءَ تجري مجرى الأَبِ، والأرضُ تجري مجرى الأمِّ، ومنهما يَحْصُلُ المَنَافِع، والخَيْرَات بخلق الله تعالى وتدبيره. ولأنَّه ليستِ العِبْرة بالنِّعْمَةِ، إنما العبرةُ بالبرَكَةِ فيها قال: باركنا لهم فيما خوَّلنا، ولم يَقُلْ أضعفنا لهم النعمة. فالبركة أنْ يُعطي الحقُّ ـ سبحانه وتعالى ـ أن تجدَ نفسك هانئاً منعماً فيما يأتيك من رزق قليلاً كان أو كثيراً، فإنَّ الكثيرَ مِنَ الناسَ ينظرون إلى الرزق الإيجابي، ويغفلون عن الرزق السلبي، فربما أعطيت الكثيرَ ولم تسعد به، لكثرة متطلبات الإنفاق في الأمراض والمصائب، رزقت القليلَ لكنَّ اللهَ حماك من المصائب الأمراضِ فأنفقت هذا القليلَ فيما يسعدك.
قيل إنّ في الآية إشكالاً وهو أنه يفهم بحسب الظاهر منها أنه لم يفتح عليهم بركات من السماء والأرض، وفي سورة الأنعام {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْء} الآية: 44. وهو يدل على أنه فتح عليهم بركات من السماء والأرض؛ لأنَّ معنى {أَبْوَابَ كُلّ شَيْء} الخصب والرخاء والصحة والعافية المقابلة ل {أخذناهم بالبأساء والضراء}، وحملُ فتح البركات على إدامته أو زيادته عُدول عن الظاهر وغير ملائم لتفسيرهم الفتح بتيسير الخير ولا المطر والنبات. وأجيب عن هذا بأنه ينبغي أن يراد بالبركات غير الحسنة، أو يراد آمنوا من أول الأمر فنجوا من البأساء والضراء كما هو الظاهر، والمراد في سورة الأنعام بالفتح ما أريد بالحسنة ههنا فلا يتوهم الأشكال. وإنَّ إرادة آمنوا من أول الأمر إلى آخره غير ظاهرة بل الظاهر أنهم لو أنهم آمنوا بعد أن ابتلوا ليسرنا عليهم ما يسرنا مكان ما أصابهم من فنون العقوبات التي بعضها من السماء كأمطار الحجارة وبعضها من الأرض كالرجفة وبهذا ينحل الإشكال لأن آية الأنعام لا تدل على نه فتح لهم هذا الفتح كما هو ظاهر لتاليها، وما ذكر من أن المراد بالفتح هناك ما أريد بالحسنة ههنا إن كان المراد به أن الفتح هناك واقع موقع إعطاء الحسنة بدل السيئة هنا حيث كان ذكر كل منهما بعد ذكر الأخذ بالبأساء والضراء وبعده الأخذ بغتة فربما يكون له وجه لكنه وحده لا يجدي نفعاً، وإن كان المراد به أن مدلول ذلك العام المراد به التكثير هو مدلول الحسنة فلا يخفى ما فيه. وتوضيحاً لذلك نقول، أنّه لمّا قال هنا: "لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ" أي أنَّ ـ سبحانه ـ سوف يجعلهم يعيشون في يسر وبحبوحة وسعادة، بينما يعني قولُه ـ تعالى ـ هناك: {فتحنا عليهم أبواب كلِّ شيء} أنَّ هذا الرزق سيجعلهم أشقياء يلهثون وراءه ليجمعوه لا ليسعدوا به. والله أعلم.
قولُه: {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وَلكِنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، فَعَاقَبَهُمُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ، بِإِهْلاَكِهِمْ عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ المَآثِمِ وَالمَحَارِمِ. فقد بيَّن ـ سبحانَه ـ في الآيات السابقة أنَّ الذين عَصَوا وتَمَرَّدُوا؛ أخذهم بَغْتَةً وهنا يُبَيِّنُ في هذه الآية أنَّهُم لو أطَاعُوا لَفَتَح عليهم أبْوابَ الخيرات.
قولُهُ تعالى: {لفتحنا عليهم} في فتحنا استعارة تَبَعيَّة. ووجهُ الشَبَهِ بين المستعار مِنه والمستعارِ له الذي أشرنا إليه هو سهولةُ التناول، ويجوز أن يكون هناك مجازٌ مُرسَلٌ والعلاقةُ اللزومُ، ويمكن أن يتكلف لتحصيل الاستعارة التمثيلية.
قرأ الجمهور هنا: "لَفَتَحْنا" وقرأ ابنُ عامرٍ: "لَفَتَّحنْا" بالتَّشديد ووافقَهُ عيسى بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ، وأبو عبدِ الرَّحْمنِ السُّلمِيّ.