وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ
(94)
قولُهُ ـ جلَّ مِن قائلٍ: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا …} فيه حذفٌ وإضْمارٌ والتقديرُ: “وما أرسلنا في قريةٍ من نَبِيّ فَكَذَّبُوهُ، أو فكذَّبَه أهْلُهَا، إلاَّ أخذنا أهلها …” حرَّكناهم بالبَلاءِ الأَهْوَنِ تحذيراً مِنَ البلاءِ الأَصْعَبِ، فإنَّه ـ سبحانه ـ يُخْبِرُ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ نَبِيّاً إلى قَوْمٍ لِيَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ أَعْرَضُوا عَنْ قُبُولِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيهِ نَبِيُّهُمْ، إلاَّ ابتلاهُمُ بِإِصَابَة أَبْدَانِهِمْ بِالأَمْرَاضِ وَالأَسْقَامِ، وَابتلاهم بالفَقْرِ وَالحَاجَةِ، لِكَيْ يتوبوا، ويَتَضَرَّعُوا إلى الله تَعَالَى، ويسألوهُ كَشفَ الضُرِّ عَنْهُمْ ومَا نَزَلَ بِهِمْ بَأْسَاء. والبَأسَاءُ: البؤسُ، وضيقُ العيشِ، والشِّدَّةُ والفَقْرُ. والضراء: الضرُّ، وسوءُ الحالِ، وما ينالهم مِنَ الأمْرَاضِ، وقيل: العكسُ.
وقيلَ: البَأسَاءُ في المال، والضَّرَّاءُ في النَّفْسِ. وقيل: البَأسَاءُ: في الحزن، والضَّرَّاءُ: في الجدب.
وذكر القريةَ؛ لأنَّهَا مجتمع القوم، ويَدْخُلُ تحت هذه اللَّفْظَةِ المدينة؛ لأنَّهَا مجتمع الأقْوَامِ.
قولُهُ تعالى: {وما أرسلنا في قريةٍ من نبيٍّ} عطفت هذه الواوُ جملةَ “ما أرسلنا” على جملة {وإلى مدين أخاهم شعيباً} عطفَ الأَعَمِّ على الأَخَصِّ لأنَّ ما ذُكِرَ مِنَ القَصَصِ ابْتَداءً مِنْ قولهِ تعالى: {لقد أرسلنا نوحاً إلى قومِهِ} كلِّه، القصدُ منهُ العبرةُ بالأُمَمِ الخالِيةِ مَوْعِظَةً لِلكفَّارِ، فبعد أن تَلا عَلَيْهم قِصَصَ خمسِ أُمَمٍ جاءَ الآنَ بحكمٍ كُلّيٍ يَعُمُّ سائرَ الأُمَمِ المُكَذِّبةِ على طريقةِ قياسِ التَمثيلِ أوْ قياسِ الاسْتِقراءِ الناقِصِ، وهو أَشْهَرُ قياسٍ يُسْلَكُ في مقامِ الخطابِ، وهذه الجُمَلُ إلى قولِهِ: {ثم بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهم مُوسى} كالمُعْتَرِضَةِ بَينَ القِصَصِ للموعظةِ، وهو المقصودُ من تلك القصص، فهو اعْتِراضٌ ببيانِ المَقْصودِ مِنَ الكَلامِ
وهذا كثيرُ الوُقوعِ في اعْتِراضِ الكَلامِ.
وعُدِّيَ “أرسلنا” ب “في” دون “إلى” لأنَّ المُرادَ بالقريةِ حَقيقَتُها وهيَ لا يُرْسَلُ إليْها، وإنما يُرْسَلُ إلى أَهْلها المقيمين فيها، فالتَقديرُ: “وما أرسلنا في قريةٍ من نَبيّ إلى أهلِها إلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها”.
قولُهُ: {إلاَّ أخَذْنَا} استثناءٌ مفرَّغٌ من أَعَمِّ الأَحوالِ، أي ما أَرْسلْنا نَبيّاً في قريةٍ في حالٍ مِنَ الأَحْوالِ إلاَّ في حالِ أَنَّنا أَخَذْنا أَهْلَها بالبأساءِ. و “أخَذْنَا” في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من فاعل “أرسلنا“، والتَّقديرُ: وما أرْسَلْنَا إلاَّ آخذين أهلها …، والأخْذُ: هنا مجازٌ في التَنَاوُلِ والإصابَةِ بالمَكروهِ الذي لا يُسْتَطاعُ دَفْعُهُ، وهو معنى الغَلَبَةِ. والفِعْلُ الماضي لا يقعُ بعد “إلاَّ” إلاَّ إذا تَقدَّم فعلٌ كهذه الآية، أو سبق ب “قَدْ” نحو: ما زيدٌ إلاَّ قد قَامَ، فلو فُقِد الشَّرْطان امتَنَع فلا يجوزُ: ما زيد إلاَّ قام. وقد كَثُرَ، نحو: ما لَقيتُهُ إلا أَكْرَمَني، لأنَّ دخولَ إلاَّ ـ في الأَغلَبِ الأَكْثَرِ ـ على الاسمِ، فهو بتأويلِ: إلاّ مُكرِّماً لي، فَصارَ كالمُضارِعِ المُثْبَتِ، وما في هذه الآيةِ مِنْ هذا القَبيلِ، وقد يجيءُ مَعَ الواوِ، وقد، نحوَ: ما لَقيتُه إلاَّ وَقَدْ أكَرَمَني، ومعَ الواوِ وحدَها، نحو: ما لَقيتُه إلاَّ وأَكرمني، لأنَّ الواوَ مَعَ إلاَّ تَدْخُلُ في خَبرِ المُبتَدَأِ، فكيفَ بالحالِ، ولم يُسْمَعْ فيه “قدْ” مِنْ دون “الواو”، وقال المرادي في “شرح ألفيّةِ ابنِ مالكٍ” إنَّ الحالَ المُصدَّرَةَ بالماضي المُثْبَتِ إذا كان تالياً ل “إلا” يَلزمُها الضَميرُ، والخُلُوُّ مِنَ الواوِ، ويمتَنِعُ دخولُ “قد” أما قول الشاعر الجاهلي قيسٌ بنُ الخَطيمِ بنِ عَدِيٍّ الأَوْسِيّ:
متى يأتِ هذا الموتُ لم تُلْفَ حاجةٌ …… لِنفسيَ إلاَّ قد قضيتُ قضاءَها
فهو نادرٌ، والظاهرُ أن امتناع “قد” بعد “إلا” فيما ذُكِرَ إذا كان الماضي حالاً لا مُطْلَقاً. وإلاَّ فقد ذَكَرَ الشِهابُ أنَّ الفِعلَ الماضي لا يَقَعُ بعدَ “إلاَّ” إلاَّ بأحَدِ الشرطين المتقدِّمين.