الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ
(92)
قولهُ عَزَّ مِن قائل: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} غَنيَ بالمكان يَغْنَى به غِنًى وغُنِيًّا، إذا أقام به، وعاش في بحبوحة ونعمة ورغدٍ فيه، فهو أخصُّ من مُطْلق الإِقامة. قال الأسودُ بْنُ يَعْفُر:
ولقد غَنَوا فيها بأنعمِ عيشةٍ ……………. في ظلِّ مَلْكٍ ثابتِ الأوتادِ
وغَنِي بالمكان يَغْنى فيه أي: أقام دهراً طويلاً مستغنياً به عن غيره. قال ابنُ قتيبةَ: “كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا“: كأنْ لم يُقيموا فيها، وقال الأخفش: كأنْ لم يَعيشوا فيها، وقال قتادةُ: كأنْ لم يَنعَموا فيها، وقال ابنُ عباس: كأن لم يُعَمَّروا فيها. وفي هذا بَيانٌ للعَاقِبَةِ التِي صَارَ إِلَيْهَا قَوْمُ شُعَيبٍ، فَقَدْ هَلَكَ الذِينَ كَذَّبُوه، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُم أَحَدٌ، وَكَأنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا فِي دِيَارِهِمْ، فقد خَسِرُوا الدُّنْيا وَالآخِرَةَ، فـ “لَمْ يَغْنَوْا فِيها” لَم يُقِيمُوا فيها آمنين نَاعِمِينَ بخيراتها. كأنه قيل: إنَّ الهلاك والاستئصال محصورٌ بالذين كذبوا شعيباً فهُمُ المخصوصونَ به، كأن لم يقيموا في دارهم؛ لأنّ الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله، والذين كذبوه هُمُ المخصوصون بالخسران العظيم، دون أتباعِهِ فإنهمُ الرابحون. وهذا يدلُّ على أنَّ ذلك العذاب إنما حَدَثَ بخلق فاعلٍ مختارٍ لا بتأثير الكواكب والطبيعةِ، وإلاَّ لحصلَ للمؤمنين بنبيِّ اللهِ شُعيب ما حصل للكافرين به، كما تدل على أن ذلك الفاعلَ المختارَ عالم بجميعِ الجُزئيّاتِ حتى يمكن التمييزُ بين المُطيعِ والعاصي. وهي أيضاً معجزةٌ عظيمة لشُعيبَ – عليه السلام – لأنَّه لما وقع العذابُ النازلُ مِنَ السماءِ على قوم دون قومٍ معَ كونهم مجموعين في بلدةٍ واحدةٍ كان ذلك من أعظم المعجزات.
لقد شبّه – تعالى – حال هؤلاء المكذبين بحال مَن لم يكن قطُّ في تلكَ الديارِ، قال عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي، وهو آخر ملوك جرهم بمكة، لما أخرجتهم خزاعة وأجلوهم إلى اليمن: (الطويل)
كأن لم يَكُنْ بَيْنَ الحَجون إلى الصفا …….. أنيسٌ ولم يَسْمُرْ بمكَّةَ سامرُ
والبيتُ من قصيدة له قيل هي أول ما قال من شعر وهي:
وقائلةٍ والدمعُ سكبٌ مبادرُ ……….. وقد شَرَقتْ بالماءِ منها المحاجرُ
وقد أبصرت حِمَّان من بعد أهلها ….. ومنها المغاني موحشاتٌ دواثرُ
كأن لم يكنْ بين الحجون إلى الصفا ……. أنيسٌ ولم يسمُرْ بمكَّةَ سامرُ
ولم يتربعْ واسِطاً وجنوبهُ ………. إلى السر من وادي الأراكةِ حاضرُ
فقلتُ لها والقلب منِّي كأنَّما ……………. تحمَّله بين الجناحين طائرُ
بلى نحنُ كنَّا أهلها وأبادَنا ………… صروفُ الليالي والجدودُ العواثرُ
ولم تُبق منّا طاهريَّاً مؤمَّراً ……….. رئيساً، وأعلى ساسة الملك طاهرُ
أرقت وما ليلُ المُضامِ بنائمٍ ……….. وقد ترقد العينان والقلب ساهرُ
فيا نفس لا تفني أسًى واذكري أساً ….. ليوشكُ يوماً أن تدور الدوائرُ
قولُه: {الَّذِينَ كَذَّبُوْا شُعَيْباً كَانُواْ هَمُ الخَاسِرِينَ} قال ابنُ عباسٍ ـ رضي اللهُ تعالى عنهما ـ هُمُ الخاسرون بالهلاك، وقيلَ: هُمُ الخاسرون بالكفر. فقد أعاد القرآن الموصول وصلته لزيادة التقرير، وللإيذان بأن ما ذكر في حيز الصلة هو الذى استوجب العقوبتين فقال: “الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين” وفي هذا الاستئناف وهذا التكريرِ اسْتعظامٌ لما جَرى عَليهم، ومبالغةٌ في رَدِّ مقالَةِ الملإِ لأشياعهم، وتسفيهٌ لرأيهم، واستهزاءٌ بنصحهم لِقومِهم، فالعرب تكرِّرُ مثلَ هذا في التعظيم والتفخيم، فيقول الرجل لغيره: “أَخوكَ الذي ظلَمنا، أَخوك الذي أخذَ أَمْوالَنا، أخوك الذي .. إلخ.
قولُهُ تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} الاسم الموصول “الذين” مبتدأ، وخبره جملة “كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا“، وهذا الابتداءَ يُفيدُ معنى الاخْتِصاصِ أو الحَصرِ، هذا وجهٌ. ووجه ثانٍ: أَنّ الخبرَ هو الموصولُ الثاني وخبرُه، فإنه مبتدأٌ، وجملةُ “كَانُواْ هُمُ الخاسرين” في محلِّ رَفْعٍ خبراً له، وهو وخبرهُ خبرُ الأوَّلِ، و “كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ” إمَّا اعتراضٌ وإمَّا حالٌ من فاعل “كذَّبوا“. ويجوز أنْ يكونَ الموصولُ الثاني خبراً بعدَ خبرٍ عَنِ الموصولِ الأوَّلِ، والخبرُ الأولُ
الجملةُ التشبيهية كما تقدَّم. وأن يكونَ الموصولُ بدلاً مِنْ قولِه قبل ذلك في الآية: 90. {الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} وجهٌ رابعٌ فكأنما قال: “وقال الملأُ الذين كفروا منهم الذين كذَّبوا شُعَيْباً”. وعليه فقوله: {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً} معمولٌ للقول فليس بأجنبي. ووجهٌ خامسٌ: أَنَّهُ صفةٌ لَهُ أي: للذين كفروا مِنْ قومه. قاله أبو البقاء. والأحسنُ أنْ يُقالَ: بدلٌ من الملأ أو نعتٌ له، لأنَّه هو المحدِّثُ عنه والموصولُ صفةٌ له، والجملةُ التشبيهيةُ على هذين الوجهين حالٌ من فاعل “كذَّبوا“.
قولُه: {الَّذِينَ كَذَّبُوْا شُعَيْباً كَانُواْ هَمُ الخَاسِرِينَ} تقدَّم أنَّه يجوزُ أن يكونَ الموصول الثاني “الذين” خبراً باعتبارين, أعني كونَه أولَ أو ثانياً، ويجوز أن يكونَ بدلاً من فاعل “يَغْنَوا” أو منصوباً بإضمار “أعني” أو مبتدأ وما بعده الخبر. وهذا هو الظاهر لتكونَ كلُّ جملة مستقلةً بنفسها.