وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
(86)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ} الصِراطُ: السبيلُ أوِ الطَريقُ، قال الشاعر عُبيدٌ بْنُ الأَبْرَصِ:
شَحَنَّا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى ................. تَرَكْنَاهُمْ أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ
ونسِب هذا البيتُ لعامرٍ بنِ الطفيل أيضاً. والصِراطُ مُشْتَقٌّ من "السَّرْطِ" وهو: الابتِلاَع؛ إِمَّا لأنَّ سالكَهُ يَسْتَرِطُه, أَوْ لأنَّهُ يَسْتَرِطُ سَالِكَه؛ أَلا تَرى إلى قولِهم: قَتَلَ أَرْضَاً عَالِمُهَا، وقَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلُها؛ وبهذَيْن الاعتباريْن قال أبو تَمَّام:
رَعَتْهُ الْفَيَافي بَعْدَ مَا كَانَ حِقْبَةً ......... رَعَاهَا وَمَاءُ المُزْنِ يَنْهَلُ سَاكِبُهْ
وعلى هذا سُمِّيَ الطريقُ لَقَماً ومُلْتَقِماً؛ لأنَّه يلتقِمُ سالِكَه, أو يلتقمُهُ سالِكُه. وأَصْلُهُ: السّين، وإنَّما أُبْدِلَتْ صَاداً، لأَجْلِ حَرْفِ الاسْتِعْلاَءِ، وإبْدالُها صاداً مُطَّرِدٌ، نحوَ: "صَقَر" في "سَقَر"، و"صَلَخ" في "سَلَخ"، و"أَصْبغ" في "أَسْبَغ"، و"مُصَيْطر" في "مُسَيْطر" لما بينهما من التَّقارب. ولمْ تُرْسَمْ في المُصَحَفِ إلا بالصَّادِ، مَعَ اخْتِلافٍ في قِراءَتِهم فيها.
و"الصِّراطَ" يُذْكَرُ ويُؤَنَّثُ: فالتذكيرُ لُغَة تَميم, والتَّأنيثُ لغةُ "الحِجَازِ"، فإِنِ اسْتُعمِلَ مُذكَّراً، جُمِعَ على "أَفْعِلَة" في القلّةِ، وعلى "فُعُل" في الكَثْرَةِ، نحو: "حِمَارِ"، و"أَحْمِرَة" و"حُمُر". وإِنِ اسْتُعْمِلَ مُؤَنَّثاً، فقياسُه أَنْ يُجْمَعَ على "اَفْعُل"، نحوَ: "ذِرَاع" و"أذْرُع".
و"المُسْتَقيمَ" اسمُ فَاعِلِ مِنِ اسْتَقامَ, بمَعْنى المُجَرّدِ، ومعناه: السَّوِيِّ مِنْ غَيْرِ اعْوِجَاج، واَصْلُهُ: "مُسْتَقْومٌ" ثُم أُعِلَّ كإعْلالِ "نَسْتَعِيْن"
والحَقُّ ـ سبحانَهُ وتعالى ـ يَنْهى عَنِ القُعودِ بِكُلِّ صِراٍط؛ لأنَّ الصِراطَ سَبيلٌ، واللهُ يَجمَعُ السُبُلَ لِيَنْهى عَنْها، وللحقِّ صِراطٌ مَسْتَقيمٌ واحِدٌ، وسَبيلٌ واحدٌ يأمُرنا أَنْ نَتَّبِعَهُ فيقول في سورة الأنعام: {وأنْ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبِعوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} الآية: 153. فسبيلُ الاسْتِقامَةِ واحدٌ، وهو الذي توعَّدَ الشَيطانُ بأنْ يَقْعُدَ لِيَحْرِفَنا عَنْه حين قالَ مخاطباً ربَّه ـ سبحانَه وتعالى: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقيمَ} سورةُ الأعراف: 16. أَمَّا الشَيْطانُ فَلَهُ سُبُل مُتَعدِّدةٌ لأنَّ طُرُقَ الغوايات متعددة، كطريقِ الغوايةِ بالمالَ، وطريق الغوايةِ بالمَرْأةِ، والغوايةِ بالجاهِ. فالغِواياتُ مُتَعَدِّدَةٌ متنوعَةٌ وكذلك طرقُها. أمَّا طريقُ الهدايَةِ التي يَدْعُو إليها كلُّ رَسُولٍ فهي واحدةٌ شائعةٌ في كلِّ ما حَوْلَه؛ فمَنْ يَأْتيها سَيَجِدُ مَنْ يَصُدَّهُ عنها. ومنْ يَطْلُبها سَيَلْقى التَهديدَ والوَعيدَ والإغوء عنها، والمَنْعَ عَنْ سَبيلِ الحَقِّ. ولماذا يَفْعلونَ ذلك؟ تأتي الإجابةُ مِنَ اللهِ ـ تبارك وتعالى: "وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً". فهم يريدونَ طرقاً معوجةً ولا يريدون الطريق المستقيم الموصِلَ إلى الحقِّ، فهي مهمَّةُ إبليس وجندِه ـ أخزاهُ الله وإيّاهم.
قولُه: {تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ} أيْ: "تُوعِدونَ" مَنْ لَا حُكْمَ لَكُمْ عَلَيْهِ ولا سَلْطان، وَ"تَصُدُّونَ" مَنْ يتبعُ لكم ويَنقادُ ويُطيعُ أَمْرَكم. جاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وعن مَجاهد ـ رضي اللهُ عنهم: أَيْ تَتَوَعَّدُونَ الْمُؤْمِنِينَ الْآتِينَ إِلَى شُعَيْبٍ لِيَتَّبِعُوهُ. وقَالَ السدّيُّ، أَيْ: تَتَوَعَّدون النَّاسَ بِالْقَتْلِ إِنْ لَمْ يُعْطُوكُمْ أَمْوَالَهُمْ. لأنَّهم كانوا عَشَّارين. فإنَّ شُعَيْباً ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ نهَاهُمْ عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ. وهَذَا هو الْأَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ دَعْوَتِهِ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلنَّاسِ دُونَ الْإِيمَانِ، بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَمَا يَتَطَلَّبُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَذَلِكَ لصَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ، فالمعنى: أَصْلِحُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَمْنَعُوا مَنْ يَرْغَبُ فِي إِصْلَاحِ نَفْسِهِ. وذَلِكَ لأَنَّهُمْ كَانُوا يَصُدُّونَ وُفُودَ النَّاسِ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي كَانَ بِهَا لِئَلَّا يُؤْمِنُوا بِهِ. فَالْمُرَادُ بِالصِّرَاطِ الطَّرِيقِ الْمُوصِلَةِ إِلَى لِقَائهِ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْقُعُودُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ لَازِمَهِ وَهُوَ الْمُلَازَمَةُ وَالِاسْتِقْرَارُ، فقد ذُكِرَ أَنَّ قومَ شعيبٍ ـ عليه السلامُ ـ كانوا يَجْلِسونَ على الطُرُقاتِ، ويُخَوِّفون مَنْ يُريدُ أَنْ يُؤمِنَ باللهِ وبِرَسُولِهِ شعيب، ويَمنعونَهم، ويقولون لهم إنَّ شُعيباً كاذبٌ، ويُخَوِّفُونَهُم بالقَتْلِ إنْ هُمْ آمَنَوا بِشُعَيْب واتَّبَعَوهُ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: كانوا يَجْلسون على الطريق فيُخْبِرون مَنْ أَتى عليهم أَنَّ شُعَيْباً الذي تُريدونَهُ كَذَّابٌ فلا يَفْتِنكم عَنْ دِينِكم. وقيل: "وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله" أيْ: تصُدّنَ عن الطَريقِ المُوصِلَةِ إليْهِ ـ سبحانَه ـ وهي الإيمانُ، فهو السَبيلُ الذي قَعَدوا عليه فَوَضَعَ المُظْهَرَ مَوْضِعَ المُضْمَرِ بَياناً لِكُلِّ صِراطٍ، ودَلالةً على عِظَمِ ما يَصدونَ عَنْهُ، وتَقْبيحاً لِما كانوا عَلَيْه.
قولُهُ: {وَتَبْغُونَها عِوَجاً} وهذا إخبارٌ فيهِ مَعْنى التَوْبيخِ، وقَدْ يَكونُ تَهَكُّماً بِهم، حيثُ طَلَبوا ما هُوَ مُحالٌ، إذْ طَريقُ الحَقِّ لا يَعْوَجُّ، كأنَّهُ قيلَ: ما كَفاكُم أَنَّكم تُوعِدون الناسَ على مُتابَعَةِ الحَقِّ وتَصُدونَهم عنْ سبيلِ اللهِ تعالى حتَّى تَصِفونَه بالاعْوِجاجِ لِيَكونَ الصَدُّ بالبُرْهانِ والدَليلِ. والمعنى إنَّهم يَبْغونَ ويَوَدُّون شَريعةَ اللهِ مِعْوَجَّةً ومائلةً عَنِ الاسْتِقامَةِ لِيَستَفيدوا هُمْ مِنِ اعْوِجاجِها. أَوْ المَعْنى أَنَّهم يَصِفُونَ شريعةَ اللهِ بأَنَّها معوجةٌ وغيرُ مُستقيمةٍ، لِيَصُدوا النّاسَ عنِ الدُخولِ فيها، ولِيُنَفِّرونهم مِنها. وقيلَ بأَنَّ المعنى: تَبْتَغونَ عِوَجاً لِمَنْ يُطالِبُكم بالدَليلِ، وتَعلمونَ أَنَّ لَهُ نَظَراً واعتِباراً وتَأَمُّلاً، وهُو إشارةٌ إلى اخْتِلافِ حالِهم باعْتِبارِ مَنْ يَصُدُّونَه، فمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ ولا فِطْنَة، يَكْتَفونَ فيهِ بالصَدِّ والتَوَعُّدِ، ومَنْ لَهُ بَعْضُ علمٍ وممارسةٍ يُظْهِرونَ لَهُ اعْوجاجاً. و جاءَ عَنْ أَبي هُريْرَةَ وعنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّه يُرادُ بِتَبْغونَها عِوَجاً عَيْشُهمْ في الأَرْضِ، واعْوِجاجُ الطَريقِ عِبارةٌ عَنْ فَواتِ أَمْنِها.
قَوْلُهُ: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} أَيْ كَثَّرَ عَدَدَكُمْ بالبَرَكَةِ في النَّسْلِ، كما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما. وحُكِيَ أَنَّ مَدْيَنَ بْنَ إبْراهيمَ تَزَوَّجَ بِنْتَ لُوطٍ فَوَلَدتْ، فرَمى اللهُ تَعالى في نَسِلِها البَرَكَةَ والنَّماءَ فَكَثُروا وفَشَوا. أَوْ كَثَّرَكُمْ بِالْغِنَى بَعْدَ الْفَقْرِ، أَيْ كُنْتُمْ فُقَرَاءَ فَأَغْنَاكُمْ، وكَثَّرَكم بالقُوَّةِ بَعْدَ الضَعْفِ، ووجْهُ ذَلكَ أَنَّهم إذا كانوا فُقَراءَ ضُعَفاءَ فهُم بِمَنْزِلَةِ القَليلِ، والمعنى إنَّهُ كَثَّرَكم بَعدَ القِلَّةِ، وأَعَزَّكم بَعْدَ الذِّلَّةِ.
قولُهُ: {وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي: انظروا نَظَرَ اعتبارٍ كيف كانت آخِرَةُ أَمْرِ مَنْ كان قبلكم من الأمم فأَفْسَدَ، كقومِ نُوحٍ وعادٍ وثَمودَ، فاعْتَبِروا بِهم وبما انتهى إليه أمرهم، حيث أهلَكهمُ اللهُ تعالى، فلم يبقَ منهم إلاَّ الأثرُ والذكرُ السيِّءُ، لكنّهم لم يعتبروا، ولم يتّعظوا، فأصابهم ما أصاب الأممَ قبلهم من عذابٍ وهلاكٍ، وكذلك هو شأنُ أكثر الناسِ في كلِّ عصرٍ وأوانٍ، فإنَّ القليلَ منهم هُمُ الذي يتذكَّرُ ويتفَكّرُ ويَعتبرُ، وقد قيل: والعاقلُ منِ اعتبرَ بغيره.
قولُهُ تعالى: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ} و: حرفُ عطفٍ، "لا" ناهيةٌ جازمة، "تقعدوا" فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ بـ "لا" الناهية، وعلامة جزمه حذفُ النونِ مِنَ آخرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، والواو الدالّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والألفُ للتفريق بين واو الجماعة والواو التي من أصلِ الكلمة. "بكل" الباء: حرفُ جَرٍّ والباءُ للإلْصاقِ، أو للظَرفيَّةِ، وَ"كُلِّ" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُتَعلِّقٌ بـ "تَقْعُدوا" وهو مضافٌ. ويَجوزُ أَنْ تَكونَ الباءُ للمُصاحَبَةِ فيتعلَّقَ المجرورُ بمحذوفِ حالٍ مِنَ الفاعِلِ، والتقدير: مُتَلَبِّسين بِكُلِّ صِراطٍ، و"صراطٍ" مُضافٌ إليهِ مَجْرورٌ. وهذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ جَزْمٍ عطفاً على جُمْلَةِ لا تُفْسِدوا.
قولُهُ: {تُوعِدُونَ} فعلٌ مُضارعٌ مَرفوعٌ، وعلامَةُ رفعِهِ ثُبوتُ النُونِ في آخرِهِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعِلٌ، وهذه الجُملةُ في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ مِنْ فاعِلِ "تَقْعُدوا". أي: لا تقعدوا مُوْعِدين. ولم يُذْكَرِ المُوْعَدُ بِهِ لِتَذْهَبَ النَّفُسُ في تصوُّره كلَّ مَذْهَبِ.
قولُه: {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ} و: حرفُ عطفٍ،
"تصدون" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النونِ في آخره لأنّهُ من الأفعال الخمسةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ لـ "تَصُدّون". "عَنْ" حرفُ جرٍّ، "سبيلِ" مجرور بحرف الجرِّ متعلِّقٌ بـ "تصدّون"، وهو مضافٌ، و"اللهِ" لَفظُ الجَلالَةِ مُضافٌ إليْهِ. "مَنْ" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ على السكونِ فِي مَحَلِّ نَصْبِ مَفٍعولٍ بِهِ لـ "تصدون"، لا مفعول "توعدون" إذْ لو كانَ مَفعولاً للأوَّلِ لَقالَ: "تَصُدُّونهم". يعني أنَّه لو كان كذلك لكانتِ المَسْألةُ مِنَ التَنازُعِ، وإذا كانتْ مِنَ التَنازُعِ وأَعْمَلْتَ الأوَّلَ لأَضْمرْتَ في الثاني فقلتَ: تَصُدُّونهم، لكنه ليس القرآنُ كذا، فدلَّ على أَنَّ "توعدون" ليسَ عامِلاً فيه، وهذا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكونَ المَسأَلَةُ مِنَ التَنازُعِ ويكون ذلك على إعمال الثاني، وهو مُخْتارُ البَصْريّين، وحذف مِنَ الأوَّلِ وأَلاَّ تكونَ وهوَ الظاهر. وقال: الزمخشريُّ فإنْ قلتَ: إلامَ يَرْجِعُ الضميرُ في "مَنْ آمن به"؟ قلتُ: إلى كلِّ صِراطٍ، تقديرُه: تُوْعِدون مَنْ آمَنَ بِهِ وتَصُدُّون عَنْهُ، فوضعَ الظاهِرَ الذي هوَ "سبيلُ اللهِ" مَوْضِعَ المُضْمَرِ زَيادَةً في تَقبيحِ أَمْرِهِمْ. وظاهرُ كلامِهِ أَنَّها مِنَ التَنازُعِ، وأَنَّهُ مِنْ إعْمالِ الأوَّلِ.
قال الشيخ أبو حيّانٍ التوحيديُّ: وهذا تعسُّفٌ وتَكَلُّفٌ مَعَ عَدَمِ الاحتياجِ إلى تقديمٍ وتأخيرٍ ووضْعِ ظاهرٍ موضعَ مُضمَرٍ، إذِ الأَصْلُ خلافُ ذلك كلِّه، ولا ضرورةَ تدعو إليه، وأيْضاً فإنَّهُ مِنْ إعْمالِ الأَوَّلِ وهوَ مَذْهَبٌ مَرْجوحٌ، ولو كان مِنْ إعْمالِ الأَوَّلِ لأُضْمِرَ في الثاني وُجُوباً، ولا يجوزُ حَذْفُهُ إلاَّ في ضَرورةِ شعرٍ عِنْدَ بَعْضِهم كقولِ عاتكةَ
بِنْتِ عبدِ المُطَّلِبِ، تَصِفُ سِلاحَ قومِها:
بعكاظَ يُعْشي الناظِرِيْ ...................... نَ إذا هُمُ لَمَحُوا شعاعُهْ
وقبلَهُ قَوْلُها:
سائِلْ بنا في قومنا ........................... وليَكْفِ من شر سماعُهْ
قيسًا، وما جمعوا لنا .......................... في مجمع باقٍ شناعُهْ
فيه السنوَّر والقنا .............................. والكبش ملتمع قناعُهْ
فأُعْمِلَ "يُعْشي" ورُفِعَ بِهِ "شُعاعُه" وحُذِفَ الضَميرَ مِنْ "لَمَحوا" تقديرُه: لَمَحوهُ. وأَجازَهُ بعضُهم بِقِلَّةٍ في غيرِ الشِعرِ. "آمن" فِعلٌ ماضٍ، والفاعلُ هو وهو العائد. "بِهِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ لِلْإِلْصَاقِ، أَوْ هِيَ بِمَعْنَى "فِي" كَشَأْنِهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى أَسْمَاءِ الْمَنَازِلِ. كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: بِسِقْطِ اللِّوَى الْبَيْتَ. والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "آمن"، والضميرُ في "به": إمَّا يعودُ على كُلِّ صِراطٍ، وإمَّا يعودُ على اللهِ للعِلْمِ بِهِ، وإمَّا يعودُ على سبيلِ اللهِ، وجازَ ذلك لأنَّه يُذَكَّرُ ويُؤنَّثُ، وعلى هذا فقد جَمَعَ بينَ الاسْتِعْماليْن هُنا حيثُ قالَ "به" فَذَكَّرَ، وقال: "وتَبْغُونها عِوَجاً" فأنَّثَ، ومثلُهُ قولُهُ تعالى: {قُلْ هذِهِ سبيلي} سورة يُوسُف، الآية: 108. وقد تقدَّمَ نَحْوُ قولِهِ: "تَبْغونها عِوَجاً" في سورة آلِ عُمرانَ فأَغْنى عَنْ إعادتِهِ. وَهذه الجُمْلَةُ: في محلِّ نصبِ حَالٍ من فاعل "تقعدوا" أي: لا تقعدوا مُوْعِدين وصادِّين.
قولُه: {وَتَبْغُونَها عِوَجاً} و: حرفُ عطفٍ، "تبغون" مثلُ "تُوعدون" والهاء: ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولٍ به، "عوجاً" مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحَالِ أي: مُعْوَجَّةً، مَنْصوبٌ وعلامة نصبِهِ ظاهرة على آخره. وهذه الجملةُ في مَحلِّ نَصْبٍ عطفاً على جُمْلَةِ "تُوعِدون". أي: لا تقعدوا مُوْعِدين وصادِّين وباغين.
قولُه: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} و: عاطفة، "اذكروا" فعلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على حذفِ النونِ من آخرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ في محلِّ رفعِ فاعلِه، والألفُ فارقة. "إذ" ظَرْفٌ مَبْنِيٌّ في مَحَلِّ نَصْبٍ على الظَرْفِيَّةِ مُتَعلِّقٌ بِمَحذوفٍ هوَ مَفعولُ به للفعلِ "اذكروا" أَيْ اذْكُروا نِعْمَةَ اللهِ في هذا الوَقْتِ، ويَجوزُ نَصْبُ "إِذْ" على أَنَّهُ هُوَ المَفعولُ بِهِ حيثُ يَقَعُ الذِكْرُ على الوَقتِ الذي يتَحَدَّثُ عَنْه. "كنتم" فِعْلٌ ماضٍ ناسِخٌ مَبْنِيٌّ على السُكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ، والتاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ في مَحَلِّ رَفْعِ اسْمِها، والميمُ: علامةُ جمعِ المُذكَّر. "قليلاً" خَبرُها منصوب، "فكثَّرَكم" الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ، "كَثَّرَ" فعلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهر، والفاعلُ ضميرٌ مستترٌ جوازاً تقديرُه "هو" يعودُ عليهِ تعالى، والكافُ ضَميرٌ مَفعولٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولٍ بِهِ، والميم: للمذكّر. وجملةُ "اذكروا" في مَحَلِّ جَزْمٍ عطفاً على جُملةِ "لا تقعدوا". وجملةُ "كنتم قليلا" في مَحَلِّ جَرٍّ بإضافةِ "إذ" إليها. وجُمْلةُ "كثّركم" في مَحَلِّ جَرٍّ عطفاً على جُمْلَةِ "كُنْتُم قليلاً".
قولُهُ: {وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} و: عاطفة، "انظروا" فعلُ أمرٍ مبنيٌّ على حذفِ النونِ من آخره لأنه من الأفعال الخمسة، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والألفُ فارقة. "كيف" اسْمُ اسْتِفْهامٍ مَبْنِيٌّ في مَحَلِّ نَصْبِ خَبَرٍ مقدَّمٍ لـ "كان"، وهي وما في َحَيِّزِها مُعَلِّقَةٌ للنَظَرِ عَنِ العَمَلِ، فهي وما بَعدَها في مَحَلِّ نَصْبٍ على إسقاطِ الخافَضِ. والنَّظرُ هُنا التَفَكُّرُ، و"كيف" خَبَرُ كان، واجبُ التَقديم. و"كان" فعلٌ ماضٍ ناسخ. "عاقبة" اسْمُ كانَ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رفعهِ ظاهرةٌ على آخره، وهو مضافٌ. و"المفسدين" مُضافٌ إليْهِ مَجْرورٌ وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّه جمعٌ مذكَّرٌ سالمٌ والنونُ عِوَضاً عن التنوين في الاسْمِ المُفردِ.. وجملة "انظروا" في محلِّ جزمٍ عطفاً على جُمْلَةِ "اذْكُروا". وجملة "كان عاقبة" في مَحَلِّ نَصْبِ مَفعولٍ بِهِ لِفِعْلِ "انْظُرْ" المعلَّقِ بالاسْتِفهامِ "كيف".
وقد قرأ الجمهورُ: "الصراطَ" بالصادِ وقَرَأَ قُنْبُل ـ رحمه الله تعالى: "سِراط" بالسين على الأصلِ حيثُ وَرَدَ، وقدْ تُشَمُّ الصَادُ في "الصِّرَاطِ" ونحوه زَاياً وبه قَرَأَ خَلَفٌ، وحَمْزَةُ حَيْثُ وَرَدَ، وقرأَ خَلاَّد: الأَوَّلَ فَقَط. وقدْ تُقْرأُ زاياً مَحْضَةً.