وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ
(84)
قولُهُ ـ جلَّ شَأْنُهُ: {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً} أَمْطَرْنا، أَيْ: أنْزَلْنا مِنَ
السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ مَا يُشْبِهُ الْمَطَرَ، وَلَيْسَ بِالمَطَرِ، إنَّما هُوَ حِجارةٌ للعَذابِ الموعودِ، والعقوبةِ التي حذّركم منها نبيّهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى في سُورةِ هُودٍ: {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} الآية: 82. ولَكِنَّها لَمَّا كانَتْ كَثيرةً جِدَّاً تُشْبِهُ المَطَرَ في غَزارَتِهِ قال: "أَمْطَرْنا". وأَيْضاً لِتَساقُطِها عَلَيْهم مِنَ السَماءِ كما تَتَساقَطُ ـ في العادةِ ـ قَطَراتُ الماءِ. جاءَ في بَعْضِ الآثارِ أَنَّ عذابهم هذا كان خسفاً بالمُقيمين مِنْهم، وأُمْطِرَتِ الحِجارةُ على مُسافريهم وشُذاذِهِم، حتَّى أَنَّ تأجراً مِنْهم كان في الحَرَمِ، فَوَقَفَتْ لَهْ حَجَرٌ أَرْبَعين يَوْماً حتَّى قَضى تِجارَتَهُ وخَرَجَ مِنَ الحَرَمِ فَوَقَعَ عليْهِ فقتله. و"مطراً" اسْمٌ جامِدٌ لِماءِ السَّحابِ، وهو على وزنِ المَصْدَرِ، ولكنْ قُصِدَ بِهِ اسْمُ الذاتِ، ووزنُه "فَعَلَ" بفتحتين. وفَرَّقَوا بيْنَ "مَطَرَ" الثلاثيِّ و"أَمْطَرَ" الرباعيِّ بأنَّ الثُلاثيَّ في الرَحْمةِ والرُّباعيَّ في العَذابِ، وهذا مَردودٌ بِقولِهِ تَعالى في سورة الأحقافِ: {وقالوا: هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} الآية: 24. فإنَّهم إنَّما عَنَوْا بِذَلِكَ الرَّحْمَةَ، وهو مِنْ أَمْطَرَ الرُباعيِّ. ومَطَر وأَمْطَر بِمَعنًى واحدٍ يَتَعَدَّيانِ لفعلٍ واحدٍ، يُقالُ: مَطَرَتْهُمُ السَّماءُ وأَمْطَرَتْهم، وفي "القاموسِ المحيط": لا يُقالُ أَمْطَرَهُمُ اللهُ تَعالى إلاَّ في العَذابِ. وجاءَ في "الصِحاحِ": أَنَّ مَطَرَتِ السَماءُ وأَمْطَرَتْ بِمَعنًى، لكنَّهُ قال: (وقدْ كَثُرَ الإمْطارُ في معنى العذابِ). وقد يُتَوَهَّمُ أَنَّها تَفْرِقَةٌ وَضْعِيَّةٌ بَيْنَ المفردتين وليس الأمرُ كذلك، فإنَّ أَمْطَرَتْ مَعناه أَرْسَلَتْ شيئاً على نحوِ المَطَرِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ ماءً، فلَوْ أَرْسَلَ اللهُ تَعالى مِنَ السَماءِ أَنواعاً مِنَ الخَيْرِ لَجازَ أَنْ يُقالَ: أَمْطَرَتِ السَّماءُ كذا وكذا، أيْ أَرْسَلَتْهُ إرْسالَ المَطَرِ، وليس للشَرِّ خُصوصِيَّةٌ في هذه الصِيغةِ الرُّباعِيَّةِ، ولكنِ اتَّفَقَ أَنَّ السَماءَ لَمْ تُرْسِلُ شَيْئاً سِوَى المَطَرِ إلاَّ العَذابَ، فَظُنَّ أنَّهُ فُرِّقَ بينهما وَضْعاً. ويومٌ مَطيرٌ. أي: يومٌ مَمْطُورٌ. قال توبةُ الخَفَاجِيُّ في لَيْلى الأَخْيَلِيَّةِ:
حَمامةَ بطنِ الوادِيَيْنِ تَرَنَّمِي ........... سقاكِ مِن الغُرِّ الغَوادي مَطِيرُها
ومنها:
نَأَتْكَ بِليلى دارُها لا تَزُورُها ............. وشطَّتْ نواها واستمرَّ مَرِيرُها
وكنتُ إذا ما زُرْتُ ليلى تبرْقَعَتْ ........ وقد رَابني منها الغَداةَ سفورُها
عليَّ دِماءُ البُدْن إن كان زَوْجُها .......... يَرَى لي ذَنباً غيرَ أني أزورُها
حمامةَ بَطْن الوادِيَيْنِ تَرَنّمي .......... سقَاك من الغُرِّ الغوادي مَطيرُها
وأشْرِفُ بالغَوْرِ اليَفاع لعلّني ............ أرى نَار ليلى أو يَرَاني بَصِيرُها
أَرَتْنا حِمَامَ المَوْتِ ليلى، ورَاقَنا ......... عيونٌ نَقِيّاتُ الحواشي تُدِيرُها
فقولُهُ هنا: "مَطيرٌ" على وزنِ: "فَعيلٍ" بِمَعْنى "فاعِل"، لِأَنَّ السحابَ يُمْطِرُها. ويَوْمٌ مَاطِرٌ ومُمْطِرٌ على المَجازِ، كقولِهِ تعالى في سورة إبراهيم: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} الآية: 18. وقيل: وادٍ مَطيرٌ، فقطْ، فَلَمْ يُتَجَوَّزْ فيه. وَقالَ: "مَطَراً" بالتَنْكِيرِ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّعْجِيبِ، أَيْ: مَطَرًا عَجِيبًا يُهْلِكَ الْقُرَى.
فقدْ سَرَى نَبِيُّ اللهِ لُوطٌ ـ عليْهِ السَّلامُ ـ بِأَهْلِهِ ليلاً كما أَمرَهُ رَبُّهُ في سورةِ هُودٍ، الآيَة: 81، {فأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}. وقال في سورةِ الحِجْرِ: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} الآية: 65. ثُمَّ أُمِرَ جِبْرِيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ فَأَدْخَلَ جَنَاحَهُ تَحْتَ مَدَائِنِهِمْ الأَرْبَع وَكَانَتْ فِيمَا ذُكِرَ أَرْبَعَ قُرًى، وَقِيلَ: خَمْسٌ فِيهَا أَرْبَعُمِئَةِ أَلْفٍ. فَاقْتَلَعَهَا، وَرَفَعَهَا حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ وَنُبَاحَ الْكِلَابِ، ثُمَّ جَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَأُمْطِرَتْ عَلَى مَنْ كان مِنْهم غَائباً عن دِيارِهِم، حِجَارَةٌ مِنْ سِجِّيلٍ، وَأَدْرَكَ امْرَأَةَ لُوطٍ ـ وَكَانَتْ مَعَهُ ـ حَجَرٌ فَقَتَلَهَا لِأَنَّها الْتَفَتَتْ، وقد أُمِروا أَلاَّ يَلْتَفِتَ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَبَداً. قال الإمامُ الخازنُ ـ رَحِمَهُ الهَُ في تَفْسيرِهِ أَنَّ تِلكَ الحِجارَةَ كانتْ مَعجونَةً بالكِبْريتِ والنارِ، وجاءَ في التَوراةِ أَنَّ الَّذِي أَصَابَ قَوْمَ لُوطٍ مِنْ أَعْلَى الْقُرَى حَجَرٌ وَكِبْرِيتٌ، وَكَانَ الدُّخَانُ يَظْهَرُ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلُ دُخَانِ الْأَتُونِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي آيَةٍ أُخْرَى مِنَ الْقُرْآنِ الكريمِ: أَنَّ اللهَ جَعَلَ عَالِيَ تِلْكَ الْقُرَى سَافِلًا، فقالَ في سُورَةِ هُودٍ: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} الآيةِ: 82، وَذَلِكَ هُوَ الْخَسْفُ وَهُوَ مِنْ آثَارِ الزَّلَازِلِ. ويحتمَلُ أنْ يكون البحرُ الميِّتُ قد طغى على آثار ذلك الزلزالِ والبراكينِ فأخفاها.
قولُهُ: {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} أَمْرٌ بالنَّظَرِ فِي عَاقِبَتِهِمْ
مِنْهُ ـ سُبْحانَه ـ متَفَرِّعٌ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَجِيبَةِ للْإِرْشَادِ وَالِاعْتِبَارِ. و"عاقبةُ المجرمين" أيْ: مَآلُ أُولئكَ الكافرينَ المُقْتَرِفينَ لِتِلْكَ الفَعْلَةِ الشَنْعاءِ. وَالْخِطَابُ عامٌّ، والْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ كُلُّ مَنْ قُصِدَ بِالْمَوْعِظَةِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ إِيرَادِ التَّذْيِيلِ بِالِاعْتِبَارِ عَقِبَ كلِّ مَوْعِظَةٍ. وَقيلَ الْخطابُ تَسْلِيَةٌ للنّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عمَّا يُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوه، بِأَنْ لَا يَيْأَس مِنْ إعراضِ قومِهِ وأن يطمئنَّ لِنَصْرِ اللهِ لَهُ كما نصَرَ لوطاً وغيرَهُ من المرسلين ـ أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التَسليمِ عَليهِم أَجْمعين ـ وَأَنَّ شَأْنَ الرُّسُلِ انْتِظَارَ الْعَوَاقِبِ. وَ"الْمُجْرِمُينَ" هُمْ مُرْتَكِبوا الْجَرِيمَةِ، وَهِيَ الْمَعْصِيَةُ والفاحشةُ، وَالظَاهِرُ أَنَّ اللهَ عَاقَبَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْفَاحِشَةِ، وَأَنَّ لُوطًا ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ أُرْسِلَ لَهُمْ لِنَهْيِهِمْ عَنْهَا، إِذْ لَمْ يَتَعَرَّضِ الْقُرْآنُ الكريمُ لِمَسْأَلَةِ الإيمانِ والكُفْرِ بوضوحٍ، كما هُو الحالُ فيمَا قَصَّ عَنِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى، لَكِنَّ إصْرارَهُم عَلَى هذه الْفَاحِشَةِ وَاسْتِحْلَالِهِمْ لهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِاللهِ، يُشيرُ إلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} الآية: 10، فَيَكُونُ إِرْسَالُ نَبِيِّ الهِج لُوطٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ لتَطْهِيرِ نُفُوسِهِمْ مِنْ تِلَكَ الفاحِشَةِ أَوَّلاً، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، إِلَّا أَنَّ اهْتِمَامَهُ الْأَوَّلَ كَانَ بِإِبْطَالِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللهَ أَصَابَهُمْ بِالْعَذَابِ عُقُوبَةً، عَلَى تِلْكَ الْفَاحِشَةِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} الآية: 34. وقَدْ مَكَثَ فيهم ـ عليه السلامُ ـ يَدْعوهُم إلى ما فِيهِ صَلاحُهُم ثَلاثينَ سَنَةً ـ بحسَبِ مافي بعضِ الآثار ـ فلَمْ يُجيبوهُ، وكانَ كذلك إبْراهيمُ ـ عليهِ السَّلامُ ـ يَرْكَبُ حِمارَهُ فَيَأْتيهم ويَنْصَحُهم فَيْأَبَوْنَ أَنْ يَقْبَلوا، فَكانَ ينظُرُ إلى "سدوم" ـ بعدَ أَنْ آيَسَ مِنْهم ـ ويَقولُ: سَدومُ، أَيُّ يَوْمٍ لَكِ مِنَ اللهِ تَعالى سَدوم، حتَّى بَلَغَ الكِتابُ أَجَلَهُ فَكانَ ما قَصَّ اللهُ تَعالى عَلى نَبِيِّهِ ـ عليه الصلاةُ والسَّلامُ.
قولُهُ تعالى: {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً} و: حاليَّةٌ، "أمطرنا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ، و"نا" العَظَمَةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعٍ فاعلهِ. "على" حَرْفُ جَرٍّ، والهاء: ضَميرٌ متَّصلٌ في مَحَلِّ جَرٍّ بحرف الجرِّ مُتَعَلِّقٌ بـ "أَمْطَرْنا" بِتَضْمينِهِ مَعْنى "أَرْسَلْنا". ولذلِكَ عُدِّيَ بـ "على"، والميم علامة الجمع المُذَكَّرِ. "مَطَراً" مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، وذلك لأنَّهُ يُرادُ بِهِ الحِجارةُ، ولا يُرادُ بِهَ المَصْدَرُ أَصْلاً، إذْ لَوْ كان كَذلكَ لَقِيلَ: أَمْطاراً. وهذه الجُملَةُ في مَحَلِّ نَصْبِ حالٍ بِتَقْديرِ (قد).
قولُهُ: {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} الفاءُ: استئنافيّةٌ، "انظر" فِعْلُ أَمْرٍ مبني السكونِ الظاهرِ، والفاعِلُ ضميرٌ مستترٌ وُجوباً تقديرُهُ "أنت". "كيف" اسْمُ اسْتِفْهامٍ مَبْنِيٌّ في مَحَلِّ نَصْبِ خَبَرٍ مقدَّمٍ لـ "كان"، و"كان" فعلٌ ماضٍ ناسخ. "عاقبة" اسْمُ كانَ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رفعهِ ظاهرةٌ على آخره، وهو مضافٌ. و"المجرمين" مُضافٌ إليْهِ مَجْرورٌ وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّه جمعٌ مذكَّرٌ سالمٌ والنونُ عِوَضاً عن التنوين في الاسْمِ المُفردِ. وجُمْلَةُ "انظر" استِئنافيَّةٌ ليس لها محلٌّ من الإعرابِ. وجُملةُ "كان" في مَحَلِّ نَصْبِ مَفعولٍ بِهِ لِفِعْلِ انْظُرْ المَعَلَّقِ بالاسْتِفْهامِ.