فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ
(79)
قولُهُ ـ تباركت أسماؤه: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} غَادَرَ أرضهم وديارهم إلى أَرْضِ فِلَسْطين إيذاناً بحلولِ عذابِ اللهِ عليهم وغضبِه، فقد جَرَتٍ عادة اللهِ ـ تعالى ـ أَلاَّ يُهْلِكَ أُمَّةٌ ونَبِيُّهم بَيْنَ ظَهرانيهِم، إكْراماً لَهْ، وغادَرَ مَعَهُ مِئةٌ وعَشَرَةٌ مُؤمِنون، وذلك عندما يَئسَ مِنْ أنْ يَهْتدوا، ويَسْتَجيبوا لِدَعوتِهِ. والتَّوَلِّي الِانْصِرَافُ عَنْ فِرَاقٍ وَغَضَبٍ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِالشَّيْءِ، وَهُوَ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ فَارَقَ دِيَارَ قَوْمِهِ حِينَ عَلِمَ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِهِمْ، فَيَكُونُ التَّعْقِيبُ لِقَوْلِهِ: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} الآية: 77. السابقة. لِأَنَّ ظَاهِرَ تَعْقِيبِ التَّوَلِّي عَنْهُمْ وَخِطَابِهِ إِيَّاهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ بَعْدَ أَنْ تأخذهم الرّجفة وَأَصْبحُوا جَاثِمِينَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا بِقَرِينَةِ الْخِطَابِ أَيْضًا، أَيْ فَأَعْرَضَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْقَرْيَةِ بَعْدَ أَصَابَتِهَا بِالصَّاعِقَةِ، أَوْ فَأَعْرَضَ عَنِ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ وَاشْتَغَلَ بِالْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} سورةُ الشُّعَرَاء، الآيةُ: 3.
فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ...} إِلَخْ. مُسْتَعْمَلًا فِي التَّوْبِيخِ لَهُمْ وَالتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّحَسُّرِ، أَوْ فِي التَبَرُّءِ مِنْهُمْ، فَيكونَ النّداءُ تَحَسُّرٌ فَلَا يَقْتَضِي كَوْنَ أَصْحَابِ الِاسْمِ الْمُنَادَى مِمَّنْ يَعْقِلُ النِّدَاءَ حِينَئِذٍ، مِثْلُ مَا تُنَادِي الْحَسْرَةَ فِي: يَا حَسْرَةً. ويَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قال بَعْدَ مَوْتِهِمْ، كَقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ لِقَتْلَى بَدْرٍ: ((هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا)) فَقِيلَ: أَتُكَلِّمُ هَؤُلَاءِ الْجِيَفَ؟ فَقَالَ: ((مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْجَوَابِ)). وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. يَدُلُّ عَلَيْهِ "وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ" أيْ لمْ تَقْبَلوا نُصْحي.
قولُهُ: {وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي} بيَّنَ ـ عليه السلامُ ـ معذِرَتَهُ أتمَّ بيانٍ، فقد قامَ بِواجِبِه خيرَ قيامِ، وبلَّغَهم رسالةَ الله إليهم وشرعه، وحذرَهم عاقبة عصيانِه ومخالفة أمره، في الدنيا والآخرة، ونفذ لهم مطلبهم بأن أخرجَ لهم ناقةً من الصخرة بقدرة اللهِ تعالى، كبرهانٍ على صدقِهِ، كما طَلَبوا ـ وقد تقدَّم تَفْصيلُه ـ لكنَّهم لم يَعْقِلوا ولَمْ يَتَفَكَّروا ولم يَتَدَبَّروا، بَلْ أَصَرُّوا على كُفْرِهِمْ بِمَولاهُمُ الحَقّ، وعِصْيانِهم أَوامِرَهِ، ولم يَخْشَوْا تَحْذيرَهُ، ولَمْ يَتَوَقَّوْا غَضَبَهُ وانْتِقامَهُ.
قولُهُ: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} وَالِاسْتِدْرَاكُ بـ "لَكِن" ناشئٌ عَنْ قَوْلِهِ: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّبَرُّؤِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي مُعَالَجَةِ كُفْرِهِمْ، سَوَاءٌ كَانَ بِحَيْثُ هُمْ يَسْمَعُونَهُ أَمْ كَانَ قَالَهُ فِي نَفسه، فَلذَلِك التَّبَرُّؤُ يُؤْذِنُ بِدَفْعِ تَوَهُّمِ تَقْصِيرِ فِي الْإِبْلَاغِ وَالنَّصِيحَةِ لِانْعِدَامِ ظُهُورِ فَائِدَةِ الْإِبْلَاغِ وَالنَّصِيحَةِ، فَاسْتَدْرَكَ بِقَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ، أَيْ تَكْرَهُونَ النَّاصِحِينَ فَلَا تُطِيعُونَهُمْ فِي نُصْحِهِمْ، لِأَنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ، فَأَرَادَ بِذَلِكَ الْكِنَايَةَ عَنْ رَفْضِهِمُ النَّصِيحَةَ.
قولُهُ تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} الفاء: للعطف، "تولى" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ المُقَدَّرِ على الأَلِفِ للتعذُّر، والفاعلُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ جوازاً تَقديرُهُ "هو" يعودُ على "صالحٍ". "عنهم" عن: حرفُ جَرٍّ، والهاءٌ: ضميرٌ متَّصلٌ في مَحَلِّ جَرٍّ بحرف الجرِّ مُتَعَلِّقٌ بـ "تولى"، والميم لجمع المذكَّر. وجُملةُ "تَوَلّى عَنْهُم" مَعطوفةٌ على جُمْلَةِ "أَصْبَحوا" لا مَحَلَّ لها منَ الإعرابِ.
قولُه: {وَقالَ يا قَوْمِ} و" للعطفِ، "قال" فعلٌ ماضٍ مبنيٍّ على الفتح الظاهر على آخره، والفاعلُ ضميرٌ مستترٌ جوازاً تقديرُه "هو" يعود على "صالح". "يا قوم" يا: أداةُ نداء، و"قوم" مُنادى مَنْصوبٌ بالفَتْحةِ المُقَدَّرَةِ على ما قبلَ ياءِ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفَةِ تَخْفيفاً وهو مضافٌ. والياء المحذوفة في محلِّ جرٍّ بإضافة "قوِمِ" إليها. وجُملةُ "قال" معطوفةٌ على جُمْلَةِ "تولى" فهي مثلُها لَيْسَ لَها مَحَلٌ منَ الإعراب، ويَجُوزُ أَنْ تَكونَ هذه الجملةُ في محلِّ نصبِ حالٍ بتقديرِ "قد". وجُمْلَةُ "يا قومِ" في مَحَلِّ نَصْبٍ مَقولَ القولِ، ويَجوزُ أَنْ تَكونَ اعْتِراضَيَّةً، فتكونُ جُمْلَةُ "أبلغتكم" مَقولَ القولِ.
قولُهُ: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي} اللام: واقعةٌ في جَوابِ القَسَمِ المُقَدَّرِ، أي: واللهِ لَقدْ أَبْلَغْتُكم، و"قد" حرفُ تَحقيقٍ. و"أَبْلَغْتُكُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُكونِ، لاتصالِه بتاء الفاعلِ، وهي "تاءُ الفاعل" ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعِلِ "أَبْلَغ"، والكافُ: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصب مفعول به أوَّلَ، والميمُ علامةُ التذكير. و"رِسالَةَ" مَفعولٌ به ثانٍ، منصوبٌ وعلامةُ نصبِه ظاهرةٌ على آخره، وهو مضافٌ. و"رَبِّي" "ربّ" مضافٌ إليْهِ مَجرورٌ، وعلامةُ جرِّهِ كَسرةٌ مقدَّرةٌ على ما قبلِ ياءِ المُتَكَلِّمِ، وهي "ياءُ المتكلِّم" ضميرٌ مُتَصّلٌ في مَحَلِّ جَرٍّ بالإضافةِ أيضاً. وجملةُ "أبلغتكم" واقعةٌ في جواب القسَمِ المُقَدَّرِ ف لا محلَّ لها، وجُملةُ القَسَمِ المُقدَّرَةِ جَوابُ النِداءِ.
قولُهُ: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} و" حرف عاطفٍ، و"نصحت" فعلٌ ماضٍ مبنيٍّ على السكونِ لاتّصالِهِ بتاء الفاعلِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، واللامُ: حرفُ جَرٍّ، والكافُ: ضميرٌ متَّصلٌ في محلّ جَرٍّ بحرف الجرِّ متعلّقٌ بـ "نَصَحْتُ" والميمُ لجمع المذكّرِ. وهذه الجملةُ معطوفةٌ على جُمْلةِ جوابِ القَسَمِ ف لا محلّ لها من الإعرابِ أيضاً.
قولُهُ: {وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} و: للعطفِ، "لكن" حرفُ اسْتِدْراكٍ لا عَمَلَ لَه. و"لا" نَافيةٌ، و"تُحِبّون" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النونِ في آخره لآنَّه من الأفعالِ الخمسةِ، وفاعلُهُ واوُ الجماعة. :الناصحين" مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، وعلامةُ نصبِهِ الياءُ لأنّه من الأسماء الخمسةِ والنونُ عوضاً عن التنوين في الاسمِ المفرد. وقيل: ثمّة "كان" مَحْذوفةٌ هُنا لأنَّهُ حِكايةُ حالٍ ماضِيَةٍ، والتقديرُ: ولكنْ كنتم لا تُحِبّون الناصحين. وجُملةُ "لا تحبّون" معطوفةٌ على جُملةِ نَصَحْتُ، لا مَحَلَّ لَها من الإعرابِ.