قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ
(60)
قولُه ـ جلَّ شأنُه: {قالَ المَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} الْمَلَأُ: الأَشْرافُ، وملأُ القومِ رُؤساؤهم، وشرفاؤهم. وقد تقدَّم بيانُه في سورة البَقَرِةِ، وهو كقولِه تعالى على لسانهم في سورة الأحزابِ: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا}، الآية: 67. وكانوا هُمْ أَضْدادَ الأَنْبياءِ والرُسُلِ؛ لأنَّهم كانوا يَدعونَ الناسَ إلى ما يُوحي إليهِم الشياطينُ في نُفوسِهم الخبيثةِ، بما ينسجم مع أهوائهم ونزواتهم، وبما يحافظون به على امتيازاتهم وسلكانهم، وكان الرُسُلُ يدعون الناسَ إلى ما يُوحي به اللهُ ـ سبحانَهُ ـ إليهم، وما يُنَزِّلُ عليهم.
قولُهُ: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أَيْ يقولُ أولئكَ الزعماءُ والأشرافُ لنبيِّ اللهِ ورُسُولِه نوح ـ عليهِ السلامُ: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي دُعَائِكَ لنَا إِلَى إِلَهٍ وَاحِدٍ فِي ضَلَالٍ عَنِ الْحَقِّ، لأنَّهم ظَنّوا أَنَّ ما أَوحى إليهم به الشيطانُ هوَ الحَقُّ، فقد جاءَ مُساوِقاً لأَمانيهم، مُلَبِّياً لِتَطَلُّعاتهم إلى السلطةِ والزعامَةِ، وهذا هو دأبُ معظم ذوي المالِ والسُلْطَةِ والنفوذِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، يَعادون الأنْبياءَ والمرسلين وحَمَلَةَ دَعْوةِ العَدْلِ والحَقِّ والمُساواتِ لأنَّها تَحُدُّ مِنْ تَسَلُّطِهم وتَعَطُّشِ نُفوسِهم للمالِ والسُلْطَةِ والنُفوذِ. فيَرَوْنَ أَنَّ ما يَدْعو إليْه الرُسُلُ هُو باطلٌ وضلالٌ مبين، بين ترى الفقراء والمستضعفين أكثرَ إقبالاً على تلقُّفِ رسالاتِ السماءِ لأنها تحملُ لهم الخيرَ والنصفة من ظالميهم، المغتصبين لحقوقهم. والمعتدين على كراماتهم. فالضلالُ وَالضَّلَالَةُ: الْعُدُولُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَالذَّهَابُ عَنْهُ.
قولُهُ تعالى: {قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} قال: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ على آخِرِه. "الملأُ" فاعلٌ مرفوعٌ، وعلامَةُ رفعِهِ الضمَّةُ الظاهرةُ على آخره. "مِنْ قومِ" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعلِّقان بحالٍ من "المَلأ" محذوفةٍ،وقومِ مضافٌ، والهاء: ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليْهِ. وجملةُ: "قال الملأ" استئنافيَّةٌ بيانيٌ لا مَحَلَّ لَها من الإعرابِ.
قولُهُ: {إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} إنَّا: إنَّ حرفٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ، و"نا" ضميرٌ متّصِلٌ في مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نصبِ اسمِها. "لنراك" اللامُ: هي المُزَحْلَقَةُ تُفيدُ التَوكيدَ. "نرى" فعلٌ مُضارعٌ مَرفوعٌ لتجرُّدِه عن الناصبِ والجازمِ وعلامةُ رفعهِ ضمّةٌ مُقدَّرَةٌ على الأَلِفِ، والفاعلُ ضَميرٌ مُستَتِرٌ تقديرُهُ نحن، وكافُ الخطابِ: ضَميرٌ متَّصِلٌ في مَحَلِّ نَصْبِ مَفعولٍ بِه. "في ضلال" جارٌّ ومَجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "نراك"، "مُبينٍ" نَعْتٌ لِـ "ضلال" مَجرورٌ مثلُه. وجُملةُ: "نراك" في مَحَلِّ رَفعِ خَبَرِ "إنَّ".
ويَجوزُ أنْ يَكونَ الفعلُ "نرى" من الرؤيةِ القلبيَّةِ فتَتعدَّى لاثْنَيْنِ ثانيهما "في ضلال"، وأنْ يَكونَ من الرؤيةِ البَصريَّةِ، وليسَ بظاهِرٍ فالجارُّ حالٌ، وجَعَلَ الضَلالَ ظَرْفاً مُبالَغَةً في وَصْفِهم لَهُ بذلك، وزَادوا في المُبالَغَةِ بأنْ أَكَّدوا ذلك بأنْ صَدَّروا الجُملةَ بـ "إنَّ" وفي خَبَرِها اللامُ.
قرأَ عامَّةُ القرّاءِ: "الملأ"، وقَرَأَ ابْنُ عامرٍ: "المَلَوُ" بواوٍ، حسبَ ما نقلَه عنه ابنُ عطيَّةَ وهي كذلكَ في مَصاحِفِ الشامِ، وهذِه القراءةُ ليستْ مَشْهورةً عَنْه.