[size=29.3333]يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ[/size]
[size=29.3333](35)[/size]
[size=29.3333]قولُه ـ تعالى شأنُه: {يا بَنِي آدَمَ} خِطابٌ منه ـ سُبْحانَه وتَعالى ـ لِجميع بَنيْ آدمَ، أيْ للناسِ كافَّةً. وقيلَ: المُرادُ همُ أُمَّةُ نَبِيِّنا محمدٍ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ وهو خِلافُ الظاهِرِ. ويُبْعِدُهُ قولُه بعد ذلك "رُسُلٌ" جَمْعُ رسولٍ. ولا يَخْفى ما فيه مِنَ الاهْتِمامِ بِشَأْنِ ما في حَيِّزِ هذا الخطاب. وقد أخرجَ ابْنُ جَريرٍ الطبريُّ عن أَبي يَسارٍ السُلَمِيِّ قالَ: إنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى جَعَلَ آدَمَ وذرِّيَّتَهُ في كَفِّهِ فقال: {يَسْتَقْدِمُونَ، يابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ..} حتَّى بَلَغَ {فاتقون} ثم بثهم. وفي ذِكْرِ آدَمَ ـ عليْهِ السلامُ ـ تنبيهٌ وتَذْكيرٌ بما كانَ مِن إبْليس تجاهَ آدَمَ، وما فعله من إغوائه وتعهُّدِه بإغواءِ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ بعدِه.[/size]
[size=29.3333]قولُه: {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ منكم} أَخْبَرَ أَنَّهُ يُرْسِلُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ، وقدْ أَشارَ ـ سُبْحانَهُ ـ إلى عَمَلهِم، وهوَ التَبليغُ عَنِ اللهِ ـ تَعالى ـ بقولِهِ تعالَتْ كَلِماتُه: "يَقُصُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي" و"مِنْكُمْ" لِتَكُونَ إِجَابَتُهُمْ أَقْرَبَ. والذي ذَهَبَ إليْهِ بَعْضُ المُحقِّقين أَنَّ هذا حِكايةٌ لِما وَقَعَ مَعَ كُلِّ قَوْمٍ. وفي الإتْيانِ بـ "إن" تَنبيهٌ على أَنَّ إرْسالَ الرُسُلِ أَمْرٌ جائزٌ لا واجِبٌ، وهو ما ذَهَبَ إليْه أَهْلُ السُّنَّةِ والجماعةِ. أمَّا المُعتَزِلَةُ فقالوا: إنَّهُ واجِبٌ على اللهِ ـ تَعالى ـ لأنَّه يَجِبُ عليه ـ بِزعْمِهم ـ فِعْلُ الأَصْلَحِ.[/size]
[size=29.3333]قولُه: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي} الْقَصَصُ إِتْبَاعُ الْحَدِيثِ بَعْضَهُ بَعْضًا. والقَصُّ الإخْبارُ والتَكليفُ، وتوجيهُ الأَنْظارِ إلى الكونِ قَصًّا وتَتَبُّعًا، لَا يَتْرُكُ أَمْرًا واجِبَ البَيانِ لا يُبَيِّنُه، والآياتُ تَشْمَلُ لِعمومِها الآياتِ المُبَيِّنَةِ للأَحْكامِ التَكْليفيَّةِ، والآياتِ الكَوْنِيَّةِ الدالَّةِ على قُدْرَةِ اللهِ ـ تعالى ـ وعلى وَحدانِيَّتِهِ في الخَلْقِ والكَونِ، والصِفاتِ العِلِيَّةِ، وتَشْمَلُ المُعْجِزاتِ الباهِرَةِ التي تَدُلُّ على الرِسالَةِ. فـ "آياتي" أَيْ فَرَائِضِي وَأَحْكَامِي. [/size]
[size=29.3333]قولُه: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ} وهذا القَصَصُ الحَكيمُ، والذِكْرُ الذي يَهْدي ويُرشِدُ، تَتَلَقّاهُ بَعْضُ النُفوسِ فَتُؤمِنُ بِه، وتَتَلَقَّاهُ أُخْرى فَتَكْفُرُ بِهِ؛ فهوَ كالمَطَرِ الذي يَنْزِلُ فيَأْتي بالخِصْبِ والخَيْرِ الكَثيرِ للمُؤمِنين، بينما الأرض الجدباءُ لا يُنْبِتُ فيها نَباتًا، ولا يَسْقي فيها حَرْثًا، والفاءُ هُنا للإفْصاحِ عَنْ شَرْطٍ مقدَّرٍ، والمَعنى إذا جاءتْهُمُ الرُّسُلُ بآياتي "فمن اتَقى وأصلح" أَيْ ابتعدَ عمَّا يُغضِبُني، وَأَصْلَحَ مَا بَيْني وبَيْنَه. [/size]
[size=29.3333]قولُه: {فلا خوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُونَ} نَفيٌ للخوفِ والحُزْنِ، فلا خوفٌ عليهم مِنْ عذابِ اللهِ، بَلْ هُمْ في أَمْنٍ وسَلامٍ واطْمِئْنانٌ، والطاعةُ لَا عِقابَ عليها بَلْ ثوابٌ، فلا خَوفَ ـ إذاً ـ مِنْ عقابٍ. والآيةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَخَافُونَ وَلَا يَحْزَنُونَ، وَلَا يَلْحَقُهُمْ رُعْبٌ وَلَا فَزَعٌ. وَقِيلَ: قَدْ يَلْحَقُهُمْ أَهْوَالُ يَوْمِ القيامة، ولكنَّ مَآلَهُمُ الْأَمْنُ.[/size]
[size=29.3333]قولُهُ تعالى: {يا بني آدمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رسُلٌ منكم} يا بني آدَمَ: مَرَّ إعْرابُها في الآية (27) من هذه السورة، "إمَّا" هي "إن ما"، أدْغِمَتِ النونُ في الميمِ، فـ "إنْ" شَرْطيَّةٌ جازَمَةٌ، و"ما" لِتَكيدِ مَعنى الشَرْطِيَّةِ، وَقِيلَ: مَا صِلَةٌ، أَيْ إِنْ يَأْتِكُمْ. و"يأتين" مُضارِعٌ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ في مَحَلِّ جَزْم فِعْلِ الشَرْطِ لاتصاله بنون التوكيدِ الثقيلة، وَقد دَخَلَتِ النُّونُ تَوْكِيدًا لِدُخُولِ "مَا". و"النون" للتوكيد، و"كافُ الخطاب" ضَميرٌ متّصِلٌ في محلِّ مفعولٍ بِهِ، والميم علامة الجمعِ المذكَّر، و"رسلٌ" فاعِلٌ مَرفوعٌ، و"من" حَرْفُ جَر و"الكاف" ضميرٌ متّصلٌ في محلِّ جرٍ بحرف الجرِّ متعلِّقٌ بمحذوفِ نَعْتٍ لِـ "رُسُل" والميم علامة المذكر، وجُمْلةُ "يأتينكم" جوابُ النِّداءِ، لا مَحلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ. وجُمْلَةُ النِداءِ وجوابها استئنافيَّةٌ فلا مَحَلَّ لَها أيضاً.[/size]
[size=29.3333] قولُه: {يقصون عليكم آياتِي} مُضارعٌ مَرْفوعٌ، وعلامَةُ رفْعِهِ ثُبوتُ النّونِ لأنَّهُ من الأفعالِ الخمسةِ، والواو الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، و"عليكم" إعرابها مثل مِنْكمْ متعلّق بـ "يقصون"، و"آياتي" مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ وعلامَةُ نَصْبِهِ الكسْرةُ المُقدَّرةُ على ما قبلِ الياءِ، وهو مضافٌ، و"ياءُ" المُتكلِّم ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرَّ مضافٍ إليْه. وقُدِّم الجارُّ على الجملة لأنَّهُ أَقْربُ إلى المُفْردِ منها. وجُملَةُ "يقصون" في مَحَلِّ رَفْعِ نَعْتٍ ثانٍ لـ "رُسُل". أوْ في مَحَلِّ نَصْبِ حالٍ مِنْ "رُسُل" لأَنَّ النَكِرَةَ وُصِفَتْ.[/size]
[size=29.3333]قولُه: {فَمَنِ اتَّقى} الفاء: رابِطَةٌ لِجَوابِ الشَرْطِ الأَوَّلِ، وَقِيلَ: جَوَابُ "إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ" مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ فَأَطِيعُوهُمْ "فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ" و"مَنْ" اسْمُ شَرْطٍ جازِمٍ مَبْنِيٍّ على السكونِ في مَحَلِّ رَفْعِ مُبْتَدَأٍ، ويُحتَمَلُ أَنْ تَكونَ مَوْصولةً. فإن كان الأولَ كانت هي وجوابُها جواباً للشرطِ الأولِ، وهي مُستَقَلَّةٌ بالجوابِ دون الجُملةِ التي بعدَ جوابها، وهي {والذين كَذَّبوا}، وإنْ كان الثاني كانتْ هيَ وجوابُها والجُملةُ المُشارُ إليْها كِلاهُما جَواباً للشَرْطِ، كأنَّهُ قَسَّمَ جوابَ قولِهِ: "إمَّا يأتينَّكم" إلى مُتَّقٍ ومُكَذِّبٍ وجَزاءِ كُلٍّ مِنْهُما. وقدْ تَقَدَّمَ تَحقيقُ هذا في البَقرةِ. وحَذَفَ مفعولَيْ "اتَّقى وأصلحَ" اخْتِصاراً للعِلْمِ بِهِما، أيْ: اتَّقى ربَّهُ وأَصْلَحَ عَمَلَهُ، أوِ اقْتِصاراً، أيْ: فَمَنْ كانَ مِنْ أَهْلِ التَقْوى والصَلاحِ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلى مَفعولٍ كقولِهِ: {وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى} النَّجم: 48. ولكنْ لا بُدَّ مِنْ تَقديرِ رابطٍ بَيْنَ هذِهِ الجُمْلَةِ وبَيْنَ الجُمْلَةِ الشَرْطِيَّةِ، والتقديرُ: فَمَنْ اتَّقى مِنْكُمْ والذين كَذَّبوا منكم. و"اتّقى" فعلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ على الفَتْحِ المُقَدَّرِ على الألِفِ للتعَذُرِ، والفاعِلُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ تَقديرُهُ هُو، وهو في مَحَلِّ جَزْمِ فِعْلِ الشَرْطِ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ [/size]
[size=29.3333]رَفْعٍ خَبَراً للمُبْتَدأِ "من".[/size]
[size=29.3333]قولُه: {وَأَصْلَحَ} الواو: عاطفةٌ، "أصلح" في مَحَلِّ جَزْمٍ عَطفاً على "اتقى" فعلِ الشَرْطِ، وجُمْلَةُ "مَنِ اتَّقى" في مَحَلِّ جَزْمِ جَوابِ الشَرْطِ "إن ما" مُقْتَرِنَةً بالفاءِ. وهذه الجُملةُ في محلِّ رفعٍ عطفاً على جُمْلَةِ "اتقى".[/size]
[size=29.3333]قولُه: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} الفاء: رابطةٌ لِجَوابِ الشَرْطِ الثاني "لا" حرفٌ للنَفْيِ مُهْمَلٌ أوْ يَعْمَلُ عَمَلَ لَيْسَ، و"خوف: اسْمُهُ، وخَبَرُهُ "عليهم"، "خوف" مُبْتَدَأٌ مَرْفوعٌ، وجازَ الابْتِداءُ بالنَكِرَةِ لاعْتِمادِها على النَفْيِ، "عليهم" مثل "منكم" مُتَعَلِّقٌ بِمَحذوفِ خَبَرٍ، و"الواو" عاطفةٌ و"لا" حَرْفٌ زائدٌ لِتَأْكيدِ النَّفْيِ "هم" ضَميرٌ مُنْفَصِلٌ في مَحَلِّ رَفْعِ مَبْتَدَأٍ، "يحزنون" مثلُ "يَقُصّون". وجملةُ "لا خوف عليهم" في مَحَلِّ جَزْمِ جَوابِ الشَرْطِ "من" مُقترنَةً بالفاء. وجُملَة "هم يحزنون" في مَحَلِّ جَزْمٍ معطوفة على جُملةِ الجَوابِ الثاني. وجُملةُ "يحزنون" في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرٍ للمبتدأِ "هم".[/size]
[size=29.3333]وقَرأَ أُبَيُّ والأعرجُ: "تأتينَّكم" بتاءٍ مُثَنّاةٍ مِنْ فوقِ، نَظَراً إلى معنى جماعَةِ الرُّسُلِ، فيكونُ قولُهُ تعالى: "يَقُصُّون" بالياء مِنْ تَحتِ حَمْلاً على المَعْنى؛ إذْ لو حُمِلَ على اللَّفظِ لَقالَ: "تَقُصُّ" بالتأنيثِ أيْضاً.[/size]