[size=29.3333]وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ. [/size]
[size=29.3333](19)[/size]
[size=29.3333]قولُهُ ـ جلَّ وعَلا: {وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} نادى اللهُ ـ تبارك وتعالى ـ آدمَ باسْمِهِ تَكريماً لَهً، فالنِّدَاءُ لِلْإِقْبَالِ عَلَى آدَمَ وَالتَّنْوِيهِ بِذِكْرِهِ فِي ذَلِكَ الْمَلَأِ. وأَسْكَنَهُ وزوجَه الجَنَّةَ لِيَقِرّوا فيها ويأْمَنوا مِنْ كُلِّ ما يَنْقَصُهُما مِنْ تِلكَ النِّعَمِ التي أَنْعَمَ عَلَيْهِما بها؛ لأنَّ الخوفَ، ممّا يُنَغِّصُ النِّعَمَ ويَذْهَبُ بِلَذَّتِها، فلَمَّا أَسْكَنَهُما الجَنَّةَ أَمَّنَهُما. فكانَ السُكونُ في مَوْضِعِ القَرارِ والأَمْنِ؛ وهو كَما قال تَعالى في سورة يونُسَ ـ عليْهِ السَّلامُ: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} الآية: 67؛ أَيْ: لِتَقِرُّوا فيهِ وتَأمَنوا؛ والجَنَّةُ: هي كلُّ بُسْتانِ ذي شَجَرٍ مُتكاثِفٍ مُلْتَفٍّ، وكانَ أَوَّلَ الابْتِلاءِ مِنَ اللهِ ـ تَعالى ـ لآدَمَ وزَوْجِهِ ـ عَلَيهِما السَّلامُ ـ لِأَنَّ ابْتِلاءَ اللهِ لِعِبادِهِ إنَّما يَكونُ بالإنْعامِ والإفْضالِ عَلَيْهم، ثُمَّ بالجَزاءِ العَدْلِ بِسُوءِ ما ارْتَكَبُوا؛ لِأَنَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ امْتَحَنَ آدَمَ ، أَوَّلًا بالإفْضالِ والإنْعامِ عَلَيْهِ؛ حَيْثُ أَسْجَدَ لَهُ مَلائكتَهُ، وأَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ، ووَسَّعَ عليه نِعَمَهُ، ثمَّ امْتَحَنَهُ بالشَدائدِ وأَنواعِ المَشَقَّةِ؛ جزاءَ ما ارْتكبا مِنَ التَناوُلِ مِنَ الشَجَرَةِ التي نَهاهُما عنْ قُرْبِها. [/size]
[size=29.3333]وَفِي تَوْجِيهِ الْخِطَابِ لِآدَمَ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ بِحُضُورِ إِبْلِيسَ بَعْدَ طَرْدِهِ زِيَادَةُ إِهَانَةٍ، لِأَنَّ إِعْطَاءَ النِّعَمِ لِمَرْضِيٍّ عَلَيْهِ فِي حِينِ عِقَابِ مَنِ اسْتَأْهَلَ الْعِقَابَ زِيَادَةُ حَسْرَةٍ على المعاقب، وإظهارا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّ الْإِنْعَامِ وَمُسْتَحِقِّ الْعُقُوبَة. فَقَدْ دَلَّ مَوْقِعُ هَذَا الْكَلَامِ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ، عَلَى مَعْنًى عَظِيمٍ مِنْ قَمْعِ إِبْلِيسَ، زَائِدٍ عَلَى مَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَإِنْ كَانَتَا مُتَمَاثِلَتَيْنِ فِي اللَّفْظِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْبَدِيعَ اسْتُفِيدَ مِنَ الْمَوْقِعِ وَهَذَا مِنْ بَدَائِعِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَوجْهُ إِيثَارِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ أنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَسُوقٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ، فَأَمَّا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهُ لِمَوْعِظَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بأَنْ يَحْذَروا الشَّيْطَانَ وَلَا يَتَّبِعُوا خُطُوَاتِهِ.[/size]
[size=29.3333]واخْتَلَفَ أَهْلُ التَأْويلِ في أيِّ الجِنانِ هي التي أَسْكَنَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فيها آدمَ وزَوجَه: فقَالَ جُمهورُ أَهْلِ السُنَّةِ إنَّ المُرادَ بها هُنا دارُ الثوابِ التي أَعَدَّها اللهُ للمُؤْمِنينَ يَومَ القيامَةِ، لأَنَّ هذا هُو المُتَبادِرُ إلى الذِهْنِ عِنْدَ الإطْلاقِ. ويَرى جُمهورُ عُلَماءِ المُعْتَزِلَةِ أَنَّ المُرادَ بِها هُنا بُسْتانٌ بِمَكانٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الأَرْضِ، خَلَقَهُ اللهُ لإسْكانِ آدَمَ وَزَوْجَهِ. واخْتَلَفوا في مَكانِهِ، فقيلَ إنَّهُ بِفَلَسْطينَ، وقيلَ بِغَيْرِها. وقد ساقَ ابْنُ القَيِّمِ في كِتابِهِ (حادي الأرواح) أَدِلَّةَ الفَريقيْنِ دُونَ أَنْ يُرَجِّحَ شَيْئاً مِنْها. وقَالَ آخَرون: هيَ جَنَّةٌ أَنْشَأَها في السماء لِيَسْكُنَ آدَمُ فيها، ولا نَدري ما تِلْكَ الجَنَّةَ. وليس لَنا حاجةٌ إلى مَعْرِفَتِها، إنَّما الحاجةُ إلى ما ذُكِرَ مَنَ المِحَنِ.[/size]
[size=29.3333]قولُه: {فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما} أيْ: كُلا مِنْ مَطاعِمِ هذه الجَنَّةِ وثمارِها ما شِئْتُم، ومِنْ أَيِّ مَكانٍ أردتم. وتوجيهُ الخِطابِ إليْهِما لِتَعْميمِ التَشْريفِ، والإيذانِ بِتَساويهِما في مُباشَرَةِ المأمُورِ بِهِ. [/size]
[size=29.3333]قولُه: {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ} ولا تقربا: القُرْبُ: الدُنُوُّ، والمَنْهِيُّ عنْهُ هُو الأَكْلُ مِنْ ثِمارِ الشَجَرَةِ. وتعليقُ النَهْيِ على القُرْبِ مِنْها لِلمُبالَغَةِ في النهيِ عَنِ الأَكْلِ، إذْ في النهي عَنِ القُرْبِ مِنَ الشيءِ نَهْيٌ عَنْ فِعْلِهِ مِنْ بابٍ أَوْلى. وأَكَدَّ النَهْيَ بِأَنْ جَعَلَ عَدَمَ اجْتِنابِ الأَكْلِ مِنَ الشَجَرَةِ ظُلْماً. [/size]
[size=29.3333]واخْتَلَفوا ـ أَيْضًا ـ في الشَجَرَةِ التي نُهِيَ عنها آدَمُ، فقَالَ بَعْضُهُمْ: هيَ شَجَرَةِ العِلْمِ، وقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ شَجَرَةُ الحِنْطِةِ، وقيل التوت، وقيلَ التِّين، وقيلَ غيرُ ذلك ممّا سَلَفَ بيانُه في سورةِ البَقَرةِ. وقد أَحْسَنَ ابْنُ جَريرٍ الطبريُّ حيثُ قال في تفسيره، ج1، ص 521: (والصوابُ في ذلك أَنْ يُقالَ: إنَّ اللهَ ـ تعالى ـ نَهى آدمَ وزَوْجَهُ عَنْ الأَكْلِ مِنَ شَجَرَةٍ بِعَيْنِها مِنْ أَشْجارِ الجَنَّةِ دُونَ سائرِ أَشْجارِها فأَكَلا مِنْها، ولا عِلْمَ عِنْدَنا بأيِّ شَجَرَةٍ كانتْ على التَعْيينِ، لَأَنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ لِعِبادِهِ دَليلاً على ذَلِكَ في القُرآنِ، ولا مِنَ السُنَّةِ الصَحيحَةِ، وقدْ قيلَ كانتْ شَجَرَةَ البِرِّ، وقيلَ شَجَرَةَ العِنَبِ، وذلك عِلْمٌ إذا عُلِمَ لَمْ يَنْفَعِ العالِمَ بِهِ عِلْمُهُ، وإنْ جَهِلَهُ جاهِلٌ لَمْ يَضُرُّهُ جَهْلُهُ بِهِ).[/size]
[size=29.3333]وفيها وفي غيرها من القصص دليلُ إثْباتِ رسالةِ مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ ونُبُوَّتِهِ؛ لأنَّه أَخْبَرَ عَمَّا كان مِنْ غيرِ أَنْ يكونَ قد اخْتَلَفَ إلى أَحَدٍ مِمَّنْ لديه علمٌ بذلك من الأمم السابقة، ولا نَظَرَ في الكُتُبِ التي فيها ذِكْرُها، كما سبق الإشارة إليه، فدَلَّ ذلك على أنَّه إنَّما عرَّفَه بذلِك ربُّهُ سبحانَه وتعالى.[/size]
[size=29.3333]قولُهُ تعالى: {وَيا آدَمُ} الْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: {اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً} سورة الْأَعْرَاف، الْآيَةَ: 18. فَهَذِهِ الْوَاوُ مِنَ الْمَحْكِيِّ لَا مِنَ الْحِكَايَةِ، فَالنِّدَاءُ وَالْأَمْرُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ الْمَحْكِيِّ يُقَالُ: أَيْ قَالَ اللهُ لِإِبْلِيسَ اخْرُجْ مِنْهَا وَقَالَ لِآدَمَ وَيا آدَمُ اسْكُنْ، وَهَذَا مِنْ عَطْفِ الْمُتَكَلِّمِ بَعْضَ كَلَامِهِ عَلَى بَعْضٍ، إِذَا كَانَ لِبَعْضِ كَلَامِهِ اتِّصَالٌ وَتَنَاسُبٌ مَعَ بَعْضِهِ الْآخَرِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْكَلَامَيْنِ مُوَجَّهًا إِلَى الَّذِي وُجِّهَ إِلَيْهِ الْكَلَامُ الْآخَرُ، مَعَ اتِّحَادِ مَقَامِ الْكَلَامِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُتَكَلِّمُ مَعَ مُتَعَدِّدِينَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَيُقْبِلُ عَلَى كُلِّ مُخَاطَبٍ مِنْهُمْ بِكَلَامٍ يَخُصُّهُ وَمِنْهُ قَول النّبيّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي قَضِيَّةِ الرَّجُلِ وَالْأَنْصَارِيِّ الَّذِي كَانَ ابْنُ الرَّجُلِ عَسِيفًا عَلَيْهِ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أَمَّا الْغَنَمُ وَالْجَارِيَةُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغَدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى زَوْجَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا))، وَمِنْ أُسْلُوبِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا فِي قَوْله تَعَالَى في سورة يوسف ـ عليه السلامُ: {قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} الآيتان: 28، 29. حِكَايَةً لِكَلَامِ الْعَزِيزِ، أَيِ الْعَزِيزِ عَطَفَ خِطَابَ امْرَأَتِهِ عَلَى خِطَابِهِ لِيُوسُفَ.[/size] [size=29.3333]فَلَيْسَتِ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَيا آدَمُ اسْكُنْ بِعَاطِفَةٍ عَلَى أَفْعَالِ الْقَوْلِ الَّتِي قَبْلَهَا حَتَّى يَكُونَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ، لأنَّ ذَلِك يُفِيتُ النُّكَتَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَذَلِكَ فِي حَضْرَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ فِيهَا آدَمُ وَالْمَلَائِكَةُ وَإِبْلِيسُ حُضُورًا.[/size]
[size=29.3333]وقولُه: {تَكُونَا} يَحْتَمِلُ الجَزْمَ عَطْفاً على "تَقْرَبَا" كما يَحْتَمِلُ النَّصْبَ على أَنَّه جَوابُ النَهْيِ.[/size]