[size=29.3333]قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [/size]
[size=29.3333](16)[/size]
[size=29.3333]قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {فَبِما أَغْوَيْتَنِي} الْإِغْوَاءُ إِيقَاعُ الْغَيِّ فِي الْقَلْبِ، أَيْ فَبِمَا أَوْقَعْتَ فِي قَلْبِي مِنَ الْغَيِّ وَالْعِنَادِ وَالِاسْتِكْبَارِ، لِأَنَّ كُفْرَ إِبْلِيسَ لَيْسَ عن جَهْلٍ، بَلْ هُوَ كُفْرُ عِنَادٍ وَاسْتِكْبَارٍ. وَالْإِغْوَاءُ أيضاً الْإِهْلَاكُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} سورة مريم، الآية: 19. أَيْ هَلَاكًا. وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ تعالى عنهما: الْإِضْلَالُ وَالْإِبْعَادُ، وَقِيلَ المعنى: خَيَّبْتَنِي مِنْ رَحْمَتِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ المُرقِّشُ الأصغرُ:[/size]
[size=29.3333]فمَنْ يلقَ خيراً يحمدِ الناسُ أَمْرَهُ .... ومَنْ يَغْوَ لا يَعْدَمْ على الغَيِّ لائِما [/size]
[size=29.3333]أَيْ مَنْ يَخِبْ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: يُقَالُ غَوَى الرَّجُلُ يَغْوِي غَيًّا إِذَا فَسَدَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، أَوْ فَسَدَ هُوَ فِي نَفْسِهِ. وَهُوَ أحد معاني قولهِ تَعَالَى في سورة طه: {وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى} الآية: 21. أَيْ فَسَدَ عَيْشُهُ فِي الْجَنَّةِ. وَيُقَالُ: غَوَى الْفَصِيلُ إِذَا لَمْ يَدْرِ لَبَنَ أُمِّهِ. ومَذْهَبُ أَهْلِ السنة أي أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَضَلَّهُ وَخَلَقَ فِيهِ الْكُفْرَ، وَلِذَلِكَ نَسَبَ الْإِغْوَاءَ فِي هَذَا إِلَى اللهِ تعالى وهو الحقيقةُ، فلا شيءَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا وَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ، صَادِرٌ عَنْ إِرَادَتِهِ تَعَالَى. وَخَالَفَ الْإِمَامِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَغَيْرُهُمَا شَيْخَهُمْ إِبْلِيسَ الَّذِي طَاوَعُوهُ فِي كُلِّ مَا زَيَّنَهُ لَهُمْ، وَلَمْ يُطَاوِعُوهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَيَقُولُونَ: أَخْطَأَ إِبْلِيسُ، وَهُوَ أَهْلٌ لِلْخَطَأِ حَيْثُ نَسَبَ الْغَوَايَةَ إِلَى رَبِّهِ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: وَإِبْلِيسُ وَإِنْ كَانَ أَهْلًا لِلْخَطَأِ فَمَا تَصْنَعُونَ فِي نَبِيٍّ مُكَرَّمٍ مَعْصُومٍ، وهُو نوحٌ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ حَيْثُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} سورة هود، الآية: 34. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ طَاوُسًا جَاءَهُ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَكَانَ مُتَّهَمًا بِالْقَدَرِ، وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْكِبَارِ، فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ طَاوُسٌ: تَقُومُ أَوْ تُقَامُ؟ فَقِيلَ لِطَاوُسٍ: تَقُولُ هَذَا لِرَجُلٍ فَقِيهٍ! فَقَالَ: إِبْلِيسُ أَفْقَهُ مِنْهُ، يَقُولُ إِبْلِيسُ: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي. وَيَقُولُ هَذَا: أَنَا أَغْوِي نَفْسِي. [/size]
[size=29.3333]قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} أي: قالَ إبليس فَبِما أَغْوَيْتَنِي أضللتني عن الهدى لأقعدن لهم صراطك المستقيم يعني لأجلسن على طريقك القويم وهو طريق الإسلام للصَّدِّ عَنْهُ، وَتَزْيِينِ الْبَاطِلِ حَتَّى يَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ، أَوْ يَضِلُّوا كَمَا ضَلَّ، أَوْ يَخِيبُوا كَمَا خُيِّبَ، حسب ما تقدم من المعاني الثلاثة في "أَغْوَيْتَنِي". وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلُ إِلَى الْجَنَّةِ. وقيل المراد بالصراط المستقيم الطريق الذي يسلكونه إلى الجنة وذلك بأن أوسوس إليهم وأزين لهم الباطل وما يكسبهم المآثم. وقيل: المراد بالصراط المستقيم هنا طريق مكة يعني يمنعهم من الهجرة. وقيل: المراد به الحج. والقول الأول أولى لأنه يعم الجميع، أي لأردنّ بني آدم عن عبادتك وطاعتك ولأغوينهم ولأضلنّهم كما أضللتني. قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ الشيطان قعد لابن آدم بأطرقة قعد له في طريق الإسلام فقال تسلم وتذر دين آبائك وآباء آبائك فعصاه وأسلَم، وقعد له بطريق الهجرة فقال تهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول فعصاه فهاجر وقعد له بطريق الجهاد فقال تجاهد فهو جهد النفس والمال فتُقاتل فتُقتَل فتُنْكَحَ المرأةُ، ويُقسَم المال، فعصاه فجاهد. قال: فمن فعل ذلك كان حقّاً على الله أن يدخله الجنة وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة أو وقصته دابته كان حقّاً على الله أن يدخله الجنة)). أخرجه النَّسائي.[/size]
[size=29.3333]قولُهُ تعالى: {قال فبما أغويتني} الظاهر أنَّ الباءَ قَسَمِيَّةٌ، أي: فأقسم بإغوائك لأقعدنَّ، وهي متَعَلِّقَةٌ بفعل القسم المحذوف والتقديرُ: فبما أغويتني أُقسم بالله لأقعدنَّ. أو هي السببيَّةُ، والمعنى: فبسبب وقوعي في الغَيِّ لاجتهدنّ في إغوائهم حتى يَفْسُدوا بسببي كما فَسَدْتُ بسببهم. وقيل هي بمعنى مع والمعنى فمع إغوائك إياي، وقيل "ما" في فبما أغويتني للاستفهام والمعنى فبأي شيءٍ أغويتني والأوَّلُ أَوْلى. والأظهر أنها مصدرية أي : فبإغوائك إياي . ويجوز أن تكون استفهامية يعني أنه استفهم عن السبب الذي أغواه به فقال: فبأي شيء من الأشياء أغويتني؟ ثم استأنف جملةَ أقْسَمَ فيها بقوله "لأقعدنَّ". وهذا ضعيفٌ عند بعضِهم أو ضرورةٌ عند آخرين من حيث إنَّ "ما" الاستفهامية إذا جُرَّت حُذِفَتْ ألفها، ولا تَثْبت إلاَّ في شذوذ كقولهم: عمَّا تسأل؟ أو ضرورةً كقولِ حسان بن المنذر يهجو بني عائذ بن عمرو بن مخزوم: [/size]
[size=29.3333]على ما قام يَشْتِمني لئيمٌ ..................... كخنزيرٍ تمرَّغَ في رمادِ[/size]
[size=29.3333]وْقبله:[/size]
[size=29.3333]وإن تصلح فإنك عائذي .................. وصلح العائذي إلى فساد[/size]
[size=29.3333]ويَجوزُ أَنْ تكونَ "ما" بتأويلِ الشَرْطِ، والباءُ مِنْ صِلَةِ الإِغواء، والفاءُ المضمرةُ جوابُ الشّرطِ، والتقدير: فبأي شيء أغويتني فلأقعدنَّ لهم صراطك. فتُضْمر الفاءَ في جواب الشرط كما تضمرها في قولك "إلى ما أومأتَ إني قابلُه، وبما أمرت إني سامعٌ مطيع". وهذا ضعيف جداً، فإنه على تقدير صحة معناه يمتنع من حيث الصناعة، فإن فاء الجزاء لا تُحذف إلا في ضرورة شعر كقول عبد الرحمن بن حسان بن ثابت ـ رضي اللهُ عنهه: [/size]
[size=29.3333]مَنْ يفعلِ الحسناتِ اللهُ يشكرُها ......... والشرُّ بالشر عند الله مِثْلان[/size]
[size=29.3333]أي: فالله. وقيل إنَّ هذا البيت لكعب بنِ مالك وكان، المبرد لا يُجَوِّز ذلك ضرورة أيضاً، وينشد البيت المذكور: [/size]
[size=29.3333]مَنْ يفعل الخير فالرحمن يشكره ......... والشرُّ بالشر عند الله مِثْلان[/size]
[size=29.3333]فيكون قوله: "لأقعدنَّ" جوابَ قسم محذوف، وذلك القسم المقدر وجوابه جواب الشرط، فيقدِّرُ دخول الفاء على نفس جملة القسم مع جوابها تقديره: فبما أغويتني فواللهِ لأقعدنَّ.[/size]
[size=29.3333]وَقولهُ: {صِراطَكَ} مَنْصُوبٌ عَلَى حَذْفِ "عَلَى" أَوْ"فِي" مِنْ قَوْلِهِ: "صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ"، كَمَا حَكَى سِيبَوَيْهِ "ضَرَبَ زَيْدٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ". وَأَنْشَدَ لساعدةَ بنِ جُوَيَّة قولَه يصفَ رُمْحاً لَيِّنَ الهَزِّ:[/size]
[size=29.3333]لَدْنٌ بِهَزِّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ ............ فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَريقَ الثَعْلَبُ[/size]
[size=29.3333]يُريدُ عَسَلَ في الطريق. فشبَّه اضطرابَهُ في نفسِه أو في حالِ هَزِّهِ بعَسَلانِ الثعلبِ في سَيْرِه. والعَسْلُ العَسَلان (بالتحريك): سيرٌ سَريعٌ في اضْطِرابٍ. واللَّدْنُ: الناعِمُ. والجملة مستأنفة.[/size]