[size=29.3333]كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ[/size]
[size=29.3333](2)[/size]
[size=29.3333]قَوْلُهُ تَعَالَى شأنُه: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} أَيْ هَذَا كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ أَيْ مِنْ رَبِّكَ، أيْ القَدْرُ الذي كان قد نَزَلَ مِنْهُ وقْتَ نُزولِ هذِهِ الآيةِ، ونُكِّيرَ الكتابُ هُنا لِبيانِ شَرَفِهِ العَظيمِ، أيْ أَنَّه كِتابٌ بالغُ الغايَةِ في شَرَفِهِ ورِفْعَتْهِ ومُؤدَّاهُ، لأنَّه مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعالى العالِمِ بِكُلِّ شيْءٍ، والقادِرِ على كلِّ شيْءٍ وهو العزيزُ الحَكيمُ. [/size]
[size=29.3333]وبُنِيَ الفِعلُ للمَفعولِ جَرْياً على سَنَنِ الكِبْرياءِ وإيذاناً بالاسْتِغْناءِ عَنِ التَصْريحِ بالفاعِلِ لِغايَةِ ظُهورِ تَعَيُّنِهِ وهُو السِرُّ في تَرْكِ ذِكْرِ مَبْدَأِ الإنْزالِ، وصيغةُ الماضي "أُنْزِلَ" لِتَحَقُّقِّ الإنزالِ. وقيلَ بأَنَّ المُرادَ بالكِتابِ هُنا السُورةُ وليسَ بِشَيْءٍ. [/size]
[size=29.3333]قولُهُ: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} حَرَجٌ: أَيْ ضِيقٌ، أَيْ لَا يَضِيقُ صَدْرُكَ بِالْإِبْلَاغِ، فَظَاهِرُهُ النَّهْيُ، وَمَعْنَاهُ نَفْيُ الْحَرَجِ عَنْهُ، أَيْ لَا يَضِيقُ صَدْرُكَ أَلَّا يُؤْمِنُوا بِهِ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ سِوَى الإنذارِ بِهِ، فقد رُوِيَ عَنْهُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً)). الْحَدِيثَ. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. والثَلْغُ: الشَدْخُ. أيْ ضَرْبُكَ الشيءَ الرَّطْبَ بالشَّيْءِ اليابِسِ حتَّى يَنْشَدِخَ.[/size]
[size=29.3333]وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ} سورة الكهف، الْآيَةَ: 6. وَقَالَ في سورة الشعراء: {لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} الآية: 3. وَمَذْهَبُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ الْحَرَجَ هُنَا الشَّكُّ، وَلَيْسَ هَذَا شَكَّ الْكُفْرِ إِنَّمَا هُوَ شَكُّ الضِّيقِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى في سورة الحجر: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ} الآية: 97. وبذلك قالَ ابْنُ عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ وأَصْلُ الحرجِ الضيقُ، واسْتِعمالُه في ذلك مَجازٌ، وعلاقتُه اللُّزومُ فإنَّ الشاكَّ يَعْتَريهِ ضِيقُ الصَدْرِ، وبالعكس فإنَّ صاحبَ اليقينِ يشعر بانْشراحٍ في صدرِه وانْفِساحٍ. والحَرِجِ والضِيقِ ممتنعٌ حقيقةً مِنَ الكِتابِ الكريم، وإنْ جازَ ذلك فهوَ كِنايةٌ. وفي الحالين هو حقيقةٌ عُرْفِيَّةٌ، يَشْهَدُ لذلك قولُهُ تَعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} سورةُ يَونس، الآيةُ: 94. وجائزٌ أَنْ يَكونَ يكون في الكلامِ مُضافٌ مُقَدَّرٌ كَخَوْفِ عَدَمِ القَبُولِ أو خوفِ التَكذيبِ، فإنَّهٌ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ كان يَخافُ تَكْذيبَ قومِهِ وإعْراضَهم عَنْهُ وأَذاهم لَه. ويَشْهَدُ لهذا التأويلِ قولُهُ تَعالى في سورة هود: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} الآية: 12. وتوجيهُ النَهْي إلى الحَرَجِ بمعنى الشَكِّ مَعَ أَنَّ المُرادَ نَهْيُهُ عن ذلك إمَّا للمُبالَغَةِ في تَنْزيهِ ساحتِهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ عنِ الشَكِّ، فإنَّ النَهْيَ عنِ الشيءِ ممَّا يُوهِمُ إمْكانَ صُدورِ المَنْهِيِّ عنْهُ عَنِ المَنهي، وإمَّا للمُبالَغَةِ في النَّهْيِ فإنَّ وُقوعَ الشَكِّ في صدْرِهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ سَبَبٌ لاتِّصافِهِ به ـ وحاشاهُ مِنْ ذلك ـ والنَهي عَنِ السببِ نَهْيٌ عنِ المُسَبَّبِ بالطريقِ البُرهانيِّ، ونَفيٌ لَهُ بالمَرَّةِ كما في قولِهِ سبحانَه وتعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ} المائدة: 8. [/size]
[size=29.3333]وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ. وَفِيهِ بُعْدٌ. وَالْهَاءُ فِي "مِنْهُ" لِلْقُرْآنِ. وَقِيلَ: لِلْإِنْذَارِ، أَيْ أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ لِتُنْذِرَ بِهِ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ. فَالْكَلَامُ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. وَقِيلَ لِلتَّكْذِيبِ الَّذِي يُعْطِيهِ قُوَّةُ الْكَلَامِ. أَيْ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ ضِيقٌ مِنْ تَكْذِيبِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُ. [/size]
[size=29.3333]قولُهُ: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} لتنذر به الذين يكفرون، بأنْ تُبيِّنَ بالكِتابِ عاقبةَ كفرِهم، وسوءَ النَّتيجةِ التي تَنْزِلُ بِهم، وهي العذابُ الأَليمُ، وليسَ عليكَ تَبِعَةَ كُفرِهم، {إنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولكلِّ قومٍ هاد}، و{إنَّكَ لَا تهدي مَنْ أَحببتَ ولكنَّ اللهَ يَهدي مَنْ يَشاء}. والذكرى هي التذكيرُ الدائمُ، فهذا الأمرُ ذِكرى ليتذكروا بما فيه ويتدبرونَه فيعلمون بهِ الحَقَّ مِنَ الباطلِ، ويَذْكُرونَ بِهِ ما فُرِضَ عَلَيْهم.[/size]
[size=29.3333]قوله تعالى: { كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} تقدَّمَ أنَّ "كتابٌ" خبرُ {المص} قَبْلَهُ، أو هو خبرُ مُبتَدأٍ مُضمرٍ تقديره: هو كتابٌ، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ مُبتَدأً خبرُه "فلا تكن" والفاءُ زائدةٌ على رأيِ الأَخْفَشِ، وهو بعيدٌ. و"أُنْزِل" صفتُه، والقائمُ مقامَ الفاعلِ في "أُنْزِل" ضميرٌ عائدٌ على الكتاب. ولا يجوز أَنْ يكونَ الجارَّ لِئَلّا تَخْلوَ الصفةُ مِنْ عائدٍ. و"منه" متعلقٌ بـ "حَرَجٌ". و"مِنْ" سببيَّة، أيْ: حَرَجٌ بِسببِهِ تقول: حَرِجْتُ مِنْه أيْ: ضِقْتُ بسببِه، ويَجوزُ أَنْ يَتَعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه صِفةٌ لَه، أيْ: حَرَجٌ كائنٌ وصادرٌ منه. والضمير في "منه" الظاهرُ أنَّه يَعودَ على "كتابِ"، ويَجوزُ أَنْ يَعودَ على الإِنزالِ المَدْلولِ عليْه بـ "أُنْزِل"، أوْ على الإِنذارِ أو على التَبْليغِ المَدلولِ عليهِما بِسِياقِ الكلامِ، أوْ على التَكْذيبِ الذي تَضَمَّنَهُ المَعنى. والنَهْيُ في الصورةِ للحَرَجِ، والمرادُ الصادرُ مِنْهُ، مُبالَغَةً في النَهْيِ عنْ ذلكَ، كأنَّه قيلَ: لا تتعاطَ أَسْباباً يَنْشَأُ عنها حَرَجٌ، وهو مِنْ بابِ لا أُرَيَنَّكَ هَهُنا: النهي متوجه على المتكلم والمرادُ به المخاطبُ، كأنَّه قال: لا تكنْ بحضرتي فأراك. ومثلُه: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ} طه: 16.[/size]
[size=29.3333]قوله: {لتنذرَ به} هذه الجملةُ مُتَعَلِّقَةٌ بـ "أُنْزِل" أيْ: أُنْزِلَ إليك للإِنذارِ، اللامُ في "لتنذرَ" مَنْظومٌ بقولِه "أُنْزِل" على التقديم والتأخير، والتقديرُ: كتابٌ أُنْزِلَ إليكَ لِتُنذِرَ بِهِ فلا يَكنْ. وهو رأي الفَرّاءِ، وتبعه كلٌّ من الزمخشريِّ والحُوفِيِّ وأبي البَقاءِ. وعلى هذا تكونُ جملةُ النَهْي مُعترِضَةً بيْن العِلَّةِ ومَعْلولِها، وهو المعَنيُّ بـ "على التقديم والتأخير". وقال ابْنُ الأَنباري أنَّ اللامَ متعلقةٌ بما تعلَّق بِهِ خَبَرُ الكَوْنِ، إذِ التقديرُ: فلا يكنْ في صدرِك حَرَجٌ مِنْه كي تُنْذِرَ بِه، فَجَعَلَه مُتَعَلِّقاً بما تعلَّق به "في صدرك"، فعلى هذا لا تكونُ الجملةُ معترضةً، هذا ما نقلَه أبو حيّان التوحيديّ. ونَقَلَ الواحدِيُّ عنه أَنَّ اللامَ متعلقةٌ بالكون، وقيل بأنَّ اللامَ بمَعنى "أن". ويجوز أن تكون "جملة لتنذر به" متعلقةً بنفس الكون، وهو مذهبُ ابْنِ الأنباريِّ والزَمَخْشَرِيِّ. قال أبو بكرٍ ابْنُ الأنباريِّ: ويجوزُ أَنْ تَكونَ اللامُ صلةً للكونِ على مَعْنى: فلا يَكنْ في صدرِكَ شيءٌ لِتُنْذَرَ، كما يقولُ الرَّجُلُ للرَّجُلِ: لا تَكُنْ ظالِماً لِيَقْضِيَ صاحبُك دَيْنَهُ، فَتَحْمِل لامَ كي على الكون. وقال الزمخشري: فإن قلت: بمَ تَعَلَّق به "لتنذر"؟ قلت بـ "أُنْزِل" أي: أُنْزل لإِنذارك به، أو بالنهي، لأنّه إذا لم يُخِفْهم أَنْذَرَهُمْ، وكذا إذا علم أَنَّه مِنْ عندِ اللهِ شَجَّعه اليَقين على الإِنذارِ. فقوله بالنهي ظاهره أنه يتعلَّق بفعل النهي، فيكون متعلقاً بقوله "فلا يكن"، وكان عندهم في تعليق المجرور والعمل في الظرف فيه خلافٌ، ومبناه على أنَّ "كان" الناقصة هل تدلُّ على حَدَثٍ أم لا؟ فمن قال إنها تدلُّ على الحدث جوَّز ذلك، ومَنْ قال لا تدلُّ عليه مَنَعَه. فالصحيحُ أن الأفعالَ الناقصة كلَّها لها دلالةٌ على الحدث إلا "ليس". وفيه وجهٌ آخرُ وهو أنْ تَكونَ اللامُ بمَعنى أَنْ والمعنى: لا يَضِقْ صدرُك ولا يضعُفْ عن أنْ تُنذِرَ بِه، والعربُ تَضَعُ هذه اللامَ في موضِعَ "أَنْ" كقولِهِ تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللهِ} التوبة: 32. وفي موضع آخر: {لِيُطْفِئُواْ} الصفَّ: 8. فهما بمعنى واحد" وهذا مِنْ أَوْهَنِ الأَقْوالِ في ذلك، فكيف يكونُ حرفٌ يَخْتَصُّ بالأفعالِ يَقَعُ موقعَ آخرَ مختصٍ بالأسماء؟[/size]
[size=29.3333]قَوْلُهُ: {وَذِكْرى للمؤمنين} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَنَصْبٍ وَخَفْضٍ. فَالرَّفْعُ مِنْ وَجْهَيْنِ، قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: هِيَ رَفْعٌ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: عَطْفٌ عَلَى" كِتابٌ" وَالنَّصْبُ مِنْ وَجْهَيْنِ، عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ وَذَكِّرْ بِهِ ذِكْرَى، قال الْبَصْرِيُّونَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: عَطْفٌ عَلَى الْهَاءِ فِي "أَنْزَلْناهُ". وَالْخَفْضُ حَمْلًا عَلَى مَوْضِعِ "لِتُنْذِرَ بِهِ" وَالْإِنْذَارُ لِلْكَافِرِينَ، وَالذِّكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ. و يَجوزُ أَنْ تَكونَ اللاّمُ في "للمؤمنين" مَزيدةً في المَفْعولِ بِهِ تَقْويةً لَه، لأنَّ العاملَ فرعٌ، والتقديرُ: وتُذَكِّرَ المؤمنين. ويجوزُ أن يَتعلَّقَ بمَحذوفٍ لأنَّه صفةٌ لذِكرى.[/size]