[size=29.3333]أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ.
[/size]
[size=29.3333](156)[/size]
[size=29.3333]قولُه ـ تَعالى شَأْنُهُ: {أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قبلنا} مُتَّصِلٌ بالآياتِ التي قَبلَها، والطائفتان هما ـ كما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ وغيرُهُ: اليهودُ والنَّصارى. وتَخصيصُ الإنْزالَ بكِتابَيْهِما لأنَّهما اللذانِ اشْتُهِرا فيما بَيْنَ الكُتُبِ السَماويَّةِ ـ قبلَ نزول القرآنِ الكريم ـ بالاشْتِمالِ على الأحْكامِ. وفي الآيةِ قَطْعٌ للطَرِيقِ عَنْ تَعِلَّةِ المُتَعلِّلين بِأَنَّه لَا كِتابَ لهم يَهديهم، فالمَعنى وهذا كتابٌ مُبارَكٌ خاطَبْناكُمْ به وفيه مِنْهاجٌ كاملٌ لكمْ يَحْمِلُه رَسولٌ مِنْ أَكْرَمِكم نَفْساً وأَكْمَلِكم خَلْقاً وأَرْفَعِكم نَسَباً، لِئَلاَّ يَكونَ لَكم عُذرٌ، فقد أَنْزلْناهُ حُجَّةً عليكم، حتى لا تقولوا إنَّما أُنْزِلَ الكِتابُ على طائفتيْن، غريبتيْن عنّا ولَيْسَتا مِنّا، وهُما اليَهودُ والنَّصارى، أمَّا نحن فليس لَنا رسولٌ، ولم يُنَزَّلْ عَلَيْنا مِنْ عِنْدِ اللهِ كتابٌ حتَّى نَتَّبِعَ رسولَنا ونَعْمَلَ بكِتابِنا. فقد كان المُشركون يَعْتَذِرونَ عَنْ وَثَنِيَّتِهم بِكُلِّ تَعِلَّةٍ سواءً أَكانَتْ مَقْبولَةً أَوْ مَرْذولةً، وكانوا يَرَوْنَ اليَهودَ والنَّصارى لَا يَعبدونَ الحِجارةَ مثلهم، فيَعتَذِرون عنَ وَثَنِيَّتِهم بأنَّهُ لَمْ يَجئْهم كتابٌ يَهديهم إلى الحَقِّ كَهاتَيْنِ الطّائفتيْن.[/size]
[size=29.3333]قولُهُ: {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ} أيْ: وإنْ كُنَّا عن قراءةِ هذين الكتابين الكريمين "لَغافِلين" غَيْرَ مُلْتَفِتينَ لا نَدْري ما فيهما لأنَّهما لَيْسا بِلُغَتِنا، فلم نتمكنْ أَنْ نَتَلَقى مِنْهما ما فيه نَجاتُنا. ولَعَلَّهم عَنَوْا بِذَلِكَ التَوحيدَ، وقيلَ: تلكَ الأَحْكامَ المَذْكورَةَ في قولِهِ تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ} سورة الأنعام الآية: 151. وما بعدها وهي الوصايا العشر المكورة فيهما وفي جميع الرسالات والتعاليم السماوية السابقة، كما سبق تبيانُه، لأنَّها مبادئ عامّة ووصايا لِجميعِ بَني آدَمَ، لا تَخْتَلِفُ في عَصْرٍ مِن الأَعْصار. وبهذا تَبَيَّنَ أَنَّ مَعْذِرَتَهم هذِه، مَعَ أَنَّهم غيرُ مَأمورين بِما في الكِتابَيْنِ (التوراة والإنجيل) لاشْتِمالِهِما على الأَحْكامِ المَذكورةِ المُتناوِلَةِ لِكافَّةِ الأُمَمِ. كما أَنَّ قَطْعَ تِلكَ المَعْذِرَةَ بإنْزالِ القرآن الكريم لاشْتِمالِهِ أَيْضاً عَليها وعَلى سائرِ الشَرائعِ والأَحكامِ.[/size]
[size=29.3333]قولُهُ ـ تَعالى شأنُهُ: {أَن تقولوا} هو مفعولٌ مِنْ أًجْلِهِ، واعتبرَ الشيخُ أبو حيَّانَ التَوحيديّ أنَّ العاملَ فيهِ "أَنزلناه" مُقدَّراً مَدْلولاً عليه بِـ "أنزلناه" تَقديرُهُ: أَنْزَلْناهُ أَنْ تَقولوا. ولا يجوزُ أَنْ يَعمَلَ فيهِ "أنزلناه" المَلْفوظُ بِهِ لِئَلاَّ يَلْزَمَ الفَصْلُ بينَ العامِلِ ومَعمولِه بأجْنَبِيٍّ، وذلك أَنَّ "مبارك" إمَّا صِفَةٌ وإمَّا خَبَرٌ وهًوَ أَجْنَبِيٌّ بِكُلٍّ مِنَ التَقْديريْن، وهذا الذي مَنَعَه هُوَ ظاهِرُ قولِ الكِسائيِّ والفَرَّاءِ.[/size]
[size=29.3333]ويَجوزُ أَنْ يَكونَ "أَن تقولوا" مَفْعولاً بِهِ، والعاملُ فيه "واتقوا" أي: واتَّقوا قَولَكم كَيْتَ وكَيْتَ. [/size]
[size=29.3333]وقَوْلُهُ: {لعلكم ترحمونْ} مُعْتَرِضٌ جارٍ مَجْرى التَعليلِ، وعلى كَوْنِهِ مَفعولاً مِنْ أَجْلِهِ يَكونُ تقديرُه عندَ البَصْرييّنَ على حَذْفِ مُضافٍ تَقديرِهِ: "كَراهَةَ أَنْ تَقولوا"، وعندَ الكُوفيّينَ يَكونُ تُقديرُهُ: "أَنْ لا تَقولُوا" كَقولِهِ: {رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} سورة النّحل: 15. أيْ: "أَنْ لا تَميدَ بِكُمْ" وهذا مُطَّردٌ عندَهم في هذا النحوِ، وقدْ تَقَدَّمَ ذَلك غيرَ مَرَّةٍ. [/size]
[size=29.3333]قوله: {وَإِنْ كُنَّا عن دراستِهم لغافلين} "إنْ" مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَقيلَةِ عِنْدَ البَصْريّين، وهيَ هُنا مُهْمَلَةٌ ولِذلك وَلِيَتْها الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ، وقدْ تَقَدَّمَ تَحقيقُ ذَلك، وأَنَّ الكُوفيّين يَجعلونَها بِمَعنى "ما" النافية، واللامُ بمَعنى إلاّ، والتَقديرُ: ما كنّا عَنْ دِراسَتِهم إلاّ غافلين. وقالَ الزَّجّاجُ بِمِثْلِ ذلك، فنَحا نَحْوَ الكُوفِيّين. وقالَ قُطْرُب: "إنْ" بمَعنى قَدْ واللامُ زائدةٌ. وقال الزمخشري بعدَ أَنْ قَرَّرَ مَذْهَبُ البَصْريّين كَما تقَدَّمَ، والأَصْلُ: إنَّه كُنّا عَنْ عِبادَتِهم. فقدَّرَ لَها اسْماً مَحْذوفاً هُوَ ضَميرُ الشَأْنِ، كَما يُقَدِّرُ النَّحْوِيّون ذلك في "أَنْ" بالفَتْحِ إذا خُفِّفَتْ، وهذا مُخالِفٌ لِنُصوصِهم، وذَلكَ أَنَّهم نَصُّوا على أنَّ "إنْ" بالكَسْرِ إذا خُفِّفتْ ولِيَتْها الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ الناسِخَةُ فلا عَمَلَ لَها لا في ظاهِرٍ ولا مُضْمَرٍ. و"عن دراستهم" مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "كنّا" وهو"غافلين"، وفيه دَلالةٌ على بُطلان مَذْهَبِ الكُوفِيّين في زَعْمِهم أَنَّ اللامَ بمَعنى إلاَّ، ولا يَجوزُ أَنْ يَعمَلَ ما بَعْدَ "إلا" فيما قبلَها فكذلك ما هو بمَعْناها.[/size]
[size=29.3333]قال الشيخ: ولهم أنْ يَجْعلوا "عنها" مُتَعَلِّقاً بمَحْذوفٍ. وتَقَدَّمَ أَيْضاً خِلافُ أَبي عَلِيٍّ في أَنَّ هذِهِ اللامُ ليستْ لامَ الابْتِداءِ بَلْ هي لامٌ أُخرى. ويَدُلُّ أَيضاً على أَنَّ اللامَ لامُ ابْتِداءٍ لَزِمَتْ للفَرْقِ فجازَ أَنْ يَتَقدَّمَ معمولُها علَيْها لمَّا وَقَعَتْ في غيرِ ما هُو لَها أَصْلٌ، كما جازَ ذلك في: "إنَّ زيداً طعامَك لآكِلٌ" حيْثُ وَقَعَتْ في غَيْرِ ما هُوَ لَها أَصْلٌ، ولَمْ يَجُزْ ذَلك فِيها إذا وَقَعَتْ فيما هُوَ لَها أَصْلٌ وهوَ دُخولُها على المُبْتَدَأِ. وقالَ أَبو البَقاءِ: واللامُ في "لَغافِلين" عِوَضٌ أَوْ فارِقَةٌ بَيْنَ "إنْ" و"ما". وقولُ أبو البقاء: "عِوَضٌ" عِبارَةٌ غَريبَةٌ، وأَكْثَرُ ما يُقالُ إنَّها عِوَضٌ عَنِ التَشديدِ الذي ذَهَبَ مِنْ إنَّ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ.[/size]
[size=29.3333]قَرَأَ الجُمهورُ "تقولوا" بتاءِ الخِطابِ. وقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ "يقولوا" بياءِ الغَيْبَةِ.[/size]