قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
(151)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حرَّمَ ربُّكم عَلَيْكُمْ} قُلْ يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ، الذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللهِ، وَحَرَّمُوا بعضَ مَا رَزَقَهُمُ اللهُ، وَقَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ، وَذَلِكَ إرضاءً لأَهْوَائِهِمْ، وعملاً بوحيِ شياطينِهم، فقُلْ لَهُمْ يا رسولَ الله: تَعَالَوْا أَقْرَأْ عَلَيْكُمْ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّاً يَقِينًا وَصِدْقاً، لاَ تَخَرُّصاً وَظَنّاً وَتَخْمِيناً، وأبيِّنُه لكم كَمَا أَوْحَى إِلَيَّ رَبِّي بِهَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَمْرٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ بِأَنْ يَدْعُوَ جَمِيعَ الْخَلْقِ إِلَى سَمَاعِ تِلَاوَةِ مَا حَرَّمَ اللهُ. وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُبَلِّغُوا النَّاسَ وَيُبَيِّنُوا لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِمَّا أحَلَّ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} سورة آل عمران، الآية: 187. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ أَنَّ رَبِيعَ بْنَ خَيْثَمٍ قال لِجَلِيسٍ لَهُ: أَيَسُرُّكَ أَنْ تُؤْتَى بِصَحِيفَةٍ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يُفَكَّ خَاتَمُهَا؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ فَاقْرَأْ "قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ" فَقَرَأَ إِلَى آخِرِ الثَّلَاثِ الْآيَاتِ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ ـ رضي اللهُ عنه: هَذِهِ الْآيَةُ مُفْتَتَحُ التَّوْرَاةِ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: قُلْ تعالوا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) وقد تقدَّم عَن كَعْبٍ أيضاً أَوَّلَ السُورَةِ أَنَّ أَوَّلَ الأنْعامِ مُفْتَتَحُ التَوراةِ.
قولُهُ: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وهُوَ أَوَّلُ المُحَرَّماتِ الإشْراكُ بِاللهِ ـ سُبْحانَه وتعالى ـ فبدأ به لأنَّ فيه منَ الظُلمِ الجَسيمِ ما لا يُقدَّرَ، أَنْ يَدَّعِيَ المَرءُ وُجُودَ شَريكٍ للهِ في مُلْكِهِ، أو أنْ يَعْبُدَ مَعَهُ غيرَهُ، قالَ تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} سورة لُقمان، الآية: 13. فقد حذَّرَ لقمان ابنَهُ من سوءِ عاقِبَةِ الشرك وعدَّه ظلماً عظيماً لنفسِهِ إذ يعرضها إلى ما لا تطيق من غضب اللهِ وسَخَطِهِ، وشديدِ انتقامِه وأليم عذابه. وما مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ جاءَ بِتوحيدِ اللهِ وتَحريمِ الشِرْكِ به والتحذيرِ من عاقبة ذلك، فهو الذَّنْبُ الذي لا يَغْفِرُهُ اللهُ تعالى لِعَبْدِهِ، ولا يَتَجاوَزُ عنه أَبَداً، قال تعالى: {إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} سورة النساء، الآية: فهو الإثمُ العَظيمُ والفِرْيَةُ الكُبْرى. ثمَّ قالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيداً} سورةُ النِساء، الآية: 116. فعدَّهُ الضَلالَ البَعيدَ الذي ليس بَعْدَهُ ضَلالٌ أَبَداً.
قولُه: {وبِالْوَالِدَيْنِ إحْساناً} فأمرَ اللهُ ـ عزَّ وجَلَّ ـ بالإحسانِ إلى الوالدين والْإِحْسَانُ إِلَيْهِما، بِرُّهُمَا وَحِفْظُهُمَا وَصِيَانَتُهُمَا وَامْتِثَالُ أَمْرِهِمَا وَإِزَالَةُ الرِّقِّ عَنْهُمَا ـ إنْ كانا رَقيقيْن ـ وَتَرْكُ السَّلْطَنَةِ عَلَيْهِمَا. وقد حَرَّمَ الإساءَةَ إليهِما، ولو بأبْسَطِ الكلماتِ وأَقَلِّها تَضَجُّراً وتَبَرُّماً {فلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ولا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} سورةُ الإسْراءِ، الآية: 23. فعلى الولد أنْ يَختارَ مِنَ الأَلْفاظِ أَرَقَّها وألطفَها عندما يخاطبهما، وعليه كذلك إظهارُ التذَلُّلِ إليهما والخُضوعِ لهما، قال: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} سورة الإسراء، الآية: 24. وقال ابْنُ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ يُريدُ البِرَّ بِهِما مَعَ اللُّطْفِ ولِينِ الجانِبِ فلا يُغْلِظْ لَهُما في الجَوابِ، ولا يُحِدُّ النَّظَرَ إليْهِما، ولا يَرْفَعُ صوتَه عليهِما، بَلْ يَكونُ بيْنَ يَدَيْهِما مِثْلَ العَبْدِ بيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِ تَذَلُّلاً لِهُما، وعليْهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُما بالخَيْرِ وبالرَّحْمَةِ من اللهِ والمغفرةِ جزاءَ صَنيعِهِما وتَحَمُّلِهِما المَشاقَّ في تَرْبِيَتِهِ والعِنايةِ به والقيامِ بخِدْمَتِهِ، عندما لم تَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ يَجْلِبُ بها لِنَفْسِهِ نَفْعاً أَوْ يدفعُ بها عن نَفْسِهِ أَذًى أو ضَرّاً، قال: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} سورة الإسراء، الآية: 24. فالتَقصيرَ في خِدمَتِهِما أوِ الإساءةُ إليهِما ـ مهما كانت هذه الإساءةُ بسيطةً ـ هي الجريمةُ الثانيةُ ـ بعدَ الشِرْكِ باللهِ ـ في فَظاعَتِها، إذِ الأُولى التَنَكُّرُ للخالِقِ ـ جلَّ وعَلا ـ وما خلقَهُ للعَبْدِ مِنْ نِعَمٍ، وما أَحاطَهُ بِهِ مِنْ عِنايةٍ ورِعايةٍ، بينَما الثانيةُ هي التَنَكُّرُ لِجميلِ مَنْ كانَ السَبَبَ في هذا الخَلْقِ، وهمُ الوالدانِ، ولأنَّهما الأَشَدُّ رَحْمَةً والأكثرُ عِنايةً وبَذْلاً بَعْدَ اللهِ ـ سبحانَهُ وتَعالى، ولِذلك فقدْ قرَنَ اللهُ طاعَتَهُما بطاعتِهِ، إلاَّ أَنْ يأمُرا بالشِرْكِ باللهِ أو مَعْصِيتِهِ فلا يُطاعا فيهما، ولكنْ على الولَدِ ـ مع ذلك ـ أَنْ يُحْسِنَ مُعامَلَتَهُما فيما وراءَ ذلك. قالَ تعالى: {وإنْ جاهداكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} لُقْمان: 15. فقد قرَنَ اللهُ الإساءَةَ إليهِما بالإشْراكِ بهِ ـ سُبحانَه وتعالى.
قولُهُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} أعْقَبَ اللهُ ـ سبحانَه ـ التَكْليفَ المُتَعَلِّقَ بالوالديْن بالتَكْليفِ المُتَعَلِّقِ بالأَوْلادِ لِكَمالِ المُناسَبَةِ، فقال ـ سبحانَه ـ في سورةِ الإسراء: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاقٍ} الآية: 31، أيْ خَشْيَةَ الفَقْرِ، وهُنا "من إملاق" أيْ مِنْ فَقْرٍ، أوْ بِسَبَبِ الفَقْرِ، فالخِطابُ في كُلِّ آيةٍ لِصِنْفٍ، وليسْ خِطاباً واحداً، فالمُخاطَبُ بقولِه: "مِنْ إملاق" مَنِ ابْتُليَ بالفَقْرِ، والمُخاطَبُ بقولِه تَعالى: {خَشْيَةَ إملاقٍ} مَنْ ليس بفقيرٍ ولكنْ يَخْشى وُقوعَه في المُسْتَقْبَلِ، ولِهذا قدَّمَ رِزْقَهَم هَا هنا فقال: "نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ" وقدَّمَ رِزْقَ أَوْلادِهِم هناك في مَقامِ الخَشْيَةِ فقال: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم}. وقيل: للتفنُّنِ في البَلاغَةِ. وأَحْسَنُ مِنْهُ أَنْ يُقالَ: الظاهرُ مِنْ قولِهِ "من إملاق" حُصولُ الإِمْلاقِ للوالِدِ لا تَوَقُّعُه وخَشْيَتُه، فبُدِئ أَوَّلاً بالعِدَةِ بِرِزْقِ الآباءِ بِشارةً لَهم بِزَوالِ ما هُمْ فيه مِنَ الإِمْلاقِ، وأَمَّا في آيةِ الإسراءِ فظاهِرُها أَنَّهم مُوْسِرونَ وإنَّما يَخْشَوْنَ حُصولَ الفَقْرِ ـ كما تقدَّم ـ ولِذلك قال: خَشْيَةَ إملاقٍ، وإنَّما يُخْشى الأمورُ المُتَوَقَّعَةُ فبُدئ فيها بضمانِ رِزْقِهم فلا مَعنى لِقَتلكم إيّاهم، فهذه الآيةُ تُفيدُ النَهيَ للآباءِ عنْ قتلِ الأولادِ وإنْ كانوا مُتَلَبِّسين بالفَقْرِ، والأُخرى عن قتلهم وإن كانوا مُوْسِرين، ولكنْ يَخافون وُقوعَ الفقرِ وإفادَةُ معنى جديدٍ أَوْلى مِنِ ادِّعاءِ كَوْنِ الآيَتَيْنِ بمَعنى واحدٍ للتَأْكيدِ.
والْإِمْلَاقُ الْفَقْرُ: أَيْ لَا تَئِدُوا ـ مِنَ الْمَوْءُودَةِ ـ بَنَاتِكُمْ خَشْيَةَ الْعَيْلَةِ، فَإِنِّي رَازِقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ. وَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالْإِنَاثِ وَالذُّكُورِ خَشْيَةَ الْفَقْرِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا مَنْ يَمْنَعُ الْعَزْلَ، لِأَنَّ الْوَأْدَ يَرْفَعُ الْمَوْجُودَ وَالنَّسْلَ، وَالْعَزْلُ مَنْعُ أَصْلِ النَّسْلِ فَتَشَابَهَا، إِلَّا أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ أَعْظَمُ وِزْرًا وَأَقْبَحُ فِعْلًا، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ العُلَمَاء: إِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ فِي الْعَزْلِ فيما أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وغيرُهُ: ((ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ)) الْكَرَاهَةُ لَا التَّحْرِيمُ وَقَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ بِإِبَاحَتِهِ أَيْضًا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ فيما أخرج أبو يَعلى في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صحيحٍ عن أَبي سَعيدٍ الخِدْريّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ((لَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا فَإِنَّمَا هُوَ الْقَدَرُ)). كما أخرجَ الحديثَ عددٌ مِنَ الأَئمَّةِ. أَيْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِي أَلَّا تَفْعَلُوا. وَقَدْ فَهِمَ مِنْهُ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى النَّهْيَ وَالزَّجْرَ عَنِ الْعَزْلِ. وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أولى، لقوله ـ عليه الصلاة والسلام: ((إذا أرادَ اللهُ خَلْقَ شيءٍ لمْ يَمْنَعْه شيءٌ)). قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ الْعَزْلُ عَنِ الْحُرَّةِ إِلَّا بِإِذْنِهَا. وَكَأَنَّهُمْ رَأَوُا الْإِنْزَالَ مِنْ تمامِ لَذَّاتِها، وَمِنْ حَقِّهَا فِي الْوَلَدِ.
قَوْلُهُ: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ} ولا تقربوا: أَمْرٌ بِتَجَنُّبِ المقدِّمات التي تُؤَدِّي إلى الفاحِشَةِ، وهي في حالِ كان الزِنا هوَ المَقصودُ مقدِّماتُه، كالنظر والخلوةِ والتَقبيلِ وما إلى ذلك. قال ابْنُ عبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنهُما ـ إنَّ الشَيْطانَ مِنَ الرَّجُلِ في ثلاثةِ مَنازِلَ: في عَيْنَيْهِ وفي قَلْبِهِ وفي ذَكَرِهِ، وهو مِنَ المَرْأَةِ في ثلاثةِ مَنازلَ: في عَيْنَيْها وفي قلبِها وفي عَجُزِها. و"الفواحشَ" جمعُ فاحشةٍ وهي الزِنا، وأتى بصيغةِ الجَمْعِ إمَّا للمُبالَغَةِ أوْ باعْتِبارِ تَعدُّدِ مَنْ يَصدُرُ عنْه أَو بقصدِ النَهْيِ عنِ كلِّ الأَنْواعِ، ولِذا أُبْدِلَ مِنْها قولُهُ: "مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ" أي ما يُفْعَلُ مِنْها عَلانِيَةً في الحَوانيتِ، كَما هُو دَأْبُ أَراذِلِهم، وما يُفْعَلُ سِرّاً باتِّخاذِ الأَخْدانِ كَما هُو عادةُ أَشْرافِهم، ورُويَ ذلك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ والضَحّاكِ والسُدِّيِّ ـ رضي اللهُ عنهم، وقيلَ: المُرادُ بها المعاصي كُلِّها. نَظِيرُهُ قولُهُ تعالى: {وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ} سُورةُ الأنْعامِ، الآيةُ: 120. فَقَوْلُهُ: "مَا ظَهَرَ" نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْفَوَاحِشِ وَهِيَ الْمَعَاصِي. "وَما بَطَنَ" ما عَقَدَ عليْهِ القلبُ. وَظَهَرَ وَبَطَنَ حَالَتَانِ تَسْتَوْفِيَانِ أَقْسَامَ مَا جُعِلَتْ لَهُ مِنَ الأَشْياءِ.
قَوْلُهُ: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} هَذِهِ الْآيَةُ نَهْيٌ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ، حَرَّمَ قتلَها بأنْ عصمَها بالإسْلامِ أَوْ بالعَهْدِ، مُؤْمِنَةً كَانَتْ أَوْ مُعَاهَدَةً إِلَّا بِالْحَقِّ الَّذِي يُوجِبُ قَتْلَهَا. فيَخْرُجُ الحَرْبِيُّ، ويَدْخُلُ الذُمِّيُّ، فقد جاء في الصحيحين قَولُه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَقَدْ عَصَمَ مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ)) وَهَذَا الْحَقُّ أُمُورٌ: مِنْهَا مَنْعُ الزَّكَاةِ وَتَرْكُ الصَّلَاةِ، وَقَدْ قَاتَلَ الصِّدِّيقُ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَفِي التَّنْزِيلِ {فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} سورة التوبة، الآية: 5. وَهَذَا بَيِّنٌ. وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ)). البُخاري ومُسْلم. وَقَالَ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ)). رَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَد وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَهْ مِنْ حَدِيث الدَّرَاوَرْدِيّ عَنْ عَمْرو بْن أَبِي عُمَر عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس. وَفِي التَّنْزِيلِ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} سورة المائدة، الْآيَةَ: 33. وَقَالَ: {وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله} سورة الحجرات، الآية: 9. وَكَذَلِكَ مَنْ شَقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ وَخَالَفَ إِمَامَ جَمَاعَتِهِمْ وَفَرَّقَ كَلِمَتَهُمْ وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا بِانْتِهَابِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْبَغْيِ عَلَى السُّلْطَانِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ حُكْمِهِ يُقْتَلُ. فَهَذَا معنى قولِهِ: "إِلَّا بِالْحَقِّ". رَوَى مَطَرٌ الْوَرَّاقُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَشْرَفَ عَلَى أَصْحَابِهِ ـ المقصودُ هم أَهلُ الفِتْنَةِ الذين ثاروا عليه ثمَّ حاصروا دارَهُ وقَتَلوهُ ـ فَقَالَ: عَلَامَ تَقْتُلُونِي! فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: ((لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ حَصَانَةٍ فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ أَوْ قَتَلَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ أَوِ ارْتَدَّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ)) فَوَاللهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَلَا قَتَلْتُ أَحَدًا فَأَقِيدُ نَفْسِي بِهِ، وَلَا ارْتَدَدْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورُسُولُه، وَقَالَ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ وَلَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ)). أخرجه البيهقي وأبو يعلى والدارقطني. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: ((مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا فِي غَيْرِ كُنْهِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)). وَفِي رِوَايَةٍ أخرى لأَبي داوودَ قال: ((من قتل رجل مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَجِدْ رِيحَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ عَامًا)). فِي الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ((وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا)). خَرَّجَهُ مِنْ حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.
قَوْلُهُ: {ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} الْوَصِيَّةُ الْأَمْرُ الْمُؤَكَّدُ الْمَقْدُورُ. ذَلِكُمُ الَّذِي ذَكَرْتُ لَكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ "لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" أيْ تَستعمِلونَ عُقولَكمُ الّتي تَعقِلُ نُفوسَكُم وتَحْبِسُها عَنْ مُباشَرَةِ القَبائحِ المُحَرَّمَةِ.
قوله تعالى: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ ربُّكم عليكم} ما: أظْهَرُ الوجوه فيها أَنَّها مَوصولةٌ بمَعنى الذي والعائدُ مَحْذوفٌ، أي: الذي حَرَّمه، والموصول في مَحَلِّ نَصْبٍ مَفعولاً بِهِ. أو تكونُ مَصْدريةً، أيْ: أَتْلُ تَحريمَ رَبِّكم، ونفسُ التَحْريمِ لا يُتْلَى وإنَّما هو مصدرٌ واقعٌ مَوْقِعَ المَفعول بِه، أي: أَتْلُ مُحَرَّمَ رَبِّكُمْ الذي حَرَّمَهُ هو. أو أنّها اسْتِفْهامِيَّةٌ في مَحَلِّ نَصْبٍ بِـ "حرَّم" بعدَها، وهي مُعَلِّقة لـ "أَتْل" والتقدير: أَتْلُ أَيَّ شيءٍ حَرَّمَ رَبُّكم، وهذا ضعيفٌ لأنَّهُ لا تُعَلَّقُ إلاَّ أَفعالُ القُلوبِ وما حُمِلَ عَلَيْها. و"عليكم" إمّا أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بَـ "حَرَّمَ"، وهذا اختيارُ البَصريين. أو أنَّه مُتَعَلِّقٌ بـ "أَتْلُ" وهو اختيارُ الكوفيين، يَعني أَنَّ المَسْأَلَةَ مِنْ بابِ الإِعْمالِ، فالبَصريّون يُعمِلونَ الثاني، والكوفيّون يُعْمِلونَ الأوَّلَ.
قوله: {أَلاَّ تُشْرِكُواْ} أَنْ: تَفْسيريَّةٌ لأنَّهُ تَقَدَّمَها ما هُوَ بمَعنى القولِ لا حُروفُه و"لا" ناهيةٌ و"تُشْرِكوا" مجزومٌ بها، وهو الظاهرُ، وهو اختيارُ الفرَّاءِ قال: ويجوزُ أنْ يَكونَ مَجْزوماً بـ "لا" على النَهْيِ كقَولِكَ: أَمَرْتُكَ أَنْ لا تَذْهَبَ إلى زَيْدٍ بالنَّصْبِ والجَزْمِ. ثمَّ قالَ: والجَزْمُ في هذِه الآيَةِ أَحَبُّ إليَّ كقولِهِ تَعالى: {أَوْفُواْ المكيالَ والميزانَ} هود: 85. يعني فعطفُ هذِهِ الجُملةِ الأَمْرِيَّةِ يُقَوِّي أَنَّ ما قبلَها نَهْيٌ لِيَتَناسَبَ طَرَفا الكَلامِ، وهو اخْتِيارُ الزمخشري أيْضاً فإنَّه قالَ: و"أَنْ" في "أن لا تشركوا" مفسِّرةٌ و"لا" للنَهْيِ. ثمَّ قالَ بَعْدَ كلامٍ: فإنْ قُلْتَ: إذا جَعلتَ "أن" مُفَسِّرةً لِفِعْلِ التِّلاوةِ، وهُوَ مُعَلَّقٌ بِـما حَرَّمَ ربُّكم، وَجَبَ أَنْ يَكونَ ما بعدَهُ مَنْهِيَّاً عَنْهُ مُحَرَّماً كُلُّهُ، كالشِرْكِ وما بَعدَهُ مِمّا دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ النَّهْيِ فما تَصْنَعُ بالأَوامِرِ؟. فَلمَّا وَرَدَتْ هذِهِ الأَوامِرُ مَعَ النَّواه ، وتَقدَّمَهنَّ جَميعاً فعلُ التَحريمِ، واشْتَرَكْنَ في الدُّخولِ تَحْتَ حُكْمِهِ عُلِمَ أَنَّ التَّحريمَ راجِعٌ إلى أَضْدادِها وهي الإِساءةُ إلى الوالدين، وبَخْسُ الكيلَ والمِيزانَ، وتَرْكُ العدلِ عن الحقِّ في القَوْلِ، ونُكْثُ العَهْدِ.
قال الشيخ أبو حيّان التوحيدي: وكونُ هذِهِ الأشْياءِ اشْتَرَكَتْ في الدُّخولِ تحتَ حُكْمِ التَّحريمِ، وكَوْنُ التَّحريمِ راجعاً إلى أَضْدادِ الأَوامِرِ بَعيدٌ جِدّاً، وإلْغازٌ في التَعامي، ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك. وما اسْتَبْعَدَهُ الشيخُ لَيس ببعيدٍ، وأَيْنَ الإِلْغازُ والتَعَمِّي مِنْ هذا الكَلامِ؟. ثمَّ قالَ الشيخُ: وأَمَّا عَطْفُ هذه الأَوامِرِ فيَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ، أَحَدُهُما: أَنَّها مَعطوفَةٌ ـ لا على المَناهي قبلَها فيَلزَمُ انْسِحابُ التَحْريمِ عَلَيْها حَيْثُ كانَتْ في حَيِّزِ "أن" التَفسيريَّةِ، بَلْ هي مَعْطوفَةٌ على قولِه: {تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ}، أَمَرَهم أَوَّلاً بِأَمْرٍ يَتَرَتَّبُ عليْه ذِكْرُ مَنَاهٍ، ثمَّ أَمَرَهم ثانياً بأَوامِرَ، وهذا مَعنًى واضِحٌ. والثاني: أَنْ تَكونَ الأَوامِرُ مَعْطوفةً على المَناهي، وداخلةً تحتَ "أن" التَفسيريَّةِ، ويَصِحُّ ذلك على تقديرِ مَحْذوفٍ تَكونُ "أن" مُفَسِّرةً لَهُ وللمَنْطوقِ قبلَهُ الذي دَلَّ على حَذْفِه، والتَقديرُ: وما أَمَرَكم بِهِ، فحَذَفَ وما أَمَرَكم بِهِ لِدَلالَةِ مَا حَرَّمَ عليه، لأنَّ معنى ما حَرَّم ربُّكم: ما نَهاكُمْ رَبُّكم عَنْه فالمَعنَى: تَعالوا أَتْلُ ما نَهاكُم ربُّكم عَنْه وما أَمَرَكم بِهِ، وإذا كان التقديرُ هَكذا، صَحَّ أَنْ تَكونَ "أن" تَفْسيريَّةً لِفِعْلِ النَّهْيِ الدالِّ عليْهِ التَحريمُ وفِعلُ الأمْرِ المَحذوفِ، أَلا تَرى أَنَّهُ يَجوزُ أنْ تَقولَ: أَمَرْتُكَ أَنْ لا تُكْرِمَ جاهِلاً وأَكْرِمْ عالِماً. إذْ يَجوزُ أنْ يُعْطَفَ الأمْرُ على النَهْيِ والنَهْيُ على الأَمْرِ كَما قال امرؤ القيس:
وُقُوْفاً بِهَا صَحْبِي عَلَّي مَطِيَّهُمُ ........... يقولون لا تَهْلِكْ أسىً وتجمَّلِ
وهذا لا نَعْلَمُ فيهِ خِلافاً، بخِلافِ الجُمَلِ المُتَبايِنَةِ بالخَبَرِ والاسْتِفْهامِ والإِنْشاءِ فإنَّ في جوازِ العَطْفِ فيها خلافاً.
أو تَكونُ "أَنْ" ناصبةً للفِعْلِ بعدَها، وهيَ وما في حَيِّزِها في مَحَلِّ نَصْبٍ بَدَلاً مِنْ "ما حرم".
أَو هي النَّاصِبَةُ أَيْضاً وهيَ وما في حَيِّزِها بَدَلٌ مِنَ العائدِ المَحْذوفِ، إذِ التَقديرُ: ما حَرَّمَهُ، وهو في المعنى كالذي قبلَه. و"لا" على هذيْن الوَجْهيْنِ زائدةٌ لِئَلاّ يَفْسُدَ المَعنى كَزِيادَتِها في قَولِه تعالى: {أَلاَّ تَسْجُدَ} الأَعْراف: 12. و{لِّئَلاَّ يَعْلَمَ} الحديد: 29. قال الشيخ: وهذا ضَعيفٌ لانْحِصارِ عُمومِ المُحَرَّمِ في الإِشْراك، إذْ ما بعدَهُ مِنَ الأمْرِ ليس داخلاً في المُحَرَّمِ ولا ما بَعْدَ الأمْرِ ممّا فيه لا يُمْكِنُ ادِّعاءُ زيادَةِ "لا" فيهِ لِظُهورِ أَنَّ "لا" فيهِ للنَهْيِ. وقد مَنَعَ الزَمَخْشَرِيُّ أنْ تَكونَ بَدَلاً مِنْ "ما حرم" فقالَ: فإنْ قلتَ: هلاّ قلتَ هي التي تَنْصِبُ الفِعْلَ وجَعلتَ "أنْ لا تشركوا" بَدَلاً مِنْ "ما حرم". قُلْتُ: وَجَبَ أَنْ يَكونَ "أَنْ لا تشركوا، ولا تَقْرَبوا، ولا تَقْتُلوا، ولا تَتَّبِعوا السُبُلَ، نَواهيَ لانْعِطافِ الأَوامِرِ عليْها، وهيَ قولُه: "بالوالدين إحساناً"؛ لأَنَّ التَقْديرَ: وأَحْسِنُوا بالوالدين إحْساناً، وأَوْفوا وإذا قُلْتُم فاعْدِلوا، وبِعَهْدِ اللهِ أَوْفوا. فإنْ قلتَ: فما تَصْنَعُ بقوله: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتَّبِعوهُ} الأَنْعامُ: 153. فيمَنْ قَرَأَ بالفَتْحِ، وإنَّما يَستقيمُ عَطْفُه على "أَنْ لا تشركوا" إذا جَعَلْتَ "أن" هيَ الناصبة حتى يكونَ المَعْنى: أَتْلُ عَلَيكُم نَفْيُ الإِشْراكِ وأَتْلُ عليكم أَنَّ هذا صِراطي مَسْتَقيماً؟ قلتُ: أَجْعَلُ قولَه: "وأنْ هذا صراطي مستقيماً" علةً للاتِّباع بتقديرِ اللامِ كقولِهِ: {وَأَنَّ المَساجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللهِ أَحَداً} الجن: 18. بمَعنى: ولأَنَّ هَذا صِراطي مُسْتَقيماً فاتَّبعوهُ، والدليلُ عليْهِ القراءةُ بالكَسْرِ، كأنَّهُ قِيلَ: واتَّبِعوا صِراطِي لأنَّه مُستَقيمٌ، أو: واتَّبِعوا صِراطي أَنَّه مُسْتَقيمٌ.
واعترضَ عَليْه الشيخُ بعدَ السُؤالِ الأَوَّلِ وجوابِهِ وهو "فإنْ قلتَ: هَلاَّ قلتَ هي الناصبةُ" إلى: {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} فقال: لا يَتَعَيَّنْ أَنْ تَكونَ جَميعُ الأوامِرِ مَعْطوفَةً على ما دَخَلَ عَلَيْهِ "لا" لأنَّا بَيَّنَّا جَوازَ عَطْفِ "وبالوالدين إحساناً" على "تعالَوا" وما بعدَهُ مَعْطوفٌ عَلَيْهِ، ولا يَكونُ قولُهُ: "وبالوالدين إحساناً" معطوفاً على "أَنْ لا تشركوا".
أو تَكونُ "أَنْ" الناصبةُ وما في حَيِّزها منصوبًا على الإِغْراءِ بـ "عليكم"، ويكونُ الكلامُ الأوَّلُ قَدْ تمَّ عِنْدَ قولِهِ: "ربكم"، ثمَّ ابْتَدَأَ فقالَ: عَلَيْكُم أَنْ لا تُشْرِكوا، أيْ: الْزَموا نَفْيَ الإِشْراكِ وعَدَمَه، وهذا وإنْ كان ذَكَرَهُ جَماعَةٌ كَما نَقَلَ ابْنُ الأَنْبارِيِّ ضَعيفٌ لَتَفَكُّكِ التَرْكيبِ عَنْ ظاهِرِهِ؛ ولأنَّه لا يَتَبادَرُ إلى الذهن.
أو أَنَّ "أنْ" وما في حَيِّزِها في محلِّ نَصْبٍ أوْ جَرٍّ على حَذْفِ لامِ العِلَّةِ والتقدير: أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكم عليكم لِئَلاّ تُشْرِكوا، وهذا مَنقولٌ عَن أَبي إسْحاقٍ، إلاَّ أَنَّ بعضَهم اسْتَبْعَدَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ ما بَعدَهُ أَمْرٌ مَعْطوفٌ بالواوِ ومَناهٍ مَعطوفةٌ بالواوِ أَيْضاً فلا يُناسِبُ أَنْ يَكونَ تَبْييناً لِما حرَّم، أَمَّا الأمْرُ فمِنْ حيثُ المَعنى، وأَمَّا المَناهي فمِنْ حيثُ العطفُ.
أَو تَكونُ هي وما بعدَها في مَحَلِّ نَصْبٍ بإضمارِ فعلٍ تقديرُه: أُوصيكم أَنْ لا تُشْرِكوا؛ لأنَّ قولَهُ "وبالوالدين إحساناً" مَحْمولٌ على أُوصيكم بالوالدين إحْساناً، وهوَ مَذْهَبُ أَبي إسْحاقٍ أَيْضاً.
أو تَكونُ "أَنْ" وما في حَيِّزها في مَوْضِعِ رَفْعٍ على أَنَّها خَبَرُ مُبتدأٍ مَحْذوفٍ، أيْ: المُحَرَّمُ أَنْ لا تُشْرِكوا، أَوِ المَتْلوُّ أَنْ لا تُشْرِكوا، إلاَّ أَنَّ التقديرَ بِنَحْوِ المَتْلُوِّ أَحْسَنُ؛ لأنَّه لا يُحْوِجُ إلى زِيادةِ "لا"، والتقديرُ بالمُحرَّمِ أَنْ لا تُشرِكوا يُحْوِجُ إلى زِيادَتِها لِئَلاّ يَفْسُدَ المَعنى.
أو أَنَّها في محلِّ رَفْعٍ أَيْضاً على الابتداءِ، والخبرُ هو الجارُّ قبلَهُ والتَّقديرُ: عليكم عَدَمُ الإِشراك، ويَكونُ الوقفُ على قولهِ: "ربكم" كما تقدَّمَ في وَجْهِ الإِغْراءِ، وهذا مَذْهَبٌ لأَبي بَكْرٍ بْنِ الأَنْباريِّ فإنَّه قال: ويَجوزُ أَنْ يَكونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بـ "على" كما تَقولُ: عَلَيْكُمُ الصِيامُ والحجُّ.
أَوْ تَكونُ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بالفاعِلِيَّةِ بالجارِّ قَبْلَها، وهُوَ ظاهِرُ قولِ ابْنِ الأَنْباريِّ المُتَقَدِّمِ، والتقديرُ: اسْتَقَرَّ عليكم عَدمُ الإِشْراكِ. وقد تَحَصَّلتَ في مَحَلِّ "أن لا تشركوا" على ثلاثةِ أَوْجُهٍ، الرَّفْعُ والنَّصْبُ والجَرُّ، فالجَرُّ مِنْ وَجْهٍ واحدٍ وهو أنْ يَكونَ على حَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ على مَذْهَبِ الخَليلِ والكِسائيِّ، والرَّفْعُ مِنْ ثلاثةِ أَوْجُهٍ، والنَّصبُ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ، فمَجْموعُ ذلك عَشَرَةُ أَوْجُهٍ تَقَدَّمَ تَحريرُها. و"شيئًاً" مفعولٌ به. أو هو مَصْدَرٌ أيْ إشْراكاً، أي: شيئاً مِنَ الإِشراك.
قوله: {مِنْ إمْلاَقٍ} مِنْ: سَبَبِيَّةٌ مُتَعَلِّقةٌ بالفِعْلِ المَنْهِيِّ عَنْهُ، أيْ: لا تَقْتُلوا أَوْلادَكم لأَجْلِ الإِمْلاقِ. والإِملاقُ: الفَقْرُ في قولِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهما. وقيل: الجُوعُ بِلُغةِ لَخْمٍ. وقيلَ: الإِسرافُ، أَمْلَقَ أَيْ: أَسْرَفَ في نَفَقَتِهِ، وقيلَ الإِنْفاقُ، من أَمْلَقَ مالَهَ أَيْ أَنْفَقَهُ. ذُكِرَ أَنَّ عَلِيًّا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَمْلِقِي مِنْ مَالِكِ مَا شِئْتِ. والإِملاقُ أيضاً الإِفسادُ، وأَمْلَقَ يكون قاصِراً ومُتَعدِّياً، فأَمْلَقَ الرجل: إذا افتقرَ فهذا قاصر، وأَمْلَقَ ما عِنْدَهُ الدَّهْرُ، أي: أتلَفه وأَفْسَدَهُ. قال أوْس بْنُ حِجْر:
ولمَّا رأيت العُدْمَ قَيَّد نائلي ............... وأَمْلَقُ ما عِنْدي خُطوبٌ تَنَبَّلُ
أي: تَذْهَبُ بالمالِ. وتَنَبَّلَتْ بما عنْدي: أيْ ذَهَبَتْ بِهِ، وكأنَّ الخطوبَ جعلت من ماله نبالاً ترميها يمنة ويسرة حتى بددتها. وَرَجُلٌ مَلِقٌ يُعْطِي بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ. فَالْمَلَقُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ
قولُهُ: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} في مَحَلِّ نَصْبٍ بَدَلاً مِنَ الفَواحِشِ بَدَلَ اشْتِمالٍ، أيْ: لا تَقْرَبوا ظاهرَها وباطِنَها كقولِكَ: ضربْتُ زيداً ما ظَهَرَ مِنْهُ وما بَطَنَ، ويَجوزُ أنْ تَكونَ "منْ" بَدَلَ البَعْضِ مِنَ الكُلِّ. و"منها" متعلِّقٌ بِمَحذوفٍ لأنَّه حالٌ مِنْ فاعلِ "ظهر". وحَذَفَ "منها" بَعدَ قولِهِ "بطن" لِدَلالةِ قولِهِ "منها" في الأوَّلِ عليه.
قولُهُ: {إِلاَّ بالحق} في مَحلِّ نَصْبٍ على الحالِ مِنْ فاعِلِ "تَقتُلوا" أيْ: لا تَقتُلوها إلاَّ مُتَلَبِّسين بالحَقِّ، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ وَصْفاً لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ، أيْ: إلاَّ قَتْلاً مُتَلَبِّساً بالحَقِّ، وهو أَنْ يَكونَ القَتْلُ للقِصاصِ أَوْ لِلرِدَّةِ أو للزِنا بِشَرْطِهِ كما جاءَ مُبَيَّناً في السُنَّةِ.
وقولُهُ: {ولا تَقْتلوا} هذا شبيهٌ بما هو مِنْ ذِكْر الخاصِّ بعدَ العامِّ اعْتِناءً به؛ لأنَّ الفَواحشَ يَنْدَرِجُ فيها قَتْلُ النَّفسِ، فَجرَّدَ مِنْها هذا اسْتِفْظاعاً لَهُ وتَهْويلاً، ولأنَّه قد اسْتُثْنيَ مِنْه في قولِهِ "إلا بالحق" ولو لم يَذْكر هذا الخاصَّ لم يَصِحَّ الاسْتِثْناءُ مِنْ عُمومِ الفَواحِشِ.
قولُهُ {ذلكم وَصَّاكُمْ به لعلكم تعقلون} ذلك: مُبْتَدَأٌ، والخَبَرُ جُمْلَةُ "وصّاكم" الفِعْلِيَّةُ. أوْ هُو في مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ مِنْ مَعنَى الفِعلِ المُتَأَخِّرِ عَنْه، وتَكونُ المَسْأَلَةُ مِنْ بابِ الاشْتِغالِ، والتَقديرُ: أَلْزَمَكُمْ أَوْ كَلَّفَكم ذلك، ويَكونُ "وصَّاكم به" مفسِّراً لِهَذا العامِلِ المُقَدَّرِ كقولِه تعالى: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} الإِنسان: 31. وناسَبَ قولَهُ هُنا "لعلكم تعقلون" لأنَّ العقلَ مَنَاطُ التَكْليفِ والوَصِيَّةُ بِهذِهِ الأشياءِ المَذكورَةِ.