وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
(144)
قولُهُ ـ جلَّ وعَلا: {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} أَرْبَعةُ أَزْواجٍ أَخَر هي بَقِيَّةُ الثَمانِيَةِ التي ذَكرَها في الآيةِ السابِقةِ. والإبِلُ يَقَعُ على البُعْران الكَثيرةِ ولا واحدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ ـ كما تَقَدَّمَ ـ ويُجمَعُ على "آبال" ويُصغَّرُ على "أُبَيْلَةٍ، ويَدخُلُ في البَقَرِ الجاموسُ لأنّها فَصيلٌ مِنْها.
قولُه: {قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين} استنكارٌ وتقريع وتوبيخ مِنَ اللهِ لأهْلِ الجاهليَّةِ على تحريمهم ما لم يُحرِّمْهُ اللهُ تعالى، أي طالما أَنَّكم لا تُقرّون بِنُبُوَّةِ نَبِيٍّ ولا تَعترفون بِشريعةِ اللهِ فكيفَ تَحكُمونَ بأنَّ هذا حلالٌ وهذا حرامٌ؟ أي قلْ لهم يا رسولَ اللهِ: أَحَرَّم الفحلَ مِنَ الإبِلِ والثَّوْرَ مِنَ البَقَرِ، أَمْ حَرَّمَ الناقةَ، والبقرةَ، فإنْ كان التحريم للذكريْنِ يَشمَلُ الذُكورَ كُلَّها، فإنَّ التَحْريمَ على الإناثِ شَمَلَ الإناثَ كُلَّها. أَمَا وَقَدْ حَرَّمْتُمْ بعضَها دونَ بَعْضِها الآخَرَ، فإنَّهُ لَا يُمكِنُ التَّحريمُ لأمْرٍ ذاتيٍّ فيها، ولا لأمْرٍ نَقْلِيٍّ، فلا دَليلَ مِنْ عَقْلٍ ولا نَقْلٍ.
وإذا كان التَحريمُ لما اشْتَمَلَتْ عليه أرحام الأنثيين، أي للمَواليدِ كُلِّها ذُكوراً وإناثاً، فإنَّهُ بِمُقْتَضى عُمومِ القولِ، يَكونُ التحريمُ لِجَميعِ المَواليدِ مِنَ البَقَرِ والإبِلِ، ولكنَّكم تُحَرِّمون بعضَها دونَ بعضٍ، فلا يُمكِنُ أَنْ يَكونَ التحريمُ لِخُبْثٍ فيها؛ لأنَّ الخُبْثَ إنْ كانَ سَبَبَ التَّحريمِ، فهُوَ يَعُمُّ ولا يَخُصُّ، فلا يُمْكِنُ أَنْ يَكونَ التَّحريمُ لِسَبَبٍ في ذاتِها، ولا لِنَقْلٍ نَقَلْتُموهُ، وإنِ ادَّعَيْتُمْ ذلك فأَنْتُمْ تَكذبون على اللهِ في ذَلِكَ، ولا دليلَ عندَكم على التَحريمِ مِنْ قِبَلِ اللهِ، بلْ هو تَزيينُ الشيطانِ لكم، و اتِّباعُكم له حتّى صارَ ذلك هَواكُم، وغَلَبَتْكُمُ الأَوْهامُ.
وقد حَكَمْتُمْ بالبَحيرةِ والسائبةِ والوصيلةِ والحامِ مَخْصوصاً بالإبِلِ، فَلِمَ لم تعمِّموا هذه الأَحكامَ على الأنواعِ الثلاثةِ وهي الضأن والمَعْزُ والبَقَرُ وهي من النَعَمِ فقد بيَّنَ اللهُ تعالى أَنَّها هي هذه الأنواعُ الأرْبَعةُ، وهي الضأنُ والمَعْزُ والبَقرُ والإبِلُ، فكيف خَصَصَتُمُ الإبِلَ بهذا الحُكمِ دُونَ بَقيَّةِ هذِهِ الأنواعِ؟.
قولُهُ: {أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا} أي: بَلْ أَكُنْتُمْ حاضرين مُشاهدين عندما وصَّاكم اللهً بهذا التحريمِ الذي تزعمونه؟. والمرادُ التَبْكيتُ والإلزامُ بالحُجَّةِ كما سَلَفَ قبلَه. فَقد طالَبَهم الله تعالى أَنْ يأتوا بعلم يقينيٍّ جازمٍ مِنَ النَّقلِ يَدُلُّ على تحريمِ ما حَرَّموهُ، وقد جاءتِ النُّصوصُ بإباحةِ الجَميعِ.
قولُه: {فـمن أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى على اللهِ كَذِباً} أي لا أحدٌ أظلم ممن افترى على اللهِ فَحَرَّمَ ما لم يُحرِّمْه اللهُ ونَسَبَ ذلك إليهِ افتِراءً عليه ـ جلَّ جلالهُ ـ كما فَعَلَ كُبَراءُ المُشْركين
قولُه: {لِيُضِلَّ الناسَ بغيرِ عِلْمٍ} أيْ مِنْ أَجْلِ أن يُضِلَّ الناس بِجَهْلٍ، أو افتراءً عليْهِ جاهِلاً بِصُدورِ التَحريمِ، وإنَّما وُصِفوا بعدمِ العِلْمِ بذلك مَعَ أَنَّهم عالمون بِعدَمِ صُدورِهِ عَنْهُ ـ سبحانه ـ إيذاناً بِخُروجِهم في الظُلْمِ عَنْ حُدودِ النهاياتِ.
قولُهُ: {إنَّ اللهَ لا يَهْدي القَوْمَ الظالمين} على العمومِ وهؤلاءِ الكفرةُ المذكورون في السِياقِ داخلون في ذلك دُخُولاً أَوَّلِيّاً، ويَدْخُلُ في هذا الوَعيدِ كلُّ مَنْ كانَ على طَريقِهم، أوْ ابْتَدَعَ شيْئاً لم يَأْمُرِ اللهُ بِهِ ولا رَسُولُهُ، ونَسَبَ ذلك إلى اللهِ، لأنَّ اللفظَ عامّ فلا وَجْهَ للتَخْصيصِ، فُكُلُّ مَنْ أَدْخَلَ في دِينِ اللهِ ما لَيْسَ فيهِ
فَهُو داخلٌ في هذا الوَعيدِ.
قولُهُ تعالى: {أَمَّا اشتملتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيْين} أم: هي كَسابِقَتِها عاطفةٌ "ما" الموصولة على ما قبلَها فمَحَلُّها نَصْبٌ تقديرُهُ: أَمِ الذي اشْتَمِلَتْ عليْه أَرْحامُ الأنثيين، فلمَّا الْتَقَتِ الميمُ ساكنةً مَعَ ما بَعدَها وَجَبَ الإِدْغامُ.
قولُهُ: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا} والاستفهامُ هنا للإنكارِ عليهم وتوبيخِهم، و"أَمْ" هنا فيها معنى الإضراب وليست كسابقتها فهي مُنْقَطِعةٌ وليست عاطفةً؛ لأنَّ بعدَها جُملةً مُسْتقلةً بِنَفْسِها فتُقَدَّرُ بـ "بل" والهمزة، والتقدير: بَلْ أَكُنْتُمْ شُهداءَ. و"إذ" مَنْصوبٌ بِـ "شُهَداءَ" و"بهذا" إشارةٌ إلى جَميعِ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُه مِنَ المُحَرَّماتِ عِنْدَهُم التي حرموها افتراءً على اللهِ تبارك وتعالى.
قولُهُ: {فمن أظلمُ} الفاءُ لِتَرتيبِ ما بَعدَها على مَعْنى ما قَبْلَها.