ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)
قولُهُ ـ تباركت أسماؤه: {ثمانيةَ أزواجٍ} بيانٌ للحَمولةِ والفَرْشِ، والزَّوجُ يُقالُ لِكُلِّ واحدٍ مِنَ القَرينَيْنِ مِنَ الذَّكَرِ والأُنْثى في الحيَواناتِ المُتَزاوِجَةِ، ويُطْلَقُ على مَجموعِهِما، والزوجُ خِلافُ الفَرْدِ، يُقالُ: زَوْجٌ أْو فَرْدٌ كَما يُقالُ شَفْعٌ أوْ وِتْرٌ، فـ "ثمانيةَ أزواجٍ" يَعني ثَمانِيَةُ أَفْرادٍ، وإنَّما سُمّيَ الفَرْدُ زَوْجاً في هَذِهِ الآيةِ لأنَّ كُلَّ واحدٍ مِنَ الذَكَرِ والأُنْثى زَوْجٌ بالنِسْبَةِ إلى الآخَرِ، ويَقَعُ لَفْظُ الزَّوْجِ على الواحدِ فَيُقالُ هُما زَوْجٌ، وهوَ زوجٌ وتَقولُ اشْتَرَيْتِ زَوجينِ مِنَ الطُيورِ، أيْ ذَكَراً وأُنثى، والحاصلُ أنَّ الواحدَ إذا كان مُنْفَرِداً سَواءً كان ذَكَراً أوْ أُنثى قِيلَ لَهُ فَرْدٌ، وإنْ كان الذَكَرُ مَعَ أُنثى مِنْ جِنْسِهِ قيلَ لهُما زَوْجٌ ولِكُلِّ واحدٍ مِنهُما على إنْفرادِهِ زَوْجٌ، ويُقالُ لَهُما أَيْضاً زَوجانِ، ومنْهُ قولُه تَعالى: {وجعلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأنْثى) سورة القيامة، الآية: 39. والمُرادُ بِهِ هُنا الأَوَّلُ وإلاَّ كانتْ أَرْبَعةً. وإيرادُها بِهذا العُنوانِ وهذا العَدَدِ أَوْفَقُ لِما سِيقَ لَهُ الكَلامُ.
وقولُهُ: {مِنَ الضأن اثنين} على مَعنى زَوْجيْن اثْنَيْنِ الكَبْش والنَّعجة. والضَأْنُ اسْمُ جِنْسٍ كالإبِلِ، جمع ضئين، كأميرٍ، وكعَبيدٍ، أو جمعُ ضائنٍ، كَتاجِرٍ وتَجْرٍ.
قولُه: {وَمِنَ المعز اثنين} زَوْجيْن، التيسُ والعَنْزُ، بفتحِ العَيْنِ، وهوَ جَمعُ ماعِزٍ، كَصاحِبٍ وصَحْبٍ، وحارِسٍ وحَرْسٍ. وهذِه الأَزْواجُ الأَرْبَعَةُ تفصيلٌ للفَرْشِ، ولَعَلَّ تقديمَها في التَفْصيلِ مَعَ تَأَخُّرِ أَصْلِها في الإجْمالِ لكونِ هذيْنِ النَّوْعيْنِ عُرْضةً للأكْلِ الذي هو مُعْظَمُ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ الحِلُّ والحُرمةُ، وهو السِّرُّ في الاقْتِصارِ على الأَمْرِ بِه في قولِهِ تعالى: {وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} الأنعام : 142. مِنْ غيْرِ تَعَرُّضٍ للانْتِفاعِ بالحَمْلِ والرُّكوبِ وغيرِ ذلك ممّا حرَّموهُ في السائِبَةِ وأَخَواتِها.
ومِنَ النّاسِ مَنْ عَلَّلَ التَّقديمَ بأَشْرَفِيَّةِ الغَنَمِ ولِهذا رَعاها الأَنْبِياءُ ـ عليهِمُ الصَلاةُ والسلامُ ـ وهو لا يُناسِبُ المَقامَ كما لا يَخْفى.
قولُهُ: {قُلْ ءآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين} أيْ هَلْ حَرَّمَ اللهُ تعالى ذَكَرَ الضَأْنِ وذَكَرَ المَعْزِ أمْ أُنثى ذَيْنِك الصِنْفَيْنِ؟ وهو تبكيتٌ لَهم وإظهارٌ لِعَجْزِهم عنِ الجَوابِ.
قولُهُ: {أَمَّا اشتملتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيْين} أَيْ: أَمِ الذي حَمَلَتْهُ إناثُ النَّوْعَيْنِ ذَكَراً كانَ أَوْ أُنْثى.
قولُهُ: {نَبّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صادقين} أيْ: أَخْبَروني بَأَمْرٍ مَعْلومٍ مِنْ جِهَتِهِ ـ تَعالى ـ جاءتْ بِه الأنْبياءُ ـ عَلَيْهِمُ الصَلاةُ والسَّلامُ ـ يَدُلُّ على أَنَّه ـ تعالى ـ حرَّمَ شيئاً مِمّا ذُكِرَ أوْ نَبئوني تَنبئةً صادرةً عن عِلْمٍ "إِن كُنتُمْ صادقين" في دعوى التَحريمِ، والأَمْرُ تَأكيدٌ للتَّبْكيتِ وإظْهارُ الإنقطاع.
قولُه تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } ثمانيةَ: نَصبٌ على البَدَلِ مِنْ "حَمولة وفرشاً". أو هو مَنْصوبٌ بـ "كلوا" الذي قبلَهُ، أيْ: كُلوا ثَمانيةَ أَزْواجٍ، ويكونُ قولُه: "ولا تَتَّبِعُوا" .. إلى آخِرِهِ كالمُعْتَرِضِ بَيْنَ الفِعْلِ ومَنْصوبِهِ، وقُدِّرَ بـ: كُلوا لَحْمَ ثَمانية، أَوْ: كُلوا ممّا رَزَقَكُمُ اللهُ ثمانيةَ أَزْواجٍ، وقولُه: "ولا تُتبعوا" مُعْتَرِضٌ بَينَهُما. ويمكن أن يكون "ثمانية" قد نُصِبَ عطفاً على "جنات" أي: أَنشأَ جَنَّاتِ وأَنْشَأَ ثمانيةَ أَزْواجٍ، ثمَّ حُذِفَ الفِعْلُ وحَرْفُ العَطْفِ، وهوَ ضَعيفٌ، وقد سُمِع ذلك في كلامِهم نَثْراً ونَظْماً، ففي النَّثْرِ قَولُهم: "أَكَلْتُ لَحْماً سَمَكاً تَمْراً" أي : أكلت لحماً وسمكاً وتمراً، وفي نظمِهم قولُ الشاعرِ:
كيف أصبحتَ كيف أَمْسَيْتَ مِمَّا .............. يَزْرَعُ الوُدَّ فِي فُؤادِ الْكَرِيمِ
أي: كيفَ أَصْبَحْتَ وكيفَ أَمْسَيْتَ، وهذا على أحدِ القوليْن في ذلك. والقول الثاني أَنّهُ بَدَلٌ. ومِن ذلك الحديث الشريفُ: ((إنَّ الرَّجلَ لَيُصَلِّي الصَّلاةَ، وما كُتِبَ لَهُ نِصْفُها ثُلثُها رُبُعُها .. إلى أَنْ وَصَلَ إلى العُشْرِ)). ويمكنُ أنِ يكونَ "ثمانية" منصوباً بِفعلٍ مَحْذوفٍ مَدْلولٍ عَليْه بما في اللَّفْظِ، تقديره: كُلُوا ثمانيةَ أَزْواجٍ، وهذا أضعفُ ممَّا قبلَه. أو أَنَّهُ مَنصوبٌ على الحالِ، والتقديرُ: مختلفةً أَو مُتَعدِّدَةً، وصاحِبُ الحالِ "الأنعام" فالعاملُ في الحالِ ما تَعَلَّقَ بِهِ الجارُّ وهو "مِنْ". وفيه وجهٌ سادسٌ: بأنَّه منصوبٌ على البَدَلِ مِنْ مَحَلِّ "ممَّا رَزَقَكُمُ اللهُ".
قولُهُ: {مَّنَ الضأن اثنين} اثنين" الأظهرُ فيه أنَّه منصوبٌ على البدلِ مِن "ثمانية أزواج" والدليل عليه قولُه: "ثمانية أزواج" ثمَّ فَسَّرها بقوله: "من الضأن اثنين". ويمكنُ أن يكون منصوباً بأَنْشأَ مُقدَّراً، و"مِنْ" تتعلَّقُ بِما نَصَبَ "اثنين".
والجمهورُ على تَسْكينِ هَمْزَةِ "الضأن"، وقرأ الحَسَنُ وطَلْحةُ بْنُ مصرفٍ وعيسى بْنُ عُمَرَ "الضَّأَن" بفتحِها، وهو إمَّا جَمْعُ تكسيرٍ لِضائنٍ كما يُقالُ خادمٌ وخَدَمٌ، وحارسٌ وحَرَسٌ وطالِبٌ وطَلَبٌ، وإمَّا اسْمُ جَمْعٍ. ويُجْمَعُ على ضَئينٍ كما يُقالُ: كَلْبٌ وكَليبٌ، قال طَرَفةُ:
تَعَفَّقَ بِالأَرْطَى لَهَا وَأَرَادَهَا ..................... رِجَالٌ فَبَذَّتْ نَبْلَهُمْ وَكَلِيبُ
وقيل: الضَّئينُ والكليبُ اسْما جَمْعٍ، ويُقالُ ضِئين بِكسرِ الضادِ، وكأنَّها إتْباعٌ لِكَسْرِ الهمزةِ نحو: بِعيرٍ وشِعيرٍ، بِكسرِ الباءِ والشينِ لِكَسْرِ العَيْنِ. والضأنُ مَعْروفٌ وهو ذو الصُوفِ مِنَ الغَنَمِ، والمَعْزُ ذُو الشَعْرِ مِنْها. وقَرأ أَبانُ بْنُ عُثمانَ "اثنان" بالرَّفعِ على الابْتِداءِ، والخَبَرُ الجارُّ قبلَه. وقَرَأَ ابْنُ كَثيرٍ وأَبو عَمْرٍو وابْنُ عامِرٍ المَعَز بفتحِ العينِ، والباقون بِسُكونِها، وهُما لُغتان في جَمْعِ ماعِز، وقد تقدَّم أنَّ فاعِلاً يُجمع على فَعْل تارةً وعلى فَعَلٍ تارةً أُخرى كَتاجِرٍ وتَجْرٍ وخادِم وخَدَم، وقدْ تقدَّم تحقيقُه، ويُجْمع أيضاً على مِعْزى، وبها قَرَأَ أُبَيٌّ، قالَ امرُؤ القيْسِ:
ألا إنْ لا تكن إِبِلٌ فمِعْزَى ....................... كأنَّ قُروْنَ جِلَّتِها العِصِيُّ
وقال أبو زيد: إنَّهُ يُجْمَعُ على أُمْعوزٍ، وأَنْشدَ:
.............................................. كالتَّيْبسِ في أُمْعوِزهِ المُتَرَبِّلِ
ويُجْمَعُ أَيْضاً على مَعِيز، وأَنشَدوا لامْرِئ القَيْسِ:
ويمنحها بنو شَمَجَى بنِ جَرْمٍ ..................... معيزَهُمُ حنَانكَ ذا الحَنانِ
والإِبِلُ: اسْمُ جَمْعٍ لا واحدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، بَلْ واحدُهُ جَمَلٌ ونَاقةٌ وبَعيرٌ، ولمْ يَجِئِ اسْمٌ على فِعِل عِنْدَ سِيبويْهِ غَيرُهُ، وزادَ غيرُ سِيبَويْهِ بِكِراً وإِطِلاً ووِتِداً ومِشِطاً، والنِسْبَةُ إليْهِ إبَليّ بِفَتْحِ الباءِ لِئَلاَّ يَتَوالَى كسرتان مَعَ ياءين.
قولُهُ: {ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أمِ الأنثيين} الذَّكَرَيْن مَنصوبٌ بما بَعدَهُ أي بـ "حرّمَ"، وسَبَبُ إيلائهِ الهَمْزةَ ما تقدَّمَ في قولِهِ: {أأنت قلتَ للناس} و"أم" عاطفةٌ للأُنْثَيَيْن على الذكرين، وكذلك "أم" الثانية عاطفةٌ ما المَوصولةَ على ما قبلَها فمَحلُّها نَصْبٌ تقديرُه: أَمِ الذي اشْتَمَلَتْ عليه أَرْحامُ ..، فلَمّا الْتَقَتِ الميمُ ساكنةً مَعَ ما بَعدَها وَجَبَ الإِدْغامُ.