وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.(132)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُهُ: {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} أيْ ولِكُلِّ عَامِلٍ بِطَاعَةٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ دَرَجاتٌ فِي الثَّوَابِ وَلِكُلِّ عَامِلٍ بِمَعْصِيَةٍ منهما دِرْكَاتٌ فِي الْعِقَابِ، كَمَا قَالَ فِي الآيَةِ: 18 من سورة الأحقاف: {أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ} ثُمَّ قَالَ: {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} الأحقاف، الآية: 19. وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُطِيعَ مِنَ الْجِنِّ فِي الْجَنَّةِ، وَالْعَاصِيَ مِنْهُمْ فِي النَّارِ، كَالْإِنْسِ سَوَاءً. وقيلَ مِنَ المُؤمنينَ خاصَّةً، وقيلَ مِنَ الكُفَّارِ خاصَّةً لأنَّ هذه الآيَةَ جاءتْ عُقَيْبَ خِطابِ الكُفَّارِ، إلاَّ أَنَّ هذا القولَ يُبْعدُه قولُه تعالى: "درجات" أيْ مُتفاوتة، وقد يُقالُ بأَنَّ المُرادَ بها هُنا المَراتِبُ وإنْ غَلَبَ استِعْمالُها في الخير. وقالَ الضَحَّاكُ: الجِنُّ يَدْخُلونَ الجَنَّةَ ويَأْكُلونَ ويَشْربون. وعنِ الليثِ ابْنِ أَبي سليمٍ قال: مُسْلِمُو الجِنِّ لا يَدْخُلونَ الجَنَّةَ ولا النارَ، وذلك أَنَّ اللهُ أَخْرَجَ أَباهُمْ مِنَ الجَنَّةِ فلا يُعيدُهُ ولا يُعيدُ وَلَدَهُ. وأصحُّ هذه الأقوالِ هو القولُ الأوّلُ، واللهُ أَعْلَمُ، لما جاء عنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ أنَّه قالَ: الخلقُ أَرْبَعَةٌ، فَخَلْقٌ في الجَنَّةِ كلُّهم، وخَلْقٌ في النّارِ كلُّهم. وخَلْقانِ في الجَنَّةِ والنَّارِ، فأمَّا الذين في الجَنَّةِ كُلُّهُم فالمَلائكةُ، وأَمَّا الذين في النَّارِ كُلُّهم فالشياطينُ، وأَمَّا الذين في الجَنَّةِ والنَّارِ فالإنْسُ والجِنُّ لَهُمُ الثَّوابُ وعَليْهِمُ العِقابُ. وبِهِ قال أَبو يُوسُفٍ ومُحَمَّدٌ ـ رحِمَهُما اللهُ ـ واحْتَجّوا لأَبي حَنيفةَ ـ رحِمَهُ اللهُ ـ أنَّ قولَهُ: "وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ" إنَّما ذُكِرَ على أَثَرِ آياتٍ كان الخِطاُب بِها للكَفَرَةِ دونَ المؤمنين؛ فعلى قولِهِ: "وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا" يَكونُ لهمْ هذا الوعيدُ خاصَّةً، ويَكونُ قولُهُ: "وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ"، أيْ: دِرْكاتٌ ومَراتِبُ مِنَ العَذابِ والعِقابِ؛ ممَّا عَمِلوا مِنَ المَعاصي والتَكْذيبِ للرُسُلِ، ولأَنَّ الثوابَ لُزومُه لُزوم فَضْلٍ ومِنَّةٍ، والعذاب تُوجِبُهُ الحِكْمةُ؛ لأنَّ الحكمةَ تقضي بأَنْ يُعاقَبَ مَنْ عَصاهُ وخالَفَ أَمْرَهُ، وأَمَّا الثَوابُ فوُجوبُه الفَضْلُ منهُ ـ سبحانَه ـ لأنَّه كان مِنَ الله إلى الخَلْقِ مِنْ جملةِ نِعمِهِ عليهم وإحسانِه لهم، أمَّا لَوْ حَمَدوا كلَّ حَمْدِهِم، مَا قَدَروا على أَنْ يُؤَدُّوا شُكرَ واحدٍ مِنْ ذَلِك، فَتَكونُ طاعتُهم شُكْرًا لِما أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ، فإذا كان كَذلك لا يَكونُ لأَعْمالِهمْ ثَوابٌ إلاَّ بالبَيانِ والوعْدِ مِنَ اللهِ تعالى، كما لا يُقالُ للمَلائكةِ: إنَّ لَهم ثَوابًا.
قولُه: {وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ: أَيْ لَيْسَ بِلَاهٍ وَلَا سَاهٍ، وَالْغَفْلَةُ أَنْ يَذْهَبَ الشَّيْءُ عَنْكَ لِاشْتِغَالِكَ بِغَيْرِهِ، "عَمَّا يَعْمَلُونَ" مِنْ أَعْمالِ الخيرِ والشَّرِّ، وقيل هذا مختَصٌّ بأهلِ الكُفرِ والمعاصي، ففيه وعيدٌ وتهديدٌ لهم، والأَوْلى شُمولُهُ لِكُلِّ المَعلوماتِ على التَفصيلِ التامِّ.
وقالوا: معنى "وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ" أنَّه ـ سبحانَه ـ عنْ عِلْمٍ بأَعمالِهمْ، وصَنيعِهم خَلَقَهم، لا عَنْ جَهْلٍ، لَكنْ خَلَقَهم على عِلْمٍ بما يكون من أعمالهم. واللهُ أعلم.
وقولُهُ تعالى: {وَلِكُلٍّ} حُذِفَ المُضافُ إليْه للعِلْمِ بِهِ، أي: ولِكُلِّ فريقٍ مِنَ الجِنِّ والإِنْسِ.
وقولُه: {مما عملوا} في مَحَلِّ رَفْعٍ نَعْتاً لِدَرَجاتْ.
وقَرَأَ عامَّةُ القُرَّاءِ "يعملون" بالغَيبَةِ ردَّاً على قوله ـ سبحانهُ وتعالى: "ولكل درجات".
وقرَأَ ابْنُ عامِرٍ "تعملون" بالخِطابِ مُراعاةً لِما بَعدَهُ في قولِهِ {يُذْهِبْكم}، و{من بعدكم}، و{أنشأكم}.