وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. (110)
قولُه تبارك وتعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} أي: نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهم وأَبْصارَهم بالحُجَجِ والآياتِ، ويَرُدّونَها؛ فلا يُؤمنونَ كما لم يُؤمِنوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وقيلَ: نُقَلِّبُها على لَهَبِ النَّارِ وحَرِّ الجَمْرِ، يَعني يومَ القيامةِ، وقال مُجاهِدٌ قولُهُ: "وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ": وَنَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ فَلَا يُؤْمِنُونَ كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الإيمان أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَ اللهُ مَا الْعِبَادُ قَائِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوهُ وَعَمَلَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهُ، وَقَالَ ـ جَلَّ وعَلا: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} سورة فاطر، الآية: 14. وقيل: المعنى وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّا نَخْتِمُ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ الحَقِّ فَلاَ يُدْرِكُونَهُ، وَنَحُولُ بَيْنَ أَبْصَارِهِمْ وَبَيْنَ اجْتِلائِهِ فَلاَ يُبْصِرُونَهُ، وَيَكُونُ حَالُهُمْ حِينَئِذٍ كَحَالِهِمُ الأَوَّلِ فِي عَدَمِ الإِيمَانِ بِمَا جَاءَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنَ الآيَاتِ. وَمَنْ لَمْ يُقْنِعْهُ مَا جَاءَ بِهِ القُرْآنُ مِنَ الدَّلاَئِلِ العَقْلِيَّةِ، وَالبَرَاهِينِ العَمَلِيَّةِ، لاَ يُقْنِعُهُ مَا يَرَاهُ بِعَيْنِهِ مِنَ الأَدِلَّةِ الحِسِّيَّةِ. وَإِنَّا نَدَعُهُمْ يَتَجَاوَزُونَ الحَدَّ فِي الكُفْرِ وَالعِصْيَانِ، وَيَتَرَدَّدُونَ حَيَارَى مُتَخَبِّطِينَ فِيمَا سَمِعُوا مِنَ الآيَاتِ وَهُمْ يُحَدِّثُونَ أَنْفُسَهُمْ: أَهَذَا هُوَ الحَقُّ المُبِينُ، أَمْ إِنَّهُ سِحْرٌ خَادِعٌ؟ وتَخصيصُ الأفئدَةِ والأبصارِ دُونَ غيرِها مِنَ الجَوارِحِ؛ لأنَّ القَلْبَ والبَصَرَ لا يَقَعُ إلاَّ على ما يَشْهَدُ بِه على وَحْدانِيَّةِ اللهِ وأُلوهِيَّتِهِ. والتَقليبُ هو تحويلُ الشيءِ وتحريكُه عَنْ وَجْهِهِ إلى وَجْهٍ آخَرَ.
قولُهُ: {ونَذَرُهم في طغيانهم يعمهون} ونَذَرُهم: أيْ نُمْهِلُهم ولا نُعاقِبُهم في الدُنيا، فعلى هَذا بَعضُ الآياتِ في الآخِرَةِ وبَعْضُها في الدنيا، و"في طغيانهم يَعْمَهون" أيْ يَتَحَيَّرونَ، يُقالُ عَمِهَ في طُغيانِهِ عَمَهاً فهوَ عَمِهٌ وأَعْمَهٌ، مِنْ بابِ تَعِبَ، إذا تَرَدَّدَ مُتَحَيِّراً، وهو مأخوذٌ مِنْ قولِهِمْ أَرْضٌ عَمْهاءُ إذا لَمْ يَكُنْ فيها أَماراتٌ تَدُلُّ على النَّجاةِ. فإنَّ الجاحِدَ لَا يَكونُ مُسْتَقِرّاً على قَرارٍ، ولا على نَظَرٍ، بَلْ هُو مُضطّرِبُ النَفْسِ والفُؤادِ والنَظَرِ، يَنْظُرُ إلى التي تَلوحُ أَماراتُه، فَتُبْهِرُهُ بَيِّناتُه، وهو لَجوجٌ في جُحودِهِ، فيكونُ مُتَحَيِّراً بيْنَ جُحودٍ مُسْتَكِنٍّ قارٍّ، ونُورٍ تَبْدو آياتُه، وهذا قَريبٌ مِنْ مَعْنَى "وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ" قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُما: لمَّا جَحَدَ المُشْركون ما أَنْزَلَ اللهُ، لَم يُثَبِّتْ قُلوبَهم على شيءٍ، ورُدَّتْ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ.
قولُهُ تَعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} ونُقَلِّب: هذِه الجملةُ وما عُطِفَ عليها مِنْ قَولِهِ: "وَيذَرُهم" عطفٌ على "يُؤْمنون" داخلٌ في حُكْمِ "وما يُشْعركم"، بمَعنى: وما يُشْعِرُكم أَنَّهم لا يُؤمنون، وما يُشْعركم أنَّا نقلِّب أَفئدَتَهم وأَبْصارَهم، وما يُشْعرُكم أَنَّا نَذَرَهم، وهذا يُساعدُهُ ما جاءَ في التَفْسيرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ وابْنِ زَيْدٍ. ويُمكنُ أَنْ تَكونَ اسْتِئنافَ إخْبارٍ، والأَوّلُ أَظهرُ. و"أفْئِدتهم" الأفئدةُ جمعُ فؤادٍ وهو القَلْبُ، ويُطلَقُ على العَقْلِ. والفؤادُ كالقلبِ لكنْ يُقالُ لَهُ فؤادٌ إذا اعتُبِرَ بِهِ مَعْنَى التَّفَؤُّدِ أيْ التَوَقُّد، يُقالُ: فَأَدْتُ اللحمَ: شَوَيْتُه، ومِنْهُ لَحْمٌ فَئيدٌ، أيْ مَشْويٌّ، وظاهرُ هذا أَنَّ الفُؤادَ غيرُ القَلْبِ، ويقال إنَّ الفؤادَ مقرُّهُ في مؤخَّرةِ المُخِّ من الرأس، ويُقالُ لَهُ فُؤادٌ بالواوِ الصَريحةِ، وهي بَدَلٌ مِنَ الهَمْزَةِ لأنَّهُ تَخفيفٌ قِياسِيٌّ وبِهِ يَقْرأ وَرْشٌ فيهِ وفي نَظائرِهِ، وصْلاً ووَقْفاً، وحمزةُ وقفاً، ويُجْمع على أَفئدةٍ، وهو جَمْعٌ مُنْقاسٌ نحو غُرابٌ وأَغْرِبة، ويَجوزُ أَفْيدةٌ بياءٍ بعدَ الهَمْزَةِ، وقرأَ بِها هِشامٌ في سورةِ إبراهيمِ.
قولُهُ: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ} الكافُ في مَحَلِّ نَصْبٍ نَعْتاً لِمَصدرٍ مَحذوفٍ و"ما" مَصدريَّةٌ، والتقديرُ: كما قالَ أَبو البَقاءِ تَقليباً كَكُفْرِهِم عُقوبَةً مُساويَةً لِمَعْصِيَتِهم، وقَدَّره الحُوفيُّ بِـ "لا يُؤْمِنون بِهِ إيماناً ثابتاً كما لم يُؤمِنوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ". وقيل: الكافُ هُنا للتَعْليلِ، أي: نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهم وأَبْصارَهم لِعَدَمِ إيمانِهمْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وقيل: في الكلامِ حَذْفٌ تَقديرُه: فلا يُؤمنون بِهِ ثانيَ مَرَّةٍ كما لم يُؤمِنوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وقال بعضُ المُفسِّرين: الكافُ هُنا مَعناها المُجازاةُ، أيْ: لمَّا لم يُؤمِنوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ نُجازيهم بَأَنْ نُقَلِّبَ أَفئدتَهم عن الهُدى ونَطْبَعَ على قلوبهم، فكأنَّه قيلَ: ونحن نُقلِّبُ أفئدتَهم جَزاءً لِما لم يُؤمنوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وهو معنى التَعليلِ الذي ذَكرناهُ، والهاءُ في "بِهِ" تَعودُ على اللهِ تعالى، أوْ على رَسولِهِ أَوْ على القُرآنِ، أَوْ على القَلْبِ المَدْلولِ عَلَيْهِ بالفِعلِ، وهو أَبْعَدُها، و"أَوَّلَ مَرَّةٍ" نَصْبٌ على ظَرْفِ الزَمانِ.
وقَرَأَ إبْراهيمُ النُخُعِيُّ "ويُقَلِّبُ ويَذَرُهم" بالياءِ، والفاعلُ ضميرُ الباري تعالى. وقَرأ الأَعمَشُ: "وتُقَلَّبُ أفئدتُهم وأَبْصارُهم" على البِناءِ للمَفْعولِ وَرَفْعِ ما بَعدَه على قيامِهِ مَقامَ الفاعِلِ، كذا رواها الزَمَخْشَرِيُّ عنه، والمَشْهورُ بِهذه القراءةِ إنَّما هو النُخَعِيُّ أَيْضاً، ورُويَ عَنْهُ "ويذرهم" بياءِ الغَيْبَةِ كما تَقَدَّمَ وسُكونِ الراءِ. وخَرَّجَ أَبو البَقاءِ هذا التَسْكينَ على وجْهَيْنِ: أَحَدُهُما: التَسكينُ لِتَوالي الحَرَكاتِ. والثاني: أَنَّهُ مَجْزومٌ عَطْفاً على "يؤمنوا"، والمَعنى: جَزاءً على كُفْرِهِم، وأَنّهُ لمْ يَذَرْهُم في طُغْيانِهم بَلْ بَيَّنَ لهم". وهذا الثاني ليس بظاهر. و"يَعْمَهون" في مَحَلِّ حالٍ أَوْ مَفْعولٍ ثانٍ؛ لأنَّ التَرْكَ بِمَعنى التَصييرِ.
تَمَّ الجِزْءُ السابعُ بعونِ اللهِ وتوفيقه، فلَه المِنَّةُ والحمدُ.
ويَليهِ الجِزْءُ الثامِنُ إنْ شاءَ اللهُ.