الموسوعة القرآنية فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ قراءات ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة
اختيار وتأليف :
الشاعر: عبد القادر الأسود
الجزء الثامن ـ المجلد الثامن
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ.
(111)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} تَفصيلٌ لِما أَجْمَلَ في الآيةِ السابِقَةِ بِقولِهِ: {وما يُشْعِرُكم أَنَّها إذا جاءتْ لا يُؤمِنون} سُورة الأنعام، الآية: 9. أي ولو أَنَّنا أَجَبْنا سُؤالَ هؤلاءِ، الذين أَقْسَموا باللهِ جَهْدَ أَيْمانِهم {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} فَنَزَّلْنا عليهِمُ الملائكةَ، فَرَأَوْهُمْ عِيَانًا، وآتيْناهُم كلَّ ما طَلبوهُ، كما اقترحوه بقولِهم: {لولا أُنْزِلَ عليْهِ مَلَكٌ} سورة الأنعام، الآية: 8. لا يُؤمنون، فهَؤُلاَءِ الذِينَ أَقْسَمُوا أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لِيُؤْمِنُنَّ بِهَا، كَاذِبُونَ فِيمَا يَقُولُونَ.
وقولُهُ: {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى} الذين يَعرِفونَهم بعدَ إِحْيَائِنَا كلَّ المَوتى، فكَلَّموهم، وشَهِدوا لَكَ بالرسالةِ، وشَهِدوا بِحَقيقةِ الإيمانِ حَسْبَما اقْتَرحوهُ بقولِهم: {فَأْتُواْ بِآبَائِنَا} الدخان: 36. لَرَجَعوا بِوَعْدِهم، ونَقَضوا عَهْدَهم وتَعَلَّلوا بِحُجَجٍ واهِيَةٍ، وما آمَنوا بِكَ ولا صَدَّقوكَ.
وكانوا طلبوا مِنْه ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ إحياءَ اثنيْنِ مِنْ مَوتاهم، هُما قُصَيُّ بْنُ كلابٍ وجَدْعان بْنُ عَمْرٍو وكانا كَبيريْنِ مِنْهم وصَدُوقيْنِ، حيثُ قالوا: لَئِنْ أحْيَيْتَهُما فَشَهِدا لَكَ بالنُبُوَّةِ لَشَهِدْنا نَحْنُ أَيْضاً.
وقولُهُ: {وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانوا لِيُؤْمِنوا} أي ولو أنَّنا جَمَعْنا لهم كلَّ ما سَأَلُوهُ ومما لم يسألوهُ مِنَ الْآيَاتِ، وسُقْنا إليهم كلَّ أَصنافِ المَخْلوقاتِ، مِنْ سِباعٍ وطُيورٍ، وغير ذلك، وشَهِدَ لَكَ بالرِسالةِ جَميعُ هذِهِ المَخلوقاتِ، لَما آمَنَ لك هؤلاءِ المُشركون. ومعنى "قُبُلًا" أي مُقَابَلَةً، أو مُعَايَنَةً، أو ناحيَةً. و"قُبُلاً" جَمْعُ قَبِيلٍ. وَفِي كَفَالَةِ مَا لا يَعْقِلُ آيَةٌ عَظِيمَةٌ لَهُمْ. ويَكُونُ فِيهِ اجْتِمَاعُ الْأَجْنَاسِ الَّذِي لَيْسَ بِمَعْهُودٍ.
قولُهُ: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} هذا الِاسْتِثْنَاءُ لِأَهْلِ السَّعَادَةِ الَّذِينَ سَبَقَ لَهُمْ الْإِيمَانُ فِي عِلْمِ اللهِ. وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قولُهُ: {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} أَيْ يَجْهَلُونَ الْحَقَّ وَقِيلَ: يَجْهَلُونَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اقْتِرَاحُ الْآيَاتِ بَعْدَ أَنْ رَأَوْا آيَةً واحدةً كافيةً شافيةً.
قولُه تَعالى: {قُبُلاً}: قرأ نافع وابن عامر "قِبَلاً" هُنا وفي الكَهْفِ بِكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الباءِ، وفيها وجهان:
الأوَّلُ: أَنَّها بِمَعْنى "مُقَابلةً" أي: معايَنَةً ومُشَاهَدَةً، وعلى هذا فهوَ مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ منصوبٌ، يُقالُ: "لَقِيتُه قِبَلاً" أي عِياناً. قالَ الصحابيُّ الجليلُ أَبو ذَرٍّ الغفاريُّ ـ رضيَ اللهُ عنه: قلتُ للنَبِيِّ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ ـ أَنَبِيَّاً كان آدَمُ؟ فقالَ: ((نَعَمْ كانَ نَبِيّاً، كلَّمَهُ اللهُ قِبَلاً)). وبِذَلِكَ فَسَّرَها ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتادَةُ وابْنُ زَيْدٍ.
الثاني: أَنَّها بِمَعنى ناحيةَ وَجْهِهِ، قالَهُ المُبَرِّدُ وجَماعةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وانْتِصابُه حِينَئِذٍ على الظَرْفِ كقولِهم: لي قِبَلَ فلان دَيْنٌ، وما قِبَلَك حَقٌّ. ويُقالُ: لَقِيْتُ فُلاناً قِبَلاً ومُقابلةً وقُبُلاً وقُبَلاً وقَبْلِيَّاً وقبيلاً، كلُّهُ بِمَعْنًى واحدٍ.
وقرأ الكوفِيّون هُنا وفي الكَهْفِ بِضَمِّها، وأَبو عَمْرٍو وابْنُ كَثيرٍ بِضَمِّها هُنا وكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الباءِ في الكَهْفِ، وقَرَأَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ وأَبو حَيْوَةَ وأبو رَجاء بالضَمِّ والسُكونِ. وقرَأَ أُبَيٌّ والأَعْمَشُ "قبيلاً" بياءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ تَحت بعد باء مُوَحَّدَةٍ مَكْسورَةٍ. وقرأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ "قَبْلاً" بِفَتْحِ القافِ وسُكونِ الباءِ. وفي قراءتهم أَوْجُه، أَحَدُها: أَنْ يَكونَ "قُبُلاً" جمعَ قَبيلٍ بمَعْنى كَفيلٍ كرَغيفٍ ورُغُفٍ وقَضيبٍ وقُضُبٍ. ويكون انْتِصابُه على أنّه حالٌ، قالَ الفرَّاءُ والزَجّاجُ: جَمْعُ قَبيلٍ بمَعْنى كَفيلٍ أَيْ: كَفيلاً بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ ـ عليْهِ الصلاةُ والسَلامُ ـ ويُقالُ: قَبَلْتُ الرَّجُلَ أَقبَلُهُ قَبالَةً بِفَتْحِ الباءِ في الماضي والقافِ في المَصْدَرْ، أيْ: تَكَفَّلْتُ بِهِ، والقَبيلُ والكَفيلُ والزَّعيمُ والأَذِينُ والضَمينُ والحَمِيلُ بِمَعنىً واحدٍ، وإنَّما سُمِّيتِ الكَفالَةُ قَبالَةً لأنَّها أَوْكَدُ تَقَبُّلٍ، وباعْتبارِ مَعْنى الكَفالَةِ سُمِّيَ العَهْدُ المَكْتوبُ قَبالَةً. وقالَ الفَرَّاءُ في سُورَةِ الأَنْعامِ: "قُبُلاً" جَمْعُ "قَبيلٍ" وهو الكَفيلُ. قالَ: وإنَّما اخْتَرْتُ هُنا أَنْ يَكونَ القُبُلُ في معنى الكَفالَةِ لِقَوْلِهم {أَوْ تَأْتِيَ باللهِ والمَلائِكةِ قَبِيلاً} الإِسراء: 92. يَضْمَنُون ذلك.
الثاني: أَنْ يَكونَ جَمْعُ قَبيلٍ بمَعنى جَماعَةً جَماعةً أوْ صِنْفاً صِنْفاً، والمعنى: وحَشَرْنا عَليهم كُلَّ شيءٍ فَوْجاً فوجاً ونوعاً نوعاً، مِنْ سائرِ المَخلوقات.
الثالثُ: أَنْ يَكونَ "قُبْلاً" بِمَعنى قِبَلاً كالقِراءَةِ الأُولى في أَحَدِ وجْهَيْها وهو المُواجَهَةُ أَيْ: مُواجَهَةً ومُعايَنَةً، ومنه "آتِيكَ قُبُلاً لا دُبُراً" أيْ: آتيكَ مِنْ قِبَلِ وجْهِكَ، قال تعالى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ} يوسف: 26. وقُرِئ "لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ" أي: لاسْتِقْبالِها. وقالَ الفَرَّاءُ: وقدْ يَكونُ قُبُلاً: مِنْ قِبَلَ وُجوهِهِم.